تنقيح قانون الصلح الجزائي (1): للرئيس وحده مراجعة نصوصه


2024-02-10    |   

تنقيح قانون الصلح الجزائي (1): للرئيس وحده مراجعة نصوصه
رسم عثمان سلمي

في جلستها العامة ليوم 17-01-2024، صادقت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب التونسي على مشروع قانون بتنقيح عدد من فصول المرسوم المتعلق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته  (2022) والذي كانت رئاسة الجمهورية تقدّمت به بتاريخ 26-12-2023 مع طلب استعجال النظر فيه. يوم فقط بعد ذلك[1]، يختم رئيس الجمهورية القانون الجديد وينشره بالجريدة الرسمية[2]. ويبدو هذا التنقيح هاما لأنه يأتي بمثابة اعتراف بفشل مؤسسة كانت من أعمدة البرنامج الاقتصادي فيما يسمى الجمهورية الجديدة.

اعتراف رسمي غير مسبوق باحتياج “فكرة” الرئيس للمراجعة 

اختار رئيس الجمهورية الاحتفالية عدد 66 بعيد الاستقلال [3] ليختم في موكب مشبع بالرمزيات [4] ثلاثة مراسيم اعتبرت عماد مشروعه الاقتصادي منها مرسوم الصّلح الجزائي[5]. وقد تحدّث عنها حينها، فقال أنّها “نصوص تاريخية بمقاييس العدل وتطبيق القانون والثورة والشعارات التي رفعها الشعب التونسي، وهي تعبّر عن إرادة الشعب التونسيّ وتندرج في إطار بناء جمهورية جديدة وتونس جديدة تقوم على الحرية والعدل”. بعدئذ، وبمناسبة تنصيب أعضاء لجنة الصلح بتاريخ 07-12-2022، تحدّث الرئيس سعيّد عن فرصة لتوفير موارد ضخمة للدولة قدرها ثلاثة عشرة ألف وخمسمائة مليار دينار تونسي هي جملة الأموال التي نُهبت قبل الثورة.

في بحر السنة الأولى من عملها وبمناسبة زياراته المتكرّرة إلى مقرّ لجنة الصلح، اعترف رئيس الجمهورية بخيبة أمله حيال مردودها. وقد ردّ فشلها في إنجاز ما يطلب منها في مرحلة أولى لبيروقراطيّة إداريّة عطّلت المشروع قبل أن ينتهي لأن يحمّل أعضاءها المسؤولية عن ذلك ويرتّب على ذلك عزل رئيسها وإحدى أعضائها. وقد أسدى تبعا لذلك تعليماته لمن بقي مباشرا بضرورة إبداء صرامةٍ أكبر في التّعاطي مع ما يتعهّدون به من مطالب ناهيا إياهم عن الانغماس في الإجراءات الفنية وتأويل النصوص القانونية والاختبارات التي تضيّع الوقت [6]. أخيرا، وبعدما يقارب السنة وتسعة أشهر من عُمرِ مرسومه، وصل الرئيس إلى المرحلة الثالثة التي تمثلت في الاعتراف بحاجة النص للتعديل.

تختلف هذه الخطوة في مضمونها عما سبقها. ففيما برّر الرئيس تنقيح المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المحدث للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء بموجب المرسوم عدد 35 لذات السنة بتقصير هذا المجلس في تأديب القضاة وتحديدا إعفائهم، برّر تنقيح أحكام مرسوم الصلح الجزائي في هذه المرة بإخفاق المرسوم نفسه في تحقيق ما كان ينتظر منه. فخلال مدّة عملها [7]، أبرمت لجنة الصلح الجزائي 14 عقد صلح تأتّى منها 27 مليون دينارتونسي[9] وهو مبلغ ضئيل بحساب موازنة الدولة وقد لا يعادل ما صرف بشكل مباشر وغير مباشر في سبيل تحصيلها. هذا طبعا زيادة على كونه دون الموعود به بكثير. وبذلك، يعدّ القانون الجديد بما هو إصلاح للمرسوم المؤسس للصلح الجزائي وصفة علاج السلطة لفكرتها والتي تشترط ألا يطال التقييم فكرة الصلح الجزائي.

إلا أن اعتراف السلطة العليا بحاجة فكرتها لا يعني قط فتح باب مناقشتها وانتقادها من قبل سواها من أصحاب القرار. وهذا ما تأكد في جلسة مناقشة مشروع القانون في المجلس النيابي. فإذ تقدّم 8 نواب بمقترحات تعديلية مختلفة (توفير ضمانات لمن ينخرطون في إجراءات الصلح أو استنباط آليات توزيع جديدة للمداخيل التي ستتحقّق منه)، سارعتْ وزيرة العدل إلى التحذير من إدخال تعديلات تمسّ بالهدف الذي رسمه الرئيس للصلح الجزائي أي ردّ المال المنهوب للمُفقرين دون سواهم. كما أكدت حتمية اعتماد معايير توزيع محددة تحقق وحدها الغاية منه. ودعتهم للعدول عن أيّ تفكير في إجراءات تؤدي لإطالة المدة التي يستغرقها المسار.

وكان يمكن أن يوفّر ذلك الخطاب وقبله الاعتراف بفشل الصلح مناسبة ليطرح النواب السؤال حول الحاجة للمضي قدما فيه. خلافا لذلك، يكشف رصد تدخلاتهم على مستوى اللجنة الفنية أو في الجلسة العامّة أن تقييم الصلح من خلال طرح السؤال حول جدواه غاب تماما عن خطابهم وأنهم أجمعوا على دعمه وأكدوا تعويلهم عليه في تحقيق ما وعد الرئيس به من رفاهٍ قادم. ووصل الأمر بهم إلى أنهم، وعندما عاتبتهم المسؤولة الحكومية على مقترحاتهم التي ظنّوا أنها تطوّر المشروع، تراجعوا عن بعضها من دون نقاش وأسقطوا الأخرى بأغلبية كبيرة.

أكد هذا التمشي في العمل النيابي، ما كان معلوما سابقا من غياب فكرة المعارضة في المؤسسة التشريعية [10]. وبيّن أنّ المطلوب من المشرّعين دراسة مشاريع السلطة وفق تصورها والذي كان فيما تعلق بالمشروع الذي تعهدوا به من اشتراطاته ألا يطرح المشروع للنقاش وألا تقيّم التجربة وأن يُقبل بوصفة إصلاحًا للفكرة من الداخل من خلال إعادة صياغة آليات الصلح الجزائي. وهذا ما سأتوسّع به أدناه.

إصلاح “الأخطاء المادية” التي تسرّبت…

في شرح أسباب التقدّم بمشروع التنقيح ذُكِر أن من ضمنها “إصلاح بعض الأخطاء المادية التي تسرّبت إلى عدد من الفصول”. إلا أنه يتّضح من التدقيق في مضمون التنقيح الذي شمل 14 فصلا أنّه عمد على عكس ما ورد في أسبابه المعلنة إلى تعديل الاختيارات، حيث أن إصلاح الأخطاء المادية ينحصر في الفصل 28. هذا علما أن تعديل الاختيارات لم يتناول الإجراءات أو الأحكام المتعلقة بالصلح وإنما تناول هيكلية مؤسساته وشروط عملها.

ففي حين نص الفصل 8 من المرسوم في نصه الحالي على أن لجنة الصلح الجزائي تتكوّن من 8 أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية، أحدهم رئيس دائرة تعقيبية في محكمة المحاسبات، تبيّن أنّ القانون المنظّم لهذه المحكمة لم يٌسند لأيّ من قضاتها صفة رئيس دائرة تعقيبية. وفيما كان الحلّ الذي اعتُمِد حينها للخروج من المأزق تعيين قاضٍ برتبة رئيس دائرة استئنافية مع ملاحظة أنه مُنَظَّر برئيس دائرة تعقيبيّة، رمى مشروع التنقيح كما اقترحته رئاسة الجمهورية إلى تجاوز الترقيع بتعديل الشروط الواجبة في القاضي المالي والتنصيص على ضرورة أن يكون رئيس دائرة استئنافية. إلا أنه عند نظره على مستوى لجنة التشريع تفطن أعضاؤها إلى أنّ عدد رؤساء الدوائر الاستئنافية بمحكمة المحاسبات اثنان فقط وهما وحدهما من يخول لهما قانونها رئاسة جلساتها الحكمية. ونبه بعضهم إلى أنه متى تم تعيين أحدهما باللجنة ليتفرغ للعمل بها فذاك سيؤدي ضرورة لتعطل العمل القضائي بالمحكمة، علاوة على كون قلة عدد من يتوفر فيه شرط الترشح قد يؤول إلى الفراغ. ولاحظوا أن ذات الأمر يمكن سحبه على قضاة المحكمة الإدارية. وقد أقنع موقفهم الجهة المبادرة وأثمر تعديلا اشترط في القاضيين المالي والإداري أقدمية في القضاء لا تقلّ عن 15 عاما.

من جهة ثانية، يضبط الفصل 08 من المرسوم في صيغته الأصلية تركيبة لجنة الصلح وآلية تعيين أعضائها ومدة عهدتهم فينص على كونهم يعينون “بأمر رئاسي لمدة ستة (6) أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة”. وتنزيلا لهذا الفصل، صدر الأمر عدد 822 بتاريخ 11-11-2022 الخاص بتعيين أعضاء اللجنة والأمر عدد 336 بتاريخ 12-05-2023 الذي يمدد عمل من لم يشمله إنهاء المهام منهم. غير أنه وبعد نهاية التمديد لم يعين أعضاء جدد وتعطل بالتالي عملها. وفي معالجة لهذا الإشكال، حذف التنقيح كل تحديد لمدة عمل أعضاء اللجنة تاركا ضبط مدة عمل اللجنة لأمر رئاسي.

ويتبين من هذا أن رئيس الجمهورية ذهب في اختياره الأول، إلى مماثلة لجنته باللجان والهيئات القارّة أي الدائمة فحاول أن يفرض التداول في عضويتها وهو ما يبدو أنه وجد صعوبة في تنفيذه لسبب يبقى غير معلوم ولكنه أدى فعليّا لعطالتها. أما في خياره الجديد، فقد يكون تنبّه لكون لجنته وبالنظر لكونها تختصّ بنظر ملفات محددة في موضوعها وتتعلق بفترة زمنية مضبوطة ولها اختصاص استثنائي فيجب أن تكون المدة التي تحتاج إليها لإنجاز عملها هي المحددة.

وتذكّر الأخطاء التي تمّ إصلاحها، بما حصل قبيل الاستفتاء على دستور 2022 من مراجعة جذرية لنصه كان من أسبابها ضعف بنائه لغويا واصطلاحيا. ويبدو تكرار الحاجة لمثل هذا الإصلاح في تنقيح الصلح الجزائي مما يفرض السؤال عن صناعة التشريع بعد 25 جويلية 2021 وما فيها من ضعف شكلي ولغوي وعدم إلمام بخصائص المؤسسات القائمة والنصوص التشريعية. وقد يكون من الأجوبة الممكنة لهذا السؤال احتكار رئيس الجمهورية لصلاحية صياغة التشريعات ذات الأهمية وانصباب الاهتمام فيها على خلق جديد لأفكار جديدة مُنتهاها أن يكون القصر الرئاسي جهة القرار. وهو ما لم يخرج عنه التنقيح متى أسند للرئيس صلاحية تحديد مدة عمل اللجنة بأمر خلافا لما نصت عليه التشريعات المنشئة للجان سابقة مماثلة حيث كان المشرّع هو الذي يحدّد مدة عملها عملا بمبدأ توازي الصيغ والإجراءات. وفي هذا قضم لصلاحية المشرع لفائدة رئيس الجمهورية علما أن هذا التوجه نستشفه في التنقيحات الأخرى الحاصلة على النصّ.


[1]  لم يتم  تركيز المحكمة الدستورية بما يكون معه الطعن بعدم الدستورية إجراء غير ممكن ، وبالتالي عدم انتظار نهاية أجل الطعن بالدستورية مبرر ،

[2] ينص الفصل 103 من دستور 2022 على كون رئيس الجمهورية يختم القوانين في أجل أقصاه خمسة عشر يوما من تاريخ بلوغها إليه  وتعلق آجال النشر في صورة الطعن بالدستورية  فيما يحدد الفصل 127 منه  آجال الطعن ب سبعة أيام من تاريخ المصادقة على المشروع.

 [3]  20 مارس 2022

[4]  اختار سعيد أن يختم المراسيم الثلاثة على ذات الطاولة التي ختم عليها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة قانون الجلاء الزراعي الذي تم بموجبه تأميم الأراضي الفلاحية التي كان يمتلكها المعمرون وقد اعتبر ذلك تحريرا للأراضي الفلاحية والاقتصاد الوطني.

[5]  ومعه مرسوم الشركات الأهلية ومرسوم محاربة المضاربة غير المشروعة.

[6]  زيارة رئيس الجمهورية لمقر اللجنة بتاريخ 08-09-2023.

[7] معطى كشف عنه بجلسة نقاش المشروع النائب محمد علي.

 [8]  9 مليون دولار.

[9]  ما يعادل 9 مليون دولار أمريكي تقريبا.

[10]  بمناسبة نقاش النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب أسقطت الجلسة العامة الفصل 22 من مشروعه المتعلق بتعريف المعارضة وقد كان ذلك استنادا لفكرة دافع عنها عدد من النواب منهم رئيس المجلس الحالي إبراهيم بودربالة تقول بكون “المعارضة لأجل المعارضة مرفوضة والمساندة لأجل المساندة كذلك مرفوضة وسنقوم بدورنا الوطني وفق ما تمليه المصلحة العليا للوطن”  تصريح لاكسبريس اف ام بتاريخ 01-03-2023. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني