تطوير القاهرة: نحو استخدام غير مستدام للمدينة؟


2022-04-18    |   

تطوير القاهرة: نحو استخدام غير مستدام للمدينة؟
العاصمة من قمة أعلى مبنى في المدينة وهو برج القاهرة البالغ ارتفاعه 187 مترا. التقطت الصورة في سبتمبر 2021.

عرضنا، في مقالة سابقة بعنوان “تجاوز التاريخ كنموذج لتطوير القاهرة“، نموذج المحو المستخدم في التطوير الرسمي لمدينة القاهرة، بوجهتي النظر حول أسبابه والوعي به والمسؤولية عنه. منحنا المحو طريقة أوضح لفهم ما يجري في حاضر المدينة، وأسس مُقاربة يمكن الاعتماد عليها لاستشراف مستقبل طبقاتها التاريخية التي يتوقع متخصّصون أن تؤدّي إزالة أجزاء متعددة منها إلى فقدان جزء من تاريخ المدينة وتراثها. ولمّا كانت طبقات المدينة التي نتناولها، لا تنحصر في آثار أو مبان قديمة فقط، إنّما تشمل كلّ مكوّن له فاعلية وظيفية فيها من أبنية وفراغات وبشر، فإنّ أجيال المدينة على تنوّع أحيائها واختلاف أعمار سُكانها تُشكل مكوّناً أساسياً للقاهرة، حيث تمتزج المكوّنات المنتجة لتركيبة المدينة العمرانية.           

نستكمل في المقالة الحالية النقاش الذي بدأناه سابقاً، للتساؤل عن تأثير نموذج المحو على التركيبة العمرانية للمدينة الآخذة في التحوّل، وانعكاسه على قاطنيها. كيف سيعيد تطوير القاهرة عبر محو أجزاء منها فرص استخدام المدينة، ولمن ستؤول قابلية النفاذ إلى هذه الاستخدامات، ولماذا ستغادر شرائح سكانية مختلفة منازلها، وإلى أين؟

إحلال متعدّد الأوجه

خلال السنوات الأخيرة، يمكن ملاحظة الاتجاه نحو تغيير معالم مدينة القاهرة، مع طموح تحويلها إلى مدينة عالمية على غرار دبي لجذب الاستثمارات الأجنبية. بالتالي، يتمّ إعادة تصميم المدينة بطريقة لا تناسب الطبقات الأدنى حيث يحصر قدرة البقاء على من يستطيع مواكبة وتحمّل أعباء المدينة المستجدّة، حسب المعماري أحمد برهام.

ووفقاً لصاحب كتاب “الحداثة الثورية: العمارة وسياسات التغيير في مصر”، محمد الشاهد عبر مدونته المتخصصة في شؤون العمران بنى نظام مبارك سياسته العمرانية الهادفة إلى نقل فقراء الحضر من وادي النيل إلى الصحراء، على سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اعتمدها سلفه أنور السادات. كان وسط القاهرة في صميم مشروع السادات الليبرالي الجديد وقتها؛ فانطلاقاً من المواءمة الاقتصادية لمصر مع الرأسمالية العالمية، جرى وضع تصوّر جديد لوسط المدينة يكون فيه منطقة أعمال تجارية خالية من السكان الفقراء والاستخدامات المرتبطة بهم، لأنّ وجود الفقراء والاستخدامات المرتبطة بهم لن تخدم المشروع الليبرالي بالطبع.  

بالرغم من تجذّر مبدأ عولمة المدينة والاتجاه الليبرالي للتعامل معها منذ عقود، إلّا أنّ هناك ما يميّز التغييرات العمرانية الحالية في التعامل مع القاهرة. بحسب باحثة الأنثروبولوجيا أمنية خليل “تمددت التغييرات العمرانية لتشمل كل ركن وحي في القاهرة. ولم تكتفِ الأجندة العمرانية بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت خطة التنمية المستدامة لمصر 2030 على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية”. 

إنشاءات جديدة خلف صور عين الصيرة بمصر القديمة، ضمن مشاريع التطوير الحكومية الحالية. يونيو/ يوليو 2021.

الآن، تُعاد هندسة المدينة بحسب تعبير خليل، ليس فقط بما يخدم الطبقات الحاكمة والمالكة لمصادر المال، ولكن بتسليع أراضي القاهرة للتحكّم بالموارد الاقتصادية والاستثمار فيها بما يعود على هذه الطبقة بالنفع، ويُحكم سيطرتها على الأموال والدخول. تصف خليل التغييرات الحالية بالقول “الجبهةُ العمرانية أصبحت مكاناً للخسارة، خسارة الممتلكات العامة، بالإضافة إلى خسارة قيمة وجودة الخدمات اليومية، والتي لا يستطيع المواطنون/ات تحمل تكلفتها نظراً لخصخصتها”. 

من هنا يأتي التجاوز العمراني للقاهرة الذي لا يعود التعامل معها معززاً للاستدامة سواء استدامة استخدامات المدينة أو استدامة الإقامة والإبقاء على سُكانها، عن طريق الاستثمار في مشاريع تخدم وجود القاطنين بالأساس. تدعم البنية التحتية في عاصمتهم المُثقلة بالمشكلات. إلا أن ما يجري هو تجاهلها والعبور منها لعاصمة جديدة كلياً. ويقتصر النظر للعاصمة القديمة المتروكة، بصفتها “مدينة تاريخية”. وبما أنّ وصف المدينة ينسبها للماضي، فلا حاجة لما يخدم الحياة فيها كحيّز سكني وحي للمعيشة في الحاضر. يتفق برهام مع ذلك، ويتابع “صحيح، المشاريع الحالية ليست مصممة لخدمة القاهرة” بالتطبيق على مكان سكنه هو شخصياً، “يعني مثلاً الكباري الحديثة في مدينة نصر ليست مصممة لخدمتها، بل لكي يصبح من السهل العبور من خلالها إلى العاصمة الجديدة.

هناك نقطة يصفها برهام بالمهمة وهي الفئة المستهدفة من مشاريع البنية التحتية الأخيرة وهم أصحاب السيارات وأصحاب القدرات المالية العالية. وبالتالي “مشاريع البنية التحتية لا تخدمني ومن مثلي الذين لا يمتلكون سيارات، وعموم المشاة، فتحوّلت عملية عبور الشارع أو الانتقال من شارع إلى آخر “مأساة” لأن الطريق مش معمول ليّا”. كما أنّ القدرة لا تنحصر بالقدرة المالية فقط بل حتى الجسمانية والصحية أيضا. يضرب نموذج بنفسه وغيره ممن لا يملكون اللياقة البدنية والصحة الجسدية التي تتيح لهم القدرة على المشي في مدينة نصر ومصر الجديدة ونادي الجلاء لأنها توسّعت بشكل هائل، خصوصا مع عدم توفير بدائل لتيسير الحركة مثل كباري ومصاعد للمشاة  هناك من يرى أنّ المال والاستثمار في البنى التحتية يذهب للأطراف وليس المركز، ولكن وإن بدا الاستثمار في البنى التحتية موجوداً في داخلها فهو لا يخدم المدينة نفسها إنّما يخدم الوصول لمدن أخرى أو للأحياء الجديدة (الامتداد العمراني للمدينة). 

المدينة في استثمارات البنية التحتية

عددت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية الدكتورة هالة السعيد في منتصف 2021 قطاعات الاستثمار الحكومي في البنية التحتية في كلّ من: الكهرباء وشبكات الطرق واللوجيستيات والموانئ، والاتصالات والصحة والزراعة والتشييد والبناء. قدّرت الإنفاق على مشاريع البنية التحتية في مصر على مدار الأعوام السبعة الماضية بما يزيد على 1.7 تريليون جنيه مصري، أو ما قيمته 100 مليار دولار.

بالوقوف على ما تقوله الوزيرة، نجد أنّ قرابة نصف المبلغ المُشار إليه، يتّجه إلى قطاع النقل وحده، وفقاً لتقدير كتاب “الرؤية والإنجاز” عن عدد المشاريع  التي نفّذتها الدولة خلال الفترة ما بين 30 يونيو 2014 حتى 30 يونيو 2021. تُختزل مشاريع هذا القطاع في طرق وكباري لا تخدم النقل بين مناطقها، بل تسهّل خروجك من المدينة كلّها. ما زالت الحركة داخل المدينة من مدينة نصر إلى وسط البلد على سبيل المثال “مشوار صعب” بحسب برهام، ولا سيما في حالة عدم امتلاك سيارة.

أما مشاريع قطاعي التشييد والبناء والكهرباء فهي استثمارات لتغذية التمدّدات العمرانية الجديدة في اتجاه الخروج من عاصمة، وتأسيس أخرى. وحتى الإنفاق عليها يخضع للانتقاد نتيجة زيادة عدد المعروض في قطاع الإسكان على سبيل المثال، بما لا يلائم الطلب عليها، كما يوضح تقرير لـ “مرصد العمران”، وفي هذه الحالة يصبح الإنفاق عليه في حد ذاته شكل من أشكال الهدر الاقتصادي، الذي تُفيد تقارير صحافية وبحثية عن هدر مماثل في بعض مشاريع الاستثمار الزراعي باستصلاح أراضي الصحراء، مقابل غياب سياسات دعم المزارعين في المناطق المحيطة بالوادي وقراها الموجودة بالفعل.

بالنسبة لقطاعي الاتصالات والصحة، فهما نتيجة فرضتها أوضاع الوباء العالمي كوفيد 19، كما تقرّ الوزيرة نفسها “زيادة الاستثمار على قطاع الاتصالات بنسبة 300% وهو القطاع الذي       تزايد الاعتماد عليه بفعل الجائحة بسبب العمل والتعليم عن بُعد، ويضاف لذلك القطاع الصحي الذي تمت زيادة استثماراته بنسبة 200%”. بالرغم مما يوحي به تصريح الوزيرة عن زيادة الاستثمار في قطاع لا ينصبّ اهتمامه على العاصمة الجديدة كالصحة، إلّا أنّ مقارنتة ببنود أخرى في الموازنة العامّة لعام 2021، نجد أنّه يحتل المرتبة الخامسة في أولويات الإنفاق الحكومي، ورغم زيادة مخصّصاته، لكنّه ما زال لا يتجاوز نصف ما حدّده الدستور، كما تبقى هذه النسبة مخالفة للتأكيدات الحكومية، والتي وعدت بأنّها ستلتزم بالنسبة الدستورية، في قطاعات الصحة والتعليم، ولكنها لم تفعل.

وفقاً للوزيرة، فصندوق مصر السيادي “لديه صناديق فرعية تعمل في قطاعات متنوعة منها صندوق فرعي لمشروعات البنية التحتية، ويتم من خلاله الاستثمار في محطات تحلية المياه ومحطات الطاقة مع التركيز على الطاقة المتجددة، وهناك صندوق للاستثمار في التعليم والنواحي الثقافية وأبرز مشروعاته الحالية تطوير منطقة باب العزب”. سبق وأوضحنا نموذج تطوير المناطق التاريخية المعتمد على المحو، أما بخصوص مشروعات تحلية المياه والطاقة فتأتي نتيجة التهديدات التي تواجهها مصر بعد أزمة سد النهضة، وتخفيض حصة مصر من مياه النيل.

وفقاً للوزيرة يتولّى صندوق مصر السيادي مسؤولية “الترويج لأصوله في مصر مثل مجمّع التحرير وأرض القرية الكونية وأرض الحزب الوطني وهي أصول تحظى باهتمام المستثمرين”. وهذا التعريف بالإضافة إلى النظرة التحليلية على خريطة مشاريع الدولة السابق الإشارة إليها، يوضح كيف يشكل بيع أصول المدينة للمستثمرين أولوية الدولة، مقابل غياب الاستثمار لصالح المدينة كحيّز سكني ومعيشي، لا سيما وإن كان الاستثمار لصالح المدينة بالمعنى الأخير لا يتمتع بسرعة في نتيجته الاقتصادية. يحلّل الخبير بفريق عمل البرنامج العالمي للبنية التحتية بايو أويول ذلك بقوله إنّ مشاريع الاستثمار في البنية التحتية ليست عملاً تجارياً سريع الحركة، بالإضافة لكونها ذات مخاطر مرتفعة، لذا فإنّ تطوير مشاريع بنى تحتية مجدية يعدّ أمراً صعباً ومضنياً في أفضل الظروف، وتطويرها في البلدان النامية ربما يكون أشدّ صعوبة.

وهذا يتضارب مع أولويات نموذج المحو الذي يسعى لجني الأرباح بشكل عاجل وسريع، لا سيما وإن كان البديل يحتاج لضخ أموال ومن ثم تأتي الثمار بانعكاسها على قيمة وجودة حياة المدينة وسكانها لاحقاً، كما أوضحنا في المقالة السابقة. لذا يكتمل نموذج المحو باختيار الدولة لما يُسميه برهام الاستخدامات المؤقتة للمكان. 

 الاستخدامات المؤقتة تعني إقامة مؤقتة 

يستشهد برهام بمنطقة وسط البلد حيث “المعارض الفنية شكلٌ للاستخدامات المؤقتة، التي لا تسمح بوجود قاطنين دائمي الارتباط بالمدينة”. يرد على سؤال: إلى أي مدى هذا التغيير والإحلال مُرغوب فيه رسمياً وممتد إلى أين، بالتطبيق على معرض آرت دي إيجبت وهو معرض فني ضخم في كافة أنحاء وسط البلد، يقام بالتعاون مع وزارة الثقافة. يتماشى هذا النوع من الاستخدام مع محاولة خلق نموذج معاصر ممزوج بجزء تاريخي، هذا التغيير فيه إعادة استخدام لمنطقة وسط البلد، لكنه لا يحدث ولا ينطبق على مناطق أخرى مثل مدينة نصر ومصر الجديدة والتي تُعتمد فيها استخدامات أخرى للإحلال والتغيير، تميل أكثر نحو الكافيهات والمطاعم ذات طبيعة استثمارية غير صالحة لفئات الدخل المنخفض. وبالتالي نموذج الإحلال في كل منطقة من القاهرة يختلف ويتنوّع الميول والمجالات بين فني وتجاري وبناء عليه يجذب فئات مختلفة ولكنه يعتمد في النهاية على فكرة الاستهلاك مرتفع التكلفة.

بحسب الإحصاءات الحكومية فإنّ قرابة ثلث الشعب المصري فقراء، ممّن ليس لديهم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية للفرد/للأسرة. يعلّق برهام بأسف “خلاص دول هيمشوا”. أما عن المستثمرين وتوقع كونهم جزء من سكان المدينة، فلا يعتبرهم شريحة سكانية، لأنهم ليسوا وحدة واحدة من ناحية، ومن ناحية أخرى، الهدف من نشاطاتهم ومشاريعهم داخل المدينة هو إيجاد من يستهلكها ويستخدمها وبالتالي هؤلاء المستهلكين هم المتوقع أن يكونوا سكان القاهرة في السنين المقبلة ومن الصعب حصرهم الآن. والتنبؤ بأعدادهم. فالأمور ليست محددة، وأهم سبب في ذلك هو أنّ الإقامة في نموذج المحو قابلة للتغيير أكثر منها للثبات. وعليه يمكن القول إنّه على الأغلب “كلّه هيمشي، وفي ناس هتخرج وهترجع، وناس هتمشي بس مش هتقدر ترجع، لأن مش هيبقى في حاجة لهم يعملوها جوا المدينة في صورتها الجديدة”.

صحيح أنّ السمة الأساسية هي القدرة المالية ولكن هذه القدرة لا يمكن حصرها في فئة بعينها، فمن بين الراحلين من المدينة، أغنياء ومتوسطي الدخل للإقامة في المجتمعات المُشيدة على أطراف المدينة أيضاً. وفي الجانب الآخر ربّما يعيش في المركز أشخاص لا يملكون ثراء استهلاك الاستخدامات المؤقتة. يقيس برهام على فئة الفنانين “بالعكس ممكن تسكنها فئات نعتقد فيها عدم القدرة لكن نجدها من السكان، مثل الفنانين: رسامين، صناع أفلام، وغيرهم”. هؤلاء ليسوا من بين القادرين مالياً على مواكبة استخدامات المدينة بصورة مستمرة تجعلهم قاطنين، لكنهم سيكونون محفّزين في عملية التحوّل العمراني والتغيير في طبقات سكان القاهرة في السنوات المقبلة، وهذا بشكل عام تأثير متكرّر للأنشطة الفنية والمعارض التي تشكّل جزءاً من التحوّل الطبقي والعمراني في عدد من المدن حول العالم.

يشكّل وجود الفنانين نموذجاً لفئات أخرى لن يكون وجودها دائماً، لأنّ مداخيلهم تعتمد على المنح، أي لا تتمتع بصفة الثبات والاستقرار المالي اللازم لبقائهم، وبالتالي ستجذب أنشطة طبقة ما، فئات من طبقات أخرى للتواجد بالمدينة. لكن هذا لا يعني تركيز الاستخدامات المؤقتة في المدينة في المركز فقط، والتي يتجه بعض منها نحو الأطراف حيث الامتدادات الجديدة. يعلل برهام ذلك بالقول: “يعني الجاليري (صالة لعرض وبيع منتجات فنية) الموجود في وسط البلد، مهتم يفتح له فرع في التجمّع، لأنّ مستهلكي المنتجات بتاعته جزء منهم موجودين في كمبوندات التجمع أو غيرها في المدن الجديدة من أصحاب القدرة المالية العالية”. 

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الانتقال وترك القاهرة وإن حدث مع كل الطبقات ولم ينحصر فيمن ليس لديهم القدرة المالية، فهو يحدث لأسباب مختلفة، فمن ترك رغم قدرته المالية ربما يكون لديه دوافع تتعلق بالزحام والصخب أو الوجاهة الاجتماعية مثلاً. يحمل هذا التحليل للتغيير إجابتين مختلفتين لمن هم سكان المدينة المتوقعين ومن سيكونون سكان أطرافها، ما يعني مزيداً من التعقيد، وصعوبة القدرة على افتراض/ات واحد/ة أو متسق/ة عن من هم سُكان القاهرة بالمستقبل. لذلك عملية الإحلال والتغيير الديموغرافي هذه “ملخبطة” بحسب برهام.

على المدى الطويل، لا يمكن للاستخدامات المؤقتة التأثير في تماسك الفئات المتوقع أن تسكن المدينة. بعبارة أخرى، يمكننا أن نتوقع من سيتواجد ولكن لا يمكن توقع من سيبقى، أو من سيكون أكثر من مجرد عابر مؤقت الوجود. يقول “لا أتوقّع أن يكون لنوع الأنشطة هذا تأثير طويل الأمد، ولا يهم إن حصل في وسط البلد أو مصر الجديدة، لأنّ الكلّ اتبهدلوا، ولم يعد لهم نسيج”. لكن هناك فروق بين تأثير التغيير العمراني، من طبقة لأخرى ومن منطقة لأخرى. فبالنسبة لبعض السكان في شرق القاهرة تبدو علاقتهم بأحياء هذه المنطقة أفضل نتيجة وجود الكباري ولكن مجدداً هذا ينحصر على من يملكون سيارات خاصة، ربما يكون الأمر مختلفاً مع من يضطرون استخدام وسائل مواصلات مرتفعة التكلفة. لذلك، ينذر التغيير على مستوى البنية التحتية بتغييرات عمرانية. 

وجه آخر لنموذج المحو: الأثر الديموغرافي لغياب الاستثمار في المدينة

لا يعتبر تغيير البنية التحتية الفاعل الرئيسي في حد ذاته لتغيير البنية السكانية، ولكن تغيير البنية التحتية يتيح تواجد مشاريع كثيرة ذات طابع استثماري. تُحدث هذه المشاريع التغيير في التركيبة السكانية. تذهب بشرائح، وتأتي بأخرى، استناداً إلى  القدرة على مواكبة التغييرات. يغلب على المشاريع الموجودة حالياً عدم مراعاة نموذج الدمج كالذي اقترحته مجموعة مد لتطوير العمران التشاركي في مشروع مثلث ماسبيرو، حيث أصبح تأثير المستثمرين وسعيهم لإقامة مشاريع تجارية حاضراً بفعل تملّكهم لأجزاء من المنطقة. كان برهام أحد أعضاء المجموعة[1]. على سبيل المثال لو أنّ المنطقة هي منطقة مدابغ، يصبح إقامة فنادق أمراً مخالفاً لطبيعة المنطقة وطبيعة نشاط سكانها وبالتالي يرحلون، مع تغيير طبيعة المنطقة على نحو لا يسعهم مواكبته داخل المنطقة، حتى لو لم يطردوا منه عنوة، هم سيرحلون من تلقاء أنفسهم، لأنّ المنطقة لم تعد تناسبهم”. 

آخر باعة معروضات الصناعات الجلدية المعروفة عن منطقة السور، والمقرر إجلاؤهم مع مشاريع التطوير الحكومي الحالية. يونيو / يوليو 2021.

على العكس لو أقيم في المنطقة سوق سياحي مثلاً، فهذا مشروع يلائم طبيعة منطقة المدابغ، ويتيح لسكانها عرض منتجاتهم داخله. وهذا ما يسعى المتخصصون والمجموعات المدنية لتطبيقه، مثل مشروعمجاورة في منطقة الحطابة، حيث يوجد حرف العمل بالصدف والنجارة ما يخدم سوق البيع والشراء للسياح بمنطقة القلعة الأثرية المجاورة لها على الرغم من وجود إحساس بالخطر على بقاء هذه المنطقة. يعتمد النموذج المطروح لتطوير الحطابة إلى الآن على مبدأ الحفاظ على تراثها، بتطوير مشاريع تخدم المنطقة وصناعات السكان ضمن ممشى سياحي، إلّا أنّ مصير هذه المناطق يبقى مُعلّقاً على الاختيار الرسمي بين نموذجي الدمج والمحو في تطويرها.  

بالعودة إلى سؤال من سيبقى بالمدينة، يرد برهام: من لم يتمكن من الانتقال سواء لأنّه لم يطرد أو لا يملك المال مثلي. يعرب “خلاص، أنا مش هعرف أروح في حتّه”. تبقى نتيجة الحالتين هي تدهور البنية التحتية القائمة داخل المدينة من صرف صحي وشبكات مياه وخلافه، بسبب إنفاق المال على مشاريع بنية تحتية تذهب لمناطق أخرى. في الغالب من يرحل قسريا من المدينة، يعود لو وجد فرصة لاحقة للعودة مرة أخرى، حتى لو أخذت عودته شكل فرصة عمل دون سكن. في هذه الحالة تزداد مشكلات الزحام والمواصلات والأعباء المادية على هؤلاء العائدين من الأطراف نحو المركز ثانية.

المركز مقابل المراكز أم مقابل الأطراف

ما يحدث حالياً في مصر هو إعادة تشكيل مركز جديد وإزاحة القديم، خلافاً لنموذج توزيع المركزية نفسها بدلاً من السكان، ومعه لا يعود هناك مدينة مركزية واحدة ولكن أكثر من واحدة كما هو الحال في ألمانيا مثلاً. أحد سمات التغيير الحالي لدينا هو تبدّل اتجاه حركة المراكز، وتحوّلها من الشمالي مقابل الجنوبي إلى الشرقي مقابل الغربي. في الماضي، كانت مراكز القاهرة تتحرّك بموازاة النيل، إلى مراكز عمودية على النيل ومنها التجمّع وأكتوبر والعبور إلخ. وشبكة النقل تؤكّد على هذا التحوّل العرضي في التغيير، لذلك سيتواجد قطار المونوريل في مناطق مثل أكتوبر والتجمّع، كي يربطها بمدينة نصر، وفي العلمين كذلك.[2]

وبالرغم من هذا التعمير عرضي الاتجاه، لا يزال هناك عدم توزيع للمركز كما يعتمد النموذج الآخر، والذي لم يُعتمد هنا. في تقدير برهام، كان من الممكن التفكير في استبقاء القاهرة وإعادة هيكلة مشكلاتها برفع كفاءتها، بدلاً من نقل المركز إلى مكان جديد وترك المدينة القديمة على حالتها، وتدهور وضع البنية التحتية فيها.

يدلل الماضي على فشل نموذج إعادة تشكيل المركز وإزاحة القديم، ونقل السكان للأطراف نحو الامتدادات العمرانية الجديدة، إذ يذهب الدكتور في الجغرافيا البشرية دين شارب إلى أنه على مدار عقود من معركة الدولة لإلغاء كثافة القاهرة وتحييدها بنموذج الحكومة والمستثمرين، إلّا أن المركز لم يفرغ ولم يوفّر مساحة لرأس المال العالمي حتى يملأه. يستند جزء من هذا الفشل إلى عدم قدرة فقراء المدينة على الانتقال إلى الأطراف، لأنهم عاجزون على تحمّل التكلفة. 

هكذا، تصبح الاستخدامات الجديدة المؤقتة غير مناسبة لسكان مدينة يصعب البقاء فيها، والخروج منها، لأنّ لا الإقامة داخلها بعد اعتماد نموذج المحو في تطويرها في متناول الغالبية ذات الدخول المحدودة والمتوسطة، ولا الانتقال إلى الهامش بما يتطلّبه من إنفاق ممكن. 


[1] مجموعة مدنية تُعنى بنموذج تشاركي للتطوير العمراني. عملت المجموعة على مشروع مثلث ماسبيرو في الفترة ما بين 2013 و2014 بالتعاون مع الحكومة وقتها وأهالي المنطقة.  
[2] مصر تنضم لقائمة ملاك “المونوريل”.. وتبدأ تشغيل أول خط نهاية 2022، سي إن إن، نوفمبر 2021.
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مقالات ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني