تدخّل جديد لسعيّد بالقضاء بالصوت والصورة: السلطة للشعب والبقية وظائف


2021-12-08    |   

تدخّل جديد لسعيّد بالقضاء بالصوت والصورة: السلطة للشعب والبقية وظائف

مساء يوم 06-12-2021، استقبل رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد عددا من رؤساء الهيئات القضائية. وقد كشف البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية مباشرة عقب هذا اللقاء وفيديو كلمة سعيّد المنقولة من الاجتماع أن موضوع الاجتماع تعلّق أساسا بما سمّاه الرئيس “ترتيب الآثار القضائية على التقرير الرقابي لمحكمة المحاسبات المتعلق بتمويل الحملة الانتخابية لانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019”. كما تناول اللقاء ما يخطط له سعيّد من تعديل للقانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء وما يطالب به من تطهير للقضاء.

فبمجرد أن استقبل ضيوفه، أخرج الرئيس أوراقا تلا منها الفصل 163 من القانون الأساسي للانتخابات على عجل ليقول إثر ذلك: ” لقد ورد في التقرير الذي أعدّته محكمة المحاسبات أن عديد القائمات تلقّت تمويلا أجنبيا … اليوم التقرير موجود ولكن لا يترتّب عليه أي أثر قانوني … المهم في هذه المرحلة الإسراع بترتيب الأثر الذي نص عليه القانون … لقد بقي القضاء يترقب ولم يصدر أحكاما … الأمر يتعلق بترتيب الأثر القانوني على فعل ثبت من محكمة … ليقول تاليا “القضاء وظيفة لو كان مونتسكيو حيا لأضاف ربما فصلا عن تونس والفصل بين السلط … السلطة للشعب والبقية وظائف … القضاء وظيفة وليس سلطة. الأحكام تصدر باسم الشعب. القضاء هو مرفق عمومي كسائر المرافق العمومية يتمتع بالاستقلالية لا تتدخّل فيه بقية السلط لكنه ليس سلطة … القضاء مستقل لكنه لا يشرع بل يطبق القانون الذي يضعه المشرع صاحب السيادة بشرط أن يكون مستقلا … لا بدّ من تغيير ذلك القانون (في إشارة لقانون المجلس الأعلى للقضاء) الذي كتب على المقاس وتسلّل له الكثيرون … ليقول: سيتمّ في الأيام القادمة التوجّه للشعب ببيان المراحل القادمة حتى تستعيد الدولة عافيتها وحتى يستعيد القضاء عافيته… ما فعلوه في قانون المجلس الأعلى للقضاء كان على مقاسهم..”.

وقد حاول الرئيس في لقائه ذاك مع سامي القضاة أن يظهر بمظهر المصلح فنفى عن نفسه الدكتاتورية وقال أنه من دعاة العدل وأنه يحترم القضاة لكنه انتهى لأن رسم صورة صادمة عن رئيس جمهورية يتدخّل بشكل مكشوف في قضايا جارية، وهو تدخل سارع مجلس القضاء إلى رفضه بعد ساعات قليلة من حصوله.

يذكر أن اللقاء ضمّ إلى جانب رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر، رئيسة مجلس القضاء العدلي مليكة المزاري والرئيس الأول للمحكمة الإدارية ورئيس مجلس القضاء الإداري عبد السلام مهدي قريسيعة ورئيس محكمة المحاسبات ومجلس قضائها نجيب القطاري.

صورة صادمة: رئيس يملي على القضاة أحكامهم

ورد الاجتماع الذي قرر الرئيس موعده ولم يعلم المشاركون فيه إلا في يوم انعقاده، الحاصل قبل يوم واحد من بداية الدوائر الابتدائية بمحكمة المحاسبات النظر في قضايا تتعلق بتلقّي تمويل أجنبي لقائمات انتخابية فازت بمقاعد في مجلس نواب الشعب الذي جمدت أعماله منذ 25-07-2021. وكانت الكلمة التي ألقيت فيه أشبه ما تكون بمرافعة غايتها الضغط على القضاء لفرض قرار فوريّ على المحكمة المختصة، من دون القيام بأيّ أعمال استقرائية للتثبّت من حصول المخالفة الانتخابية من عدمها.

لم يهتمّ هنا الرئيس بما ورد في القانون الأساسي المنظّم لمحكمة المحاسبات من تمييز صريح بين وظائفها القضائية وتلك الرقابية. كما لم يهتمّ بما بيّنته السوابق القضائية من إمكانية توصّل الاستقراء القضائي لحقائق تخالف ما قد يرد بالتقارير الرقابية. وكان في المقابل مستعجلا على صياغة سيناريو لمحاكمات سريعة يبدو أنه يحتاجها ليفرض تغييرا في المشهد السياسي ينهي الأزمة السياسية التي تعيشها تونس وفق المخرجات التي يتمناها والتي تتمثل أساسا في إدانة خصومه وعمليا إنهاء وجودهم في الساحة السياسية. كما لم يعرْ سعيّد أي اهتمام لقرينة البراءة في حق من يحاكمون جزائيا. فلم يجد حرجا في وصف خصومه، بما فيهم الذين حازوا أحكاما نهائية وباتّة تثبت براءتهم مما اتهموا به، بالفاسدين. وفي حين استشهد مرّات عدّة في حديثه بالدستور لجهة تحجير التدخّل في القضاء، فإنه لم يجد حرجا في اتهام القضاء بالفساد مع التلويح بقرب تغيير تركيبة مجلس القضاء في التزام منه بخطاب دأب عليه منذ تفرده بالسلطة.

تطهير وهرسلة

في تاريخ 01-11-2021، دعا سعيّد وزيرة العدل ليلى جفال بحضور الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات  نجيب القطاري لمراجعة القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء. وقد اعتبر آنذاك أن هذا القانون هو في ذات أهمية الدستور وأن انتخاباته تشهد تجاذبات سياسية. وكان من أثر خطابه هذا أن تعدّدت المواقف السياسية والقضائية التي تنبّه لكون هيكلة المجلس وصلاحياته ضبطها الدستور ولا يجوز بالتالي المسّ بها خلال المرحلة الاستثنائية وفي ظلّ تفرد رئيس الجمهورية بكل السلطات. وهنا عاد الرئيس في تاريخ 8-11-2021 وبمناسبة استقباله رئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزير الداخلية توفيق شرف الدين ليدقق قوله ويبيّن أن ما قصده بتعديل القانون هو مشاركة القضاة الشرفاء. وفي سياق غير منفصل، نشرتْ  صفحات تواصل اجتماعي واسعة الانتشار يُعرّفها المشرفون عليها بكونها مساندة للرئيس قيس سعيد، وذلك طوال النصف الثاني من نوفمبر، دعوات للمواطنين تطالبهم بتخصيص احتفاليات ذكرى الثورة (والذي قرر سعيّد أنه يوم 17 ديسمبر 2021 وليس 14 جانفي وهو التاريخ الذي كان معتمدا من قبل) لاقتحام المحاكم والمجلس الأعلى للقضاء فرضا لتطهير القضاء وسعيا لإنهاء عمل المؤسسات الفاسدة.

تبعا لذلك، استنكرت هيئات عدة ما دأب عليه سعيّد من هرسلة للقضاة وسعي لاستعمال القضاء في تصفية خصومه. ومن أهمّ هذه المواقف البيان الذي صدر عن مجموعة من أهمّ جمعيات المجتمع المدني التونسية[1] بتاريخ 02-12-2021[2] وعبّرت فيه عن تمسّكها بالمجلس الأعلى للقضاء منددة باستهدافه بالتشهير والتحريض. فيكون تبعا لذلك ما برز من إصرار منه على ذات خطابه رغم ما كان من رفض له مؤشرا يعزّز المخاوف من استعمال متوقع لسلطاته يوم 17 ديسمبر لفرض تغيير يخدمه في المشهد القضائي وهو ما قد يفسر سرعة ردّ مجلس القضاء على ما أراد أن يسوّق له ببلاغه وبخطابه.

مقاومة من داخل القضاء؟

سوّق الإخراج الإعلامي الرئاسي للقاء سعيّد برؤساء مجالس القضاء لمشهدية تبرز رئيسا يملك الحقائق ويحاجج بالأدلة في مقابل قضاة صاغرين صامتين مبهوتين بحجم فساد قطاعهم. صورة سريعا ما بدّدها بيان صدر في ذات اليوم عن مجلس القضاء ذكّر فيها بمواقفه التي أعلنها يوم 04-11-2021 والتي رفض فيها المسّ بضمانات استقلالية القضاء والتي أقرها الدستور. كما أدان البيان كلّ اشكال ترذيل القضاء، في موازاة تأكيده أنه الجهة التي تختص بمحاسبة القضاة والضامنة لنزاهة القضاء واستقلاليته.

أعاد بيان مجلس القضاء على اقتضاب نصّه رسم الصورة وفرض توازن بين السلط أنكره الرئيس. ونقدّر أن هذا الموقف والذي يضاف إلى مجموعة من المواقف السياسية والقضائية المندّدة بتدخّل الرئيس في القضاء يشكّل خطوة مهمّة تبيّن بشكل واضح أن تونس الديموقراطية لازالت في بعض مفاصلها تقاوم فكرة خضوعها لحكم فرد يرفض الاعتراف بالفصل بين السلطات.


[1]  وهي – جمعية القضاة التونسيين – الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان – النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين – المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية – الأورومتوسطية للحقوق – منظمة محامون بلا حدود – المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب – جمعية بيتي – اللجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان في تونس – مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان (دعم) – جمعية يقظة من أجل الديمقراطية والدولة المدنية – جمعية المواطنة والتنمية والثقافات والهجرة بالضفتين – منظمة لا سلام دون عدالة – الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية – اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل – جمعية وشم – لجنة اليقظة من أجل الديمقراطية في تونس ببلجيكا.

[2] ورد فيه  إن المنظمات والجمعيات الممضية أسفله وعلى إثر بروز حملات ممنهجة على شبكات التواصل الاجتماعي من بعض الصفحات المشبوهة التي تهدف إلى تقويض أسس بناء السلطة القضائية وإسقاط مؤسساتها بالدعوة إلى حل المجلس الأعلى للقضاء والاعتداء عليه وقيادة حملة إساءة وتشهير برئيسه وعدد من أعضائه، وإذ يذكّرون بما جاء بتوطئة الدستور من ضرورة قيام النظام الجمهوري على مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها ويؤكدون على ضرورة احترام استقلال القضاء خاصة في ظل الإجراءات الاستثنائية المتخذة وتجميع السلطتين التنفيذية والتشريعية في يد رئيس الجمهورية و يعتبرون ما جاء في باب السلطة القضائية في الدستور بما في ذلك وجود المجلس الأعلى للقضاء تكريسا لتعهدات تونس بموجب الاتفاقات الدولية وعلى الأخص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وضمانة أساسية لعدم الانحراف بالمسار الديمقراطي والحفاظ على علوية القانون وحماية الحقوق والحريات فإنهم: – يطالبون المجلس الأعلى للقضاء والسلطة التنفيذية بإجراء الإصلاحات العاجلة كل فيما هو موكول له لضمان سرعة البت في كبرى الملفات المعروضة على القضاء وتعزيز دور مختلف أجهزة الرقابة بما في ذلك التفقدية العامة بوزارة العدل لضمان محاسبة كل من طالتهم شبهات فساد قضائي ويؤكدون على ضرورة قيام المجلس الأعلى للقضاء بدوره كاملا في هذا المجال. -يدعون المجلس الأعلى للقضاءإلى مزيد الانفتاح وتوفير المعلومة القضائية وإعلام الرأي العام القضائي وغير القضائي بمآلات الملفات التي شغلت الرأي العام الوطني كإطلاعه على منجزاته في ملف إصلاح القضاء وضمان حسن سيره وتحديد العراقيل التي حالت دون قيامه بدوره فيما أسند له من صلاحيات مطلقة. – يدينون حملات التشهير والتجييش التي تقوم بها صفحات مشبوهة تستهدف رئيس المجلس الأعلى للقضاء وبعض أعضائه وعددا من القضاة وتتجاهر بعزمها الاعتداء عليهم بهدف حل المجلس الأعلى للقضاء والتوجه نحو إفراغ الساحة من بقية المؤسسات الدستورية. – يؤكدون تمسكهم بالمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية موكول لها ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله ويعتبرون إصلاحها مسألة حيوية على المجلس القيام بما هو مستعجل منها وذلك على مستوى الأشخاص والأداء بتلافي كافة الإخلالات التي شابت مكوناته وطريقة عمله وآلياته والارتقاء بأدائه إلى المستوى المطلوب لإعطاء النتائج الحقيقية من عدالة فاعلة وناجزة تستجيب لكافة الاستحقاقات المطروحة على القضاء ويعتبرون التدخل التشريعي في قانونه عبر مراسيم ليس أولوية في هذه الفترة الاستثنائية التي تمر بها البلاد والتي تقتضي عدم المساس بضمانات المكتسبات الدستورية لاستقلال القضاء.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني