انتقال إعلامي … حتّى إشعار آخر


2021-12-02    |   

انتقال إعلامي … حتّى إشعار آخر
رسم عثمان السالمي

“إنّني لم أتجاهل وسائل الإعلام، بل تجاهلت وسائل الإعدام. تلك التي تكتب بالممحاة، وتقدّم للناس فراغاً خالياً محشوّاً بكمّيّة هائلة من الخواء.”.

 أحمد مطر

بعد “ليلة كبيسة”  والساعة تشير إلى الثامنة صباحاً في يوم شتوي مُشمس  في تاريخ 15 جانفي 2011، طوت سيّارة فريق تلفزي إخباري الطريق طيّاً للوصول إلى مقرّ المجلس الدستوري  في باردو. هنالك، تلا رئيسه فتحي عبد الناظر على عجل بيان الانتقال من الفصل 56 إلى الفصل 57 من الدستور القديم الذي أعلن شغور منصب رئيس الجمهوريّة وفسح المجال لتولّي رئيس البرلمان حينها فؤاد المبزع مقاليده مؤقّتاً.

لم تكن ظروف العمل عادية مع سماع إطلاق نار متقطّع في محيط المجلس وحالة الانفلات الأمني السائدة، لكنّها كانت تؤسّس لحالة انتقالية فارقة. وبعيداً عن المجمّلات التلفزية والإخراجية، تمّ التسجيل ليُبَثَّ البيان المقتضَب من قاعة البثّ النهائي  في التلفزة التونسية إلى عموم الشعب التونسي ووسائل إعلام عالمية. ومنذ ذلك الوقت، بدأت رسمياً عقارب ساعة الانتقال الإعلامي في الدوران.

تمرّ الآن 10 سنوات بحقبات زمنية واسمية مختلفة: مؤقّتة (جانفي 2011 إلى أكتوبر 2012)، انتقالية تأسيسية (أكتوبر 2012 إلى جانفي 2014)، ما بعد دستورية (جانفي 2014 إلى جويلية 2021) وأخيراً استثنائية (بعد 25 جويلية 2021)، ولا يزال أهل المهنة يعالجون باحتشام مبحثاً هو الأوثق ارتباطاً بالانتقال الديمقراطي: إنّه الانتقال الإعلامي الذي تتوفّر فيه كلّ المسوّغات ليكون موضع دراسة وتشريح دقيقَيْن.

ظلّ الحديث أيضاً عن هذا الانتقال مُسيَّجاً بأسيجة مهنية ضيّقة. وظلّ قاموسه التبسيطي يكرّر في الأغلب طروحات إصلاح الإعلام ودوره في عمليّة الانتقال الديمقراطي ومسار إقامة الهيئات التعديلية والدستورية وتأسيس أرضيّات قانونية وتشريعية والأخذ بالتدريب والمرافقة من التجارب المقارنة. وهي في النهاية مفاهيم مهمّة يجمعها السعي إلى الهدف الأكبر وهو “دمقرطة الإعلام” والتخلّص من “الغرائز الصحافية القديمة” لكنّها ليست كافية وسط غابة المهنة والسياسة والأحزاب والمال والنفوذ والمصالح وغياب خارطة مفاهيمية وتطبيقية.

يقود ذلك إلى قراءة نظرية وواقعية للمشهد الإعلامي المترنّح منذ 10 سنوات، والذي يطرح سؤالَيْن على الأقلّ: هل اشتغل الانتقال الإعلامي بمراحله المطلوبة في تونس؟ وما هو واقع المشهد في ظلّه؟

وهذان السؤالان سيُحيلان في ثنايا المقالة إلى سؤال مفتاح هو كيف نفعل بدل ما فعلنا؟

المقاربة المفهومية للانتقال الإعلامي

يشير مفهوم الانتقال الإعلامي إلى الديناميّات المرتبطة بالتحوّل من وضع إعلامي جامد إلى متحرّك يروم التغيير ومساير لمرحلة الانتقال الديمقراطي. يتمّ هذا التحوّل وفق ضوابط معيارية تشترط توفُّر القوانين والتشريعات والمؤسّسات والقيم المتّصلة بالحرّيّة والتعبير والأخلاقيّات والأصول المهنية. وعليه، فإنّ هذا الانتقال يتطلّب مساحة زمنية وتشريعية ومهنية محدّدة يتمّ خلالها إمّا إعادة البناء الهرمي من الأعلى الى الأسفل كـ “ضرورة مأساوية” أو الذهاب في خيار الانتقال الناعم والمتدرّج والتفكيك المرحلي بدل الراديكالي الكامل.

يصنّف المثال التونسي للانتقال الإعلامي عند العودة إلى دراسات منظِّري علم السياسة (وإن باختلاف بينهم) ضمن الموجة الرابعة من موجات الانتقال الديمقراطي التي عرفتها دول عدّة في العالم، وذلك بناء على ما حدّده أساساً عالم الاجتماع والسياسة صامويل هانتينغتون[1] من تراتبيّة كلاسيكية لموجات ترسيخ الديمقراطيّة وهي كالآتي:

– الموجة الأولى، وهي في أوروبا الغربية في القرن 19،

– الموجة الثانية، وضمّت الدول المنهزمة في الحرب العالمية الثانية كألمانيا واليابان وإيطاليا والنمسا وكذلك الهند،

– الموجة الثالثة، وانطلقت من منتصف السبعينيّات في جنوب أوروبا كالبرتغال وإسبانيا واليونان واتّجهت نحو دول من أميركا اللاتينية ووسط أوروبا ثمّ شرقها.

الجامع بينها أنّها موجات تختلف في التاريخ والظرف والفاعلين، ما يعني عدم وجود نموذج فريد أو وحيد يمكن القياس عليه. لكنّ مراكماتها أثْرتْ المجال البحثي حول الانتقال الديمقراطي المُؤدّي بدوره إلى انتقال إعلامي ووضّحت خطوط تماس بينها تكاد تسير بشكل موازٍ.

 الإعلام في تونس لا يبتعد عن هذه المراكمات. فالمرحلة الانتقالية الإعلامية في تونس حكمها لاعبون لا يبتعدون كثيراً عن التجارب الأخرى. وهم: الحكومات والمؤسّسات والهيئات المنبثقة والمشرّعون وأهل الإعلام والمجالس أو الهيئات المهنية والتحريرية والهياكل النقابية والتعديلية والخبراء والأكاديميون والمكوّنات المدنية والرقابية ووحدات التدريب والتكوين والمرافقة والتدريس والتأهيل. وإن نقصتْ هذه الحلقة، اختلّ الميزان ولو بدرجات متفاوتة. وعادة ما يكون الإعلام العمومي، في كلّ التجارب، الحصن الأوّل في البناء الانتقالي الديمقراطي.

 الإعلام العمومي… دوّامة الأزمة

 يتّفق المهنيون والخبراء على أنّ الإعلام العمومي “رجل مريض” رغم نجاحه في تأمين أبرز الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والرياضية في البلاد عندما يُدعى أبناؤه إلى “النفير المهني العامّ” وتتوفّر لهم كلّ الإمكانيّات. لكنّ هذه التعبئة تظلّ دورية ومؤقّتة ولا تحجب واقع الأزمات المؤبّدة. ولا يختلف هؤلاء أيضاً في القول إنّنا ابتعدنا منذ 2011 عن التوصيف التكراري الماضوي حول وجود صحافة التعليمات لندخل مناخاً إعلامياً حرّاً وفق منطوق الفصل 31 من دستور 2014 الذي ينصّ على أنّ “حرّيّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة“.

وبالتدقيق في خارطة الإعلام العمومي، نجد الآتي:

  • ثلاث قنوات تلفزية (القناة الوطنية 1 و2 والتربوية)؛
  • عشر إذاعات بين مركزية وجهوية (الوطنية، تونس الدولية، الشباب، الثقافية، بانوراما، قفصة، الكاف، تطاوين، المنستير، صفاقس) في انتظار إلحاق إذاعة الزيتونة بالمركز بمقتضى اتّفاق نقابي حكومي؛
  • وكالة أنباء، هي وكالة تونس أفريقيا للأنباء وصحيفتين (الصحافة وهي صحيفة صادرة بالعربية ولابريس بالفرنسية).

تُشغِّل هذه المؤسّسات ما يزيد عن 2500 شخص بين صحافيين وتقنيين وإداريين وعملة. ويجمعها مرورها بأزمات هيكلية وتسييرية وتنظيمية وقانونية وإدارية ومالية واضحة رغم “موجات الإصلاح التجميلي” العابرة واحتكامها على كفاءات كثيرة. فعلى سبيل المثال، عرفت مؤسّسة التلفزة التونسية مرور 12 مديراً عامّاً في 10 سنوات بتسميات مختلفة (تسمية مباشرة أو بالرأي المطابق، بالنيابة، عبر مناظرة وعقد أهداف ووسائل، وأخيراً للتسيير المؤقّت) ما جعل بناية هضبة الهلتون تتخبّط دوماً في أزمات تسييرية وتنظيمية تنعكس آلياً على الحوكمة وحسن التصرّف، ومن ثمّ على المضامين المنتظَرة من قِبل الجمهور.

وتوقّف عدّاد الإذاعة التونسية عند أربعة مديرين عامّين منذ سنة 2019 لتبقى في دائرة الفراغ الإداري لمدّة تناهز ثلاث سنوات، وهو ما قرّب هذه المؤسّسة التي تجاوز عمرها 80 عاماً من حافّة الانهيار التسييري رغم المجهودات الخارقة لأبنائها للبقاء في دائرة الضوء الإعلامي. تماماً كما هو الوضع الذي تعيشه وكالة تونس أفريقيا حتى بتْنا أمام “جزر إعلامية معزولة” يقع تسييرُها إمّا عن بعد أو بمجاراة النسق اليومي بدون مخطط واضح لديمومتها.

تجتمع هذه المؤسّسات على واقع مالي صعب. فحجم كتلة أجورها[2] يتراوح بين 80% في حدّه الأدنى ويقترب من الـ 90% في حدّه الأقصى. وهي نسب فلكية تجعل من ذلك عبئاً مؤثّراً على ميزانيّة الإنتاج والإيفاء بالمشتريات في ظلّ التضخّم الوظيفي الخطير. كما اجتمعت أيضاً على إرث قانوني وإداري لم يتغيّر. فنرى مجالس إدارة تجاوز تمثيليّتها الزمن وتعقيدات بيروقراطية تعطّل كلّ حوكمة عمومية أو تطوير. أمّا الأخطر فهو جمود القوانين الأساسية والأنظمة الهيكلية وعدم مراجعتها لتجاوز حالة الشلل التنظيمي[3].

واقع عبّر عنه الأستاذ والخبير الإعلامي المعتمد في هيئات عربية ودولية رضا النجار معتبراً إيّاه الإنذار الأخير خلال تقديمه لكتاب الإعلامي والخبير ماهر عبد الرحمان بعنوان “أزمة السمعي والبصري العمومي في تونس” قائلاً: “إنّ المرفق العمومي يحتضر.. بل إنّه قد توفّي وبموته اندثرت القيم! إنّها صرخة فزع أطلقها صحفي محترف”.

ورغم محاولات ضبط الإيقاع المناسب للمتغيّرات الجارية منذ 2011 تحوّلت مؤسّسات الإعلام العمومي، تحت يافطة الإصلاح، إلى مخبر تجارب للمدرِّبين وللخبراء القادمين من مدارس إعلامية عربية وأجنبية مختلفة، وهو أمر مهمّ للاستئناس والمرافقة ورفع درجات الكفاءة. لكن، تبيَّن إثر محصّلة عقد من الزمن أنّه لا بدّ أن يُعزَّز بـ “جرعات مُتَوْنَسة” للإصلاح والمرافقة بعد مرحلة تيه وقفز بين التجارب المقارنة وبإيجاد سياسة عمومية واضحة ومعلَنة للإعلام.

السياسات العمومية للإعلام… فرص مهدورة

بعد عقد كامل من الزمن، لم تعرف مراحل الانتقال الإعلامي أيّ سياسة عمومية واضحة للإعلام بل ظلّت كلّ الحكومات تُرحّل هذا “اللغم” في ظلّ مناخ سياسي ومهني حافظ على توتره الدوري بعد تنفيذ القطاع إضرابَيْن عامَّين في 2012 و2013 وتراجعه عن آخرَيْن في آخر لحظات التفاوض. ففي أقصى الحالات، كانت الحكومات فرق “إطفاء حرائق إعلامية” عوض أن تعتمد سياسة عمومية واضحة مثلما هو الحال للصحّة والنقل والتعليم… ويمكن تبويب الفاعلين الأساسيين في السياسات العمومية إلى ستّة أطراف إذا اعتمدنا المقاربة التشاركية الأفقية وهم:

  • ·         أصحاب القرار، ونعني السلط والمؤسّسات الدستورية والسياسية التنفيذية والتشريعية والهياكل والمؤسّسات الإدارية بمختلف أصنافها والمصالح الإدارية والهيئات المستقلّة؛
  • الأحزاب والمكوّنات السياسية من ائتلافات وجبهات؛
  • الهياكل المهنية وهيئات التعديل والتعديل الذاتي؛
  • ممثّلو الإعلام العمومي والخاص والجمعيّاتي والمُصادر على اختلاف أصنافه ومحامله؛
  • الصحافيون والخبراء وجماعات التفكير والبحوث؛
  • منظّمات المجتمع المدني والجمهور.

وفي سؤال مفتوح للصحافيين في منتدى افتراضي مختصّ، فحواه “هل يمكن اعتبار غياب سياسة عمومية للإعلام سبباً رئيسياً في أزمته المتواصلة؟” أجاب 160 صحفياً بنعم مقابل 11 بلا. لكنّ المُؤكّد وفق الاستبيان أنّ ثمّة توافقاً تامّاً على غياب هذا الأمر وتبايناً واضحاً حول تمثّل هذه السياسات العمومية وإدراكها بين المهنيين.

وبعد سلسلة ندوات مفتوحة وورشات عمل ولقاء حواري تشاركي حول السياسات العمومية في مجال الإعلام في ديسمبر 2018 بين النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين وممثّلي الهياكل المهنية وهيئات التعديل وممثّلي وسائل الإعلام العمومي والمصادرة و السلطة التنفيذية وصحافيين وخبراء، تتّجه لجنة الإعداد المضموني للمؤتمر الوطني للسياسات العمومية لقطاع الإعلام بعد اجتماعها الأوّل في نهاية أوت الماضي إلى إعداد وثيقة مرجعية تضعها بين يدَيْ السلطة التنفيذية، وتالياً أمام مسؤوليّاتها للخروج من “حالة اليتم العمومي” نحو رسم سياسات عمومية واضحة العناوين.

ويحمل هذا المضمون مُقاربةً تُبيّن عدم قدرة الإعلام على القيام بدوره في إخبار المواطنين وتنظيم النقاش العامّ وإتاحة النفاذ للثقافة والمعرفة ومراقبة السلطة السياسية بدون توفير بيئة مؤاتية وشروط الديمومة والجودة كالتشريعات الضامنة لحرّيّة الرأي والتعبير والصحافة. كما فتحتْ باباً مهمّاً يخصّ التمويل العمومي الضامن لاستدامة إعلام عمومي مجدّد ومبتكر ومنظومة تكوين جامعي ومهني فعّالة وآليّات شفّافة لدعم المؤسّسات الخاصة والجمعيّاتية. وتحقيق هذه الأهداف إنّما يفترض ضرورة تحمُّل مؤسّسات الدولة لأدوارها الحاسمة في ضمان هذه الشروط بعد البدء في المسار المؤسّساتي لهياكل التعديل والبناء التشريعي وتنظيم “حركة السير الإعلامي”، المحمولة أساساً على الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي والبصري.

هيئات التعديل وإكراهات الواقع

ظلّ المعنيون بمسار الانتقال الإعلامي في تونس يسابقون الزمن لتشكيل “قوّة ضغط تعديلية” بعد عقود من التغوّل القانوني والحكومي في الإعلام ووجود مجلّة صحافة بمثابة العصا المسلطة فوق رؤوس الإعلاميين. فبناء على المرسوم عدد 10 المؤرَّخ في 2 مارس 2011، أُنشِئت الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال المعروفة اختصارا بـ INRIC واشتغلت في “ظروف قاسية” وفق توصيف رئيسها كمال العبيدي. فحاولت أثناء “تشخيصها حجم الدمار الذي لحق بالإعلام أن تجسّد مقاربتها للإصلاح” رغم معرفتها أنّ “بقاء رموز حكم بن علي في مواقع القرار وخبرتهم في التضليل والتأثير على السلطة رغبة في الحفاظ على مصالحهم، إضافة إلى تأثير الضربات الموجعة التي أضعفت الإعلاميين خلال العقدين الماضيين، من شأنه أن يؤثّر في عمليّة الإصلاح”[4].

وبالفعل، فقد انتهى مصير الهيئة إلى إعلان إنهاء مهامّها من جانب واحد وولادة الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي والبصري المعروفة اختصاراً بـ HAICA (هايكا) بمناسبة اليوم العالمي لحرّيّة الصحافة في 3 ماي 2013. وبمقتضى المرسوم 116 لتنظيم قطاع الإعلام السمعي والبصري تسعى الهيئة إلى تعديل المشهد السمعي البصري وضمان تعدّده وتنوّعه وتوازنه واستقلاليّة وسائله.

بعد تسع سنوات، دخلتْ هذه الهيئة أو أُدخِلت كرهاً وفق عدد من المهنيين في “أتون التجاذبات السياسية والحكومية والبرلمانية” ومربّعات الترهيب والترغيب رغم التقارير والدراسات والرصد اليومي الذي تقوم به. بل كادت مبادرة تشريعية[5] لأحد مكوّنات الحزام السياسي لحكومة المشيشي أن تنقضّ عليها برلمانياً تحت يافطة “تحرير الإعلام” لولا رفض أعضائها وتحرّك الهياكل النقابية الممثّلة للمهنة وعدد من الأحزاب والمكوّنات المدنية. كما ظلّت قراراتها موضع تنفيذ انتقائي من قِبل السلطة وفق موازين القوى السياسية على الأرض. وهو ما اعتبره أحد أعضائها، هشام السنوسي، في تصريحات صحافية عديدة نوعاً من “المصلحة أمام المصالح” وتعطيلاً للصبغة التقريرية للهيئة وإمعاناً في إفشالها وعرقلة أعمالها أمام الحيتان الإعلامية والمالية والسياسية. لكنّ انتقادات أخرى توجَّه إلى الهيئة الدستورية وهي دخولها في ما يُعرف بمرحلة “الكسوف القانوني” ومسارات تجديد تركيبتها وانضمامها إلى نادي الهيئات الدستورية المنتخَبة.

بالتزامن مع ذلك، سارت تونس بدون صخب نحو إطلاق مجلس صحافة هو الأوّل من نوعه عربياً. ورغم “الهزّات الديمقراطية” وقصر عمره لقد ترسّخ في العقل الجمعي الصحافي والرأي العامّ وإن بشيء من الاحتشام لافتقاده إلى الآن لمقرّ وتمويل عامّ أو خاصّ. المجلس الذي أُطلق بشكل رسمي تركيبةً وأهدافاً في سبتمبر 2020 لا هو بالرقيب المسلط ولا بمحكمة للأفكار أو عمادة تشطب وتقبل، بل هو خيمة تفكير مستقلّة تبحث سبل إرساء آليّات الأخلاقيّات الصحافية والتعديل الذاتي الداخلي، تحمي المشهد الإعلامي وتقبل الشكاوى وتنظر فيها وعنوانها الأكبر استناداً إلى رئيسته اعتدال المجبري “نشر صحافة الجودة وتطويرها ووضع ميثاق أخلاقي مرجعي للممارسة الإعلامية”.

الصحافة الورقية والتقليدية… رحلة الغروب

أصبحت الصحافة الورقية في حكم الميتة ليس في تونس فحسب بل في العالم نظراً إلى التحوّلات الاتّصالية والتكنولوجيا الرهيبة و”مكننة القارئ” عوض تقليب الصفحات. وباتتْ الخارطة الاسمية تشهد ذوباناً دورياً لعناوين ورقية. فمن نحو 250 عنواناً قبل 2010 بين صحف ومجلّات ودوريات وإصدارات مختصّة، تضع تقديرات جامعة مديري الصحف العدد الآن بين 35 و40 حسب الظرف. وصارت أعداد السحب لا تتجاوز الـ 90 ألف نسخة أسبوعياً. وإن انتعشت مرحلة الانتقال الإعلامي في بدايتها بعناوين عدّة، في كلّ المحامل المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية، فإنّنا صرنا نعيش “كساداً كبيراً” ضاعفت أزمة كورونا من ارتداداته، بعد أن أغلقت مؤسّسات إعلامية مختلفة أبوابها وصرفت صحافييها وتقنييها وإدارييها وانكمش سوق الإشهار المنحصر بدوره.

أمّا ما زاد المشهد ضبابيّة فهو غياب مرجعيّة قانونية ومهنية واضحة تتعلّق بالمواقع الإلكترونية وتداخل هذه الوسيلة الإعلامية الحديثة مع الأسواق الفوضوية الإلكترونية الأخرى و”التفريخ” اليومي للمواقع الرقمية والمدوّنات والصفحات البعيدة أساساً عن المهنية الصحافية. ويبدو الزمن الرقمي يلاحق الزمن الإعلامي التقليدي في معاقله المهنية أصلاً، ما يستدعي وصفة علاج حقيقية تضع الفواصل المهنية بينهما واعتماد الأجناس الصحافية المتطوّرة والخاضعة حصراً لضوابط المهنة وأصولها كالصحافة الاستقصائية والتفسيرية والتحليلية وصحافة المسؤوليّة المجتمعية والحلول.

وفي هذا السياق، يقول أستاذ علوم الإعلام والاتّصال في معهد الصحافة وعلوم الأخبار والباحث في الميديا وعضو مجلس الصحافة الصادق الحمامي بشيء من المرارة إنّ مرحلة الانتقال الإعلامي التي مرّت بها تونس “نجحت في إرساء بنية قانونية وتشريعية ومؤسّساتية لكنّها لم تستطع علاج الإعلام المريض” وتابع بتلخيص بسيط أنّ “أزمة الإعلام هي شاملة ونسقية في كلّ مكوّنات الميديا وتؤثّر على بعضها البعض بطريقة سلبية”.

ينتهي الانتقال الإعلامي بانتهاء المسار الانتقالي الديمقراطي وتركيز المؤسّسات الدائمة وتبدو الوضعيّة التونسية هنا ذات خصوصيّة استثنائية، فلا هو انتقال تامّ ولا هو انتقال ناقص. وكلّ ما سبق من محاولات تفكيكه ، وإن بقيت نتائجه تتحرّك داخل منطقة رمادية تجمع النجاح والفشل، حتماً تجعل رحلة البحث عن عمق اليقين بشأنه مفتوحة إلى إشعار آخر.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة


[1] “الموجة الثالثة التحوّل الديمقراطي في أواخر القرن 20″، صامويل هانتينغتون.

[2] وزارة الماليّة التونسية، تقارير ميزانيّات الدولة.

[3] التقرير العام للهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والإتصال + التقرير السنوي السادس والعشرون لمحكمة المحاسبات

[4] تقرير هيئة إصلاح الإعلام والاتّصال المنشور في 30 أفريل 2012.

[5] مشروع قانون عدد 2020/34 يتعلق بتنقيح المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المؤرخ في 02 نوفمبر 2011 تم إيداعه بمجلس نواب الشعب من قبل كتلة إئتلاف الكرامة في 04 ماي 2020

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مؤسسات إعلامية ، قطاع خاص ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني