انتفاضة 17 تشرين والعبور إلى الآخر


2019-11-27    |   

انتفاضة 17 تشرين والعبور إلى الآخر

ثمة شيء ما يحصل على هامش الانتفاضة، شيء ما سيبقى حين ينتهي كل شيء، عسى على خير: تلاقي أناس أبعدوا قسراً عن بعضهم البعض بفعل سياسة انتهجتها السلطة والأحزاب السياسية منذ انتهاء الحرب اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف، سياسة قامت على المحافظة على خطوط تقسيم افتراضية بين اللبنانيين تعيد تحديدها كلّما احتاجت، وهو ما فعلته في الأيام الأخيرة.

قبل أيام من إحراق مناصري حركة أمل وحزب الله لخيم المعتصمين في ساحة العلم في صور لإعادتها إلى حضن الثنائي، كان وفدٌ من حراك المدينة يزور الشمال في خطوة ترمز كما قالوا إلى أنّ الانتفاضة “جامعة” و”شاملة لكلّ لبنان من جنوبه إلى شماله”.

لم تأت صفتا “جامعة” أو “شاملة” من فراغ، فأهمّ ما تحتويانه هو أضداد لـ”صناعة الآخر” و”رهاب الآخر” التي تمارسها السلطة في لبنان منذ سنوات عبر المحاصصة الطائفية، وقانون الدوائر الانتخابي والقائم على القيد الطائفي، والتفاوض على حصص الطوائف وليس على مصلحة اللبنانية واللبناني كمواطنين، والخطاب التحريضي على فئات بأكملها أو مناطق بأكملها أو طوائف بأكملها، وإخافة الناس دائماً من آخر يتربّص بوجودهم، وإشعارهم بشكل مستمر أنّهم معرّضون لخطر داهم ويحتاجون أن يكونوا دائماً مستعدّين للدفاع عن أنفسهم أو أنّ حقوقهم مهدورة كطائفة وليس كأفراد.

هذا الخوف حكت عنه ناهد سلامة الآتية من صور إلى الشمال لأول مرّة، الخوف الذي انتابها قبل الوصول إلى الشمال والذي تصفه بأنه “الخوف الذي ربّته فينا السلطة الطائفية، وزرعته فينا من صغرنا، الخوف من الطوائف الأخرى، الخوف من أننا إذا ذهبنا إلى منطقة مختلفة سيحصل ما حصل سابقاً وقت الحرب الأهلية”.

قبل زيارة وفد حراك صور بأسابيع، زار وفد من ناشطي الهرمل مدينة طرابلس لكسر عزلة حراك الهرمل المفروضة عليه بسبب غياب الإعلام ونتيجة البعد الجغرافي للبلدة وقلّة عديده نتيجة غلبة الانتماء إلى حزب الله وحركة أمل بين أبناء البلدة. فكانت طرابلس الوجهة الأولى، أولاً لأنها ساحة الانتفاضة الأقرب جغرافياً وثانياً لأنها كانت دائماً الأبعد سياسياً.

ما قاله المشاركون في الزيارتين كان واضحاً: ما تحققه الانتفاضة بعيداً عن السياسة، هو إلغاء مسمّى “الآخر” بين اللبنانيين أو أقلّه بين المشاركين في الانتفاضة.

وما حصل في الزيارتين لن يشعر به سوى من خرج للتوّ من الحيّز المناطقي أو المذهبي أو السياسي الضيّق الذي حُشر فيه والتقى بأناس كانوا دائماً بالنسبة إليه “آخرين” أو من جاء إليه أشخاص كان يعتبرهم غرباء لا بل معادين وفوجئ بأنّ ما يجمعه بهم أكثر بكثير مما كان يعرف أو يُملى عليه.

ما شعر به هؤلاء المبعدون قسراً لدى لقائهم ببعض تختصره ناهد بقولها: “كأنّك ترى أخاك الذي مر وقت طويل لم تره ولم تعرف أخباره، ربما كان مسافراً ربما كان مفقوداً واليوم عاد والتقيت به. أو ربما كان هناك سدّ أو حاجز بينك وبينه واليوم زال. شعرنا أننا فعلاً متشابهون من دون مبالغة. كأننا نعرف بعضنا من سنين واليوم التقينا”. ثمة معرفة قديمة هنا إذاً، معرفة طمستها الحرب وما بعدها. ثمة اكتشاف للآخر، اكتشاف للشبه، اكتشاف للمشترك.

وهذا أيضاً ما تقوله أماني ناصر الدين التي زارت طرابلس مع وفد حراك الهرمل: “كانوا وكنّا كمن يرى أحبّاء بعد طول غياب. كنّا نشعر أنّنا نعرفهم جيّداً، نعرف وجوههم وابتساماتهم ونظراتهم، ونحبّهم وهم قريبون منّا ولكن مرّ وقت طويل لم نرهم. شعرنا كما لو أنّنا في المنطقة ذاتها ولكننا معزولون عم بعض”.

إذاً كان كافياً لقاء واحد لكي تنهار الجدران التي بنتها السلطة والأحزاب في أذهان هؤلاء الأشخاص وبينهم.

كان كافياً مجرّد عبور موكب السيارات الآتي من الهرمل في أحياء الضنيّة الضيّقة رافعين الأعلام من السيارات التي تطلق أبواقها، لأن يخرج الناس من بيوتهم ويرشّون عليهم الأرز ويُخرِجون الأعلام من البيوت ويركضون صوب الموكب ليلوّحوا بها ويرفعون إشارة النصر ولأن يوقِفوا الموكب ويحملون الشباب الذين في السيارات على الأكتاف ويرقصون بهم ويغنّون ويهتفون. طبعاً كان سهلاً على أهالي الضنّية أن يعرفوا أنّ هذا الموكب آتٍ من الهرمل فالطريق التي يسلكها لا تأتي سوى من تلك البلدة الواقعة على المقلب الآخر من الجبل الذي لا يفصلهم عنها بل يصلهم بها.

في طرابلس، تكمل أماني سرد تفاصيل الزيارة، “حين وصلنا واسقبلونا صرنا نسمع من على المنبر تحيّات لأهل الهرمل، الهرمل الفقيرة، الهرمل الجارة، الهرمل البعيدة القريبة في الوقت ذاته. سرنا أكثر من ساعة في ساحة النور، توقفنا عند كل الخيم، وكان من فيها إما يغنّون، إما يرقّصونا، إمّا يحملونا على الأكتاف. أبكاني الترحيب المستمر والتصفيق والعناق، هذه الألفة التي بدت طبيعية بيننا. بعض الناس عانقوا وقبّلوا جميع من كان في الوفد. وكانت التحيات تسبقنا من الخيم المجاورة. كنّا نقبّل أناساً لا نعرفهم ونمسك أيديهم ولم يبدُ ذلك لحظةً أمراً غريباً كان أليفاً وطبيعياً لأقصى الحدود. وكانت كل ساحة النور ترد الهتاف لأهل الهرمل”.

“كاد قلبي أن يتوقّف من فوضى الأحاسيس التي كانت تنتابني، من فرح وزعل وإحباط وفي الوقت نفسه أمل وأنا أرى أناساً متلي لديهم الحاجات نفسها وأكثر وتجاعيد ناس وتعبهم كتجاعيد أهلي وتعبهم ومنطقة محرومة مثل منطقتي وأكثر”.

ناهد أيضاً شعرت بفرح غامر رغم الخوف السابق الذي انتابها قبل الزيارة “لأننا سنلتقي أناساً هم أخوتنا في البلد نفسه ولكننا لا نعرف بعضنا البعض”. لذلك تنصح الكل بأنّ “ينتشر” في المناطق و”يتواصل بشكل مباشر مع الناس ولا يكتفي بما يعرفه عنهم من وراء الشاشات وما أدراك ما الشاشات”.

ما حصل في هذه اللقاءات ولقاءات أخرى كثيرة تجري على هامش الانتفاضة حصل ليبقى: “ما جرى ليس أمراً عابراً”، كما تقول الشابة سهى حسن عواضة طالبة المسرح وإدارة أعمال من صور، “نحن تغيّرنا وحياتنا تغيّرت. أصبحنا أكثر انفتاحاً. أصبحنا نحب التعرّف على الناس. أصبحنا نتحدث عن الإنسان وليس عن الآخر المختلف عنّا”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، انتفاضة 17 تشرين



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني