الهيئات الإدارية المستقلّة، ظاهرة جديدة في نظام سياسي قديم (3): صلاحيات هامشية أو واسعة من دون قدرات


2023-09-29    |   

الهيئات الإدارية المستقلّة، ظاهرة جديدة في نظام سياسي قديم (3): صلاحيات هامشية أو واسعة من دون قدرات
رسم رائد شرف

تنشر المفكرة الفانونيّة تعليقا حول تطور ظاهرة إنشاء هيئات إدارية مستقلة في لبنان، وبخاصة 4 منها هي على التوالي: الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً وهيئة الشراء العامّ. وفيما خصّصنا الجزء الأول من هذا المقال لدراسة دوافع إنشائها والموانع أمامه، والجزء الثاني لمعايير استقلالية هذه الهيئات، نتناول هنا الصلاحيات المناطة بهذه الهيئات.

وكنا قد رأينا أن الهيئات المستقلة هي ظاهرة نشأت في فرنسا وتشعبت مع الوقت وأثارت جدلا في تحديد طبيعتها القانونية إذ وفقا للفقه الفرنسي كانت نيّة المشرّع في إضفاء تسمية السلطات العامة المستقلة على هذه الهيئات هي بلا شك إبعاد تصنيف المؤسسات العامة عنها[1]

وقد تزايد عدد الهيئات الفرنسية بشكل كبير. ولم يكن هناك تعداد واضح لها وذلك لصعوبة تحديدها إذ إن تصنيفها كهيئات مستقلّة على مختلف أشكالها كان يتمّ إمّا بقانون وإمّا بالأحكام الصادرة عن القضاء الإداري أو عن المجلس الدستوري أو حتّى من قبل الفقه[2].  

في هذا الإطار، ونظراً لحالة عدم الوضوح السائدة في المشهد القانوني الفرنسي حيال هذه الهيئات وإشكالية صلاحياته المتداخلة مع السلطتين التنفيذية والقضائية، قرّر المشرّع الفرنسي سنة 2017 بعد صدور تقرير عن مجلس الشيوخ[3] يحثّ النواب والشيوخ على وضع إطار قانوني موحّد للهيئات المستقلّة، سنّ قانونين أوّلهما القانون العضوي (loi organique) رقم 54 تاريخ 20 كانون الثاني 2017 الذي يحصر فيها المشرّع إنشاء السلطات الإدارية المستقلة والهيئات الإدارية المستقلّة بالقانون، أي أن الحكومة لا يحق لها بموجب سلطتها التنظيمية إنشاء هيئات مماثلة نظرا لاختصاص هذه الهيئات الذي عادةً ما يتعلّق بمواضيع تخصّ حقوق المواطنين وحرياتهم، وهي من المواضيع التي يحجزها الدستور الفرنسي صراحة للسلطة التشريعية. وهكذا صدر القانون الثاني وهو القانون العادي رقم 55 في التاريخ نفسه وضع فيه المشرّع الفرنسي لائحة بستّ وعشرين هيئة مستقلّة، وحدّد فيه الإطار العام للهيئات المستقلة، أي تنظيمها (ولاية أعضائها وأصول التجديد لهم ومبدأ قيامهم بعملهم بإسم الدولة) وسلوكياتها وكيفية عملها (أي أنها تنظم قطاعات معيّنة ولها نظامها الداخلي الخاص وملاك إداري متفرّغ وأن رئيسها يعقد النفقات وهو مسؤول عن جباية الموارد).

وهكذا يتبين لنا أن الهيئات المستقلة في فرنسا باتت تخضع لنظام قانوني واضح المعالم يحدد طبيعتها وصلاحياتها بينما الوضع في لبنان لا يزال مختلفا كون تلك الهيئات تم استحداثها بقوانين مبعثرة ومنحها صلاحيات مختلفة يصعب تصنيفها ضمن معايير قانونية تنطبق عليها جميعا. لذلك، ومن أجل تكوين صورة دقيقة عن صلاحيات الهيئات المستقلة في لبنان، لا بدّ من تحديد طبيعة تلك الصلاحيات التي للوهلة الأولى يبدو أنّها تتشابك مع سائر السّلطات في الدولة.

إشكالية الصفة القضائية للهيئات المستقلة

من الظاهر أن الهيئات المستقلّة الفرنسيّة تمارس دوراً شبيها بالسلطة القضائية. وهذا ما أشار إليه تقرير[4] مجلس الشيوخ الفرنسي في حديثه عن هذه الهيئات دون أن يحسم ذلك بشكل واضح.

وبما أن القوانين التي أنشأت الهيئات المستقلة في لبنان لا تنص صراحة على الصفة القضائية لهذه الأخيرة، بات من الضروري استنتاج هذه الصفة انطلاقا من مجموعة من المعايير[5] الشكلية والمادية (كون المعيار الشكلي الأوضح غير متوفر، أي منح الهيئات الصفة القضائية بموجب نص تشريعي) هي التالية:

المعايير الشكلية :

  • وجود قاض أو أكثر في عداد الأعضاء الذين تتألف منهم الهيئة لا سيما إذا كان أحدهم رئيسا لها.
  • جواز الطعن بقرارات الهيئة وبالتالي عدم خضوع هذه القرارات لطرق المراجعة الإدارية سواء كانت استرحامية أو تسلسلية كون الأعمال الإدارية هي وحدها التي تقبل طرق المراجعة الإدارية بينما القرارات القضائية لا تقبل المراجعة إلا عن طريق الاستئناف أو النقض.
  • وجوب تعليل القرارات كون التعليل هو من المقومات الجوهرية الملازمة للقرارات الصادرة عن الهيئات القضائية.

 المعايير المادية:

  • تتعلق بالمواضيع التي تختص الهيئة للنظر بها وبتّها بقرار تفصل فيها بنزاع قائم بين خصوم فتنتج آثارًا قانونية نهائية سواء بالنسبة لأفرقاء النزاع أو الهيئة نفسها التي اتخذت القرار التي لا يعود لها إعادة بحث ما انتهت اليه.

انطلاقًا من هذه المعايير التي يشكل وجودها قرينة قوية على الصفة القضائية للهيئة، يمكن الملاحظة أن الصلاحيات الاستقصائية التي تتمتع بها أغلبية الهيئات المستقلة لا تدخل ضمن معايير الهيئات القضائية. لكن من ناحية أخرى فإن هذه الهيئات (ما عدا هيئة الشراء العام) تنص في قوانينها على وجود قضاة من بين أعضائها من دون أن يكون القاضي بالضرورة رئيسا لها.

من جهة ثانية لا تقبل قرارات الهيئات المستقلة المراجعة الإدارية بينما نصت القوانين في أكثر من موضع على أن قرارات هذه الاخيرة تكون قابلة للطعن أمام مجلس شورى الدولة، كقرار هيئة مكافحة الفساد بالموافقة على تسليم مستند أو رفض ذلك وتبلّغه إلى الإدارة المعنية، وقرار هيئة المفقودين والمخفيين قسرًا بشأن تحديد هوية الرفات بعد انتشالها وإجراء التحاليل المخبرية الضرورية علما أن القانون يفرض على الهيئة تعليل هذا النوع من القرارات.

ويعود لمجلس شورى الدولة وفقا لاجتهاده أن يعطيَ الوصف القانونيّ الصحيح للمراجعات التي تُرفع أمامه إذ يميز بين مراجعة الإبطال لتجاوز حدّ السلطة التي تختصّ فقط بالأعمال الإدارية، ومراجعة النقض التي توجه ضد القرارات التي لها طابع قضائي. وبما أن مجلس شورى الدولة لم يصدر حتى الآن قرارات تتناول طبيعة قرارات الهيئات المستقلة لجهة معرفة هل هي قرارات قضائية قابلة للنقض أو مجرد أعمال إدارية قابلة للإبطال لتجاوز حد السلطة، لذلك لا يمكن تحديد تمتع هذه الهيئات بالصفة القضائية، خلافا لما أدلى به رئيس هيئة مكافحة الفساد القاضي كلود كرم حيث اعتبر أن : “الهيئة جهاز شبه قضائي، تتمتع بصلاحيات واسعة، فتمارس كل أشكال التحقيق والتقصي، وصولاً إلى طلب محاسبة المرتكبين والفاسدين”[6]. إنما يلحظ أن قانون إنشاء هيئة المفقودين ذكر في عدد من مواده أن الطعن في قراراتها يحصل وفق الأصول الموجزة، مما يؤكد طبيعتها الإدارية. 

أمّا بالنسبة إلى هيئة الشراء العامّ، فمراجعة قانون إنشائها لم يبيّن أيّة صلاحيات قد تمارسها الهيئة وتتخذ طابعاً قضائيًّا. وقد ثبت المجلس الدستوري في قراره رقم 7/2023 تاريخ 6 حزيران 2023 أن هيئة الشراء العام لا تمتلك صفة الهيئة القضائية أو شبه القضائية حيث اعتبر “أنّ مبدأ الحياد يتعلق بعمل الهيئات القضائية وشبه القضائية المرتبط بوظائف التحقيق والحكم. وليس لهيئة الشراء العام هذه الصفة، إذ هي هيئة إداريّة مستقلة تُعنى بتنظيم الشراء العام ومراقبته والإشراف عليه”. ذلك بعكس هيئة الاعتراضات المنشأة بالقانون نفسه والتي تمتلك صلاحيات في الفصل بالاعتراضات المقدمة أمامها، كما لها أن تعلّق إجراءات الشراء أو تنهيها وأن تلزم الجهة الشارية بالامتناع عن أعمال معيّنة أو إلغاء كليًّا أو جزئيًّا قراراتها أو تصحيح قراراتها أو إلزامها بذلك. وتقبل قرارات هيئة الاعتراضات المراجعة أمام مجلس شورى الدولة.

يبقى أن الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، في ما لهما من صلاحيات بأن تجري تحقيقا واستقصاء عن المعلومات في إطار عملها، تقوم بعمل مساند للنيابات العامة في المجالات التي تعنى بها، ما يُنشئ تعاونًا وثيقًا بينهما بالرغم من أنّه يشكل في الحقيقة تكرارًا لصلاحيات النيابة العامة. لكن هذا التشابه في الوظائف بين الجهتين لا يعني أن للهيئات المستقلة صفة قضائية تلقائيّا.

 الصلاحيات الاستقصائية للهيئات المستقلة

منحت القوانين الهيئات المستقلة صلاحيات استقصائية واسعة. لكنها في الأغلب لم تخوّلها اتّخاذ تدابير ردعية مباشرة بل فرضت دائما عليها إبلاغ النتيجة التي توصّلت إليها إلى القضاء المختصّ الذي يتولّى الفصل بها وفقا لصلاحيّاته.

بالنسبة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، يتبيّن من المادة 18 من قانون إنشائها أنها تضطلع بدورين أساسيين تساند بهما القضاء في تلقي الشكاوى والاستقصاء. فالفقرة “ب” البند الأول من المادة 18 تضع في صلب مهام الهيئة تلقي الكشوفات التي تردها والمتعلقة بالفساد، واستقصاء جرائم الفساد، وفي الفقرة “ج” البند 3 من المادة نفسها تنص على تلقي التصاريح عن الذمة المالية والتدقيق بها، استلام الهيئة للشكاوى المتعلقة بعدم تطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات والتحقيق فيها وإصدار قرارات ملزمة بشأنها كما ذكرنا أعلاه.

أمّا المادة 19 من القانون عينه، فتتوسّع في صلاحيات الهيئة الاستقصائية وقدرتها على إحالة الملفات إلى القضاء. إذ للهيئة أن تحقّق في ملفات الفساد عفواً أو بناءً على ما تتلقاه من كشوفات ولها أن تستعين بالضابطة العدلية ومعاونيها لجهة الحصول على المعلومات المتوافرة لديهم. وللهيئة أيضاً أن تطلب رفع السرية المصرفية، وبات للهيئة، عقب صدور قانون “رفع السرية المصرفية” رقم 306 تاريخ 28 تشرين الأول 2022 وبعد التوضيح الذي صدر عن المجلس الدستوري في قراره رقم 19 تاريخ 22 كانون الأول 2022، أن تطلب رفع السرية المصرفية مباشرةً من دون الرجوع إلى أي مرجع آخر لا سيما “هيئة التحقيق الخاصة” ما يشكل تعزيزا لدور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ويمنحها استقلالية فعلية غير مرتهنة بالحصول على موافقة أي جهة أخرى. 

وفي إطار آخر، لا بدّ أن نذكر أنّ للهيئة بموجب المادة 20 من القانون عينه أن تطلب من قاضي الأمور المستعجلة اتخاذ تدابير احترازية وهي إصدار قرار منع سفر أو الطلب منه ضبط أموال الأشخاص المشتبه بهم ومنع التصرف بها ووضع إشارة منع تصرف على الأموال المنقولة أو الغير منقولة، أو الطلب من هيئة التحقيق الخاصة اتخاذ الإجراءات الاحترازية المتاحة بما فيها تجميد الحسابات العائدة للمشكو منهم ولسائر الأشخاص المشتبه بهم.

وللهيئة بحسب المادة 21 أن تحفظ الملفّات لديها إذا تبيّن لها أنه لا يستدعي الملاحقة القضائية أو التأديبية، أو أن تحيلها إلى النيابة العامة ولها في هذا الشأن أن تطلب التوسع في التحقيق، وأن تدّعي أمام القضاء وتقدّم المراجعات أمام الجهات القضائية أو الإدارية المختصة.

ومن الواضح هنا اقتصار دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إلى مجرّد المحرّك للتدابير الاحترازية أو الدعاوى من دون أن يكون لها أيّ سلطة عليها، في حين يختلف الأمر في قانون معاقبة الإثراء غير المشروع الصادر في 16 تشرين الأول 2020 إذ تعطي الفقرة “ج” من المادة السابعة منه للهيئة صلاحيات عقابية كونها يتوجب عليها عند تقاعس الموظف المعني عن تقديم تصريح الذمة المالية الخاص به ضمن المهلة القانونية إبلاغ المحتسب المالي المركزي بهذا الأمر الذي يقوم بدوره وفورا بإيقاف تسديد الحقوق المالية كالراتب والتعويضات التي تعود لهذا الموظف.

كما تجدر الإشارة إلى أن قانون حماية كاشفي الفساد الصادر في 10 تشرين الأول 2018 أعطى في مادته التاسعة الهيئة صلاحيّات مهمّة إضافيّة في هذا الخصوص، إذ خوّلها بعد اجراء التحقيقات الضرورية عفوا أو بناء لطلب كل ذي مصلحة الطلب إلى النيابة العامة أو القوى الأمنية تأمين الحماية المناسبة للشخص المهدّد بضغوط أو أعمال ثأرية، وعلى هذه الجهات الأخيرة الاستجابة فورا لهذا الطلب. كما نصّت المادة 14 من القانون نفسه على منح الهيئة صلاحيات منح مكافآت مالية ضمن شروط معينة لمن تؤدي معلوماته إلى كشف جرائم فساد على أن تعتبر قرارات الهيئة ملزمة وواجبة التنفيذ من قبل وزارة المالية.

بالإضافة إلى ذلك فإن قانون دعم الشفافية في قطاع البترول الصادر سنة 2018 يعطي هيئة مكافحة الفساد دورًا في مراقبة تنفيذ القانون لا سيما في المادة 19 منه التي تنص على صلاحية الهيئة في “استلام الشكاوى المتعلقة بتطبيق أحكام هذا القانون والتحقيق فيها وإصدار قرارات بشأنها”. لكن تبقى هذه الصلاحية مبهمة إذ إنها لا تحدد طبيعة القرارات التي يمكن للهيئة أن تتخذها ، فضلًا عن أن القانون لا يذكر إمكانية الطعن بتلك القرارات.

أمّا بالنسبة إلى الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، فإن المادة 26 من قانون إنشائها، من جملة ما تنص عليه من صلاحيات ومهام للهيئة، فإنها تعطيها دوراً استقصائيًّا للقيام بجميع التحريات عفواً أو بناءً على طلب لتقفي آثار الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً وأماكن الدفن، وصلاحية بالاستماع إلى أيّ شخص قد يحوز على معلومات بشأن هؤلاء من دون أن تحدد صراحة ما إذا كان الشاهد ملزما بالمثول أمام الهيئة.

كما للهيئة صلاحية اتّخاذ الإجراءات بوضع إشارة مؤقتة لستة أشهر كحدّ أقصى على عقارات من المخطط الحفر فيها للبحث عن ضحايا. وللهيئة أن تتخذ كافة الإجراءات لتوقيف أعمال البناء أو الحفر أو تغيير المعالم لحماية مواقع أماكن الدفن. وللهيئة في جميع مهامها بحسب القانون أن تستعين بالضابطة العدلية والأجهزة الأمنية عند الاقتضاء، وهذا ما ورد أيضا في الفقرة الثالثة من المادة 26 من النظام الداخلي التي نصت على حق لجنة نبش أماكن الدفن والتعرف إلى هويات الرفات المدفونة بالاستعانة “بخبراء متخصصين وبالضابطة العدلية لمساعدتها في القيام بمهمتها، تحت إشراف الهيئة”.

ومن المبادئ المهمة التي لحظها النظام الداخلي (الفقرة السادسة من المادة 26) ضرورة  الحفاظ على حياد لجنة النبش عبر التأكد من أن عضو المجلس البلدي الذي يشارك في عضويتها لا ينتمي “إلى أطراف يمكن أن تكون ذات مسؤولية ضمن النطاق البلدي لموقع الدفن المحتمل أو في محيطه، بما يمكن أن يؤثر سلبا وقراراتها. وفي حال وجود أي شك في هذا الصدد، على الهيئة أن تتخذ قرارا معللا بذلك وتدونه في محضر اجتماعها”.

أمّا بالنسبة للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، فإن لها صلاحية استلام الشكاوى في كل ما يتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان وأن تتقصى الوقائع في هذا الشأن. لكن المادة 19 من القانون الخاص بها تعطيها صلاحية تعيين مقرر من أعضائها يتمتع بصلاحيات استقصائية من أجل جمع كافة المعلومات المتاحة بنفسه. لكن المادة المذكورة لا تنص على مؤازرة الضابطة العدلية والقوى الأمنية له في عمله كما في باقي الهيئات، بل تكتفي بالإشارة على أن الجهات التنفيذية والإدارية والقضائية ملزمة في التعاون لإتمام العملية الاستقصائية. وفي حال عدم تعاون السلطات المعنية ضمن مهلة أقصاها أسبوعين من تاريخ تبليغها طلب المقرر، له أن يراجع الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات المناسبة، من دون تحديد ماهيّة هذه الإجراءات.

في النتيجة، وبحسب المادة 20 من القانون، للهيئة حفظ الملفّ أو محاولة حلّ الشكوى عن طريق المفاوضات أو الوساطة في ما يخص الحق الشخصي أو تقديم الإخبارات للنيابة العامة أو مساعدة الشاكي في تقديم المراجعة اللازمة أمام الجهات المختصة. ويلحظ بالمقابل أن المشرّع امتنع عن إعطاء هذه الهيئة إمكانية التحرك عفوا أو تقديم المراجعات أمام القضاء مباشرة دون وجود شكوى لديها مقدمة من جهة أخرى.

يبقى كما ذكرنا أنّ دور هاتين الهيئتين يقتصر في الحالات التي تمت الإشارة إليها على التحرّي والاستقصاء والتحقيق ولا يتعدّاهم إلى الحكم الذي يبقى بيد السلطة القضائيّة إلّا في بعض الحالات المنصوص عليها حصراً.

بالإضافة إلى ذلك فإن المادة 27 من قانون إنشاء الهيئة ينص على أنه بإمكانها إبلاغ النيابة العامة عن وجود أدلّة لديها بخصوص مكان دفن لشخص أو أشخاص مخفيين قسراً على أن تتحرك النيابة العامة على هذا الأساس بما تراه مناسبًا لا سيما وضع اليد على المكان وتسييجه ووضع حارس قضائي عليه. وتنص المادة 27 على أن قرارات الهيئة في هذا الخصوص قابلة للطعن أمام المحاكم الإدارية المختصة، أي مجلس شورى الدولة حاليّا بسبب غياب أي محاكم ادارية أخرى.

للهيئة أيضا في هذا الإطار أن تشكّل لجان مهمتها نبش أماكن الرفاة والتعرّف على هويّات الأشخاص المدفونين. كما أن الهيئة تصدر قرارا بتحديد هوية المدفونين تسلّمه للنيابة العامة وأفراد أسرة المتوفين الذين يحق لهم الإعتراض على مضمونه أمامها خلال مهلة شهر. وانطلاقًا من نص المادة 37، فإن جميع الإجراءات المتاحة في المواد الواقعة في هذا الفصل من القانون قابلة للطعن كما رأينا أمام مجلس شورى الدولة.

الهيئات المستقلّة والسلطة التنفيذية

في هذا الصدد، اعتبر مجلس الشيوخ الفرنسي في تقريره المذكور آنفاً أن دور السلطة التشريعية الرقابي قد تقلّص بفعل تحويل الصلاحيات الحكومية إلى الهيئات الإدارية المستقلّة. إذ إنّه بالرغم من اتصال الهيئات الإدارية المستقلّة بالسلطة التنفيذية بحكم غياب أي حل آخر (par défaut)، فإنها غير خاضعة لرقابتها نظراً لطبيعة هذه الهيئات.

وعلى الرغم من خضوع هذه الهيئات لرقابة القضاء الإداري لكن ذلك لا يجب أن يحجب التبدل الذي أصاب دور البرلمان بسبب استحداث الهيئات المستقلة لا سيما أن هذه الأخيرة تحوز على صلاحيات رسم الخطط والتعيين وإدارة وتنظيم قطاعات معيّنة أي أنها تتخذ قرارات قد تكون لها تداعيات سياسية مهمة ما يفترض وجود رقابة على عملها. لكن الهيئات الإدارية المستقلّة التي تمارس صلاحيات تعود أساساً للحكومة، لا تخضع اليوم للرقابة البرلمانية التي كانت تخضع لها الحكومة عندما كانت تمارس هذه الصلاحيات بنفسها مباشرة أو عبر الإدارة العامة التي تخضع للسلطة التسلسلية للوزراء.

فالمجالس النيابية في فرنسا وفي لبنان لا يمكنها إلّا محاسبة الوزراء ما يعني أن تخلي الحكومة عن صلاحياتها يسمح لها بالتنصل من أيّ مسؤولية متذرعة بوجود الهيئات المستقلّة ما يؤدّي إلى “إفقار ديمقراطي”  في الرقابة التي تمارسها السلطة التشريعية في كل من فرنسا ولبنان[7].


 غير أنّ التوسّع في اعتبار أن صلاحيات الحكومة كما سبق وأشرنا قد انتقلت إلى الهيئات المستقلّة في لبنان غير جائز. إذ قد ينطبق هذا التحليل على الهيئات المستقلة الفرنسية بتعدد وظائفها وقدرتها على أخذ قرارات نافذة ومؤثّرة على الإدارة ، غير أنّه بالنظر إلى الهيئات المستقلة اللبنانية وخصوصاً المشكّلة منها والتي تعمل، وباستثناء هيئة الشراء العام التي تملك صلاحيات تقريرية حاسمة،  يتبيّن لنا أنّ هذه الهيئات  ليست دائماً الجهة التقريرية النهائية إذ أغلب مهامها ذات طابع استشاري أو استقصائي بغض النظر عن تأثيره على صاحب القرار النهائي.

الخلاصة

شكل استحداث الهيئات المستقلة الإدارية ظاهرة جديدة في المشهد القانوني اللبناني إذ أنها كانت تعكس رغبة السلطة السياسية في تقديم صورة إيجابية عن نفسها أمام ليس فقط اللبنانيين بل أيضا المجتمع الدولي. ولا شك أن بعض هذه الهيئات، كهيئة المفقودين، يعبر عن تطور مهم نتيجة عقود من النضال بغية تمكين المجتمع من التصالح مع ماضيه المأساوي.

لكن استحداث هذه الهيئات لا يعتبر كافيا في حال لم تكن تملك الأدوات القانونية التي تتيح لها ممارسة مهامها باستقلالية وتخولها أيضا اتخاذ قرارات نهائية وليس مجرد التواصل مع المراجع القضائية المختصة. لذلك يتوجب التنبه أن السلطة السياسية التي تقدم نفسها بوصفها حريصة على مكافحة الفساد قد تعمد إلى إنشاء تلك الهيئات من دون تمكينها من ممارسة مهامها كي تتمكن من إبقاء سيطرتها على مؤسسات الدولة والمجتمع عبر الاستمرار في انتهاج الوسائل الزبائية ذاتها القائمة على المحاصصة وصرف النفوذ.

ولا شك أن العبرة لا تكمن في التسميات القانونية التي تطلقها القوانين على هذه الهيئات إذ ما نفع الاستقلالية في حال كانت هذه الأخيرة مجردة من أي سلطة تقريرية فعلية بحيث ينحصر دورها في كثير من الأحوال بتقديم الاستشارات وتوجيه الطلبات إلى جهات أخرى من دون منحها الوسائل التنفيذية الضروريّة التي تعطي الاستقلالية معناها الكامل.


[1]  Michel Degoffe, Les autorités publiques indépendantes, AJDA 2008 p.622.

[2] Aurélie Cappello, Répertoire de droit pénal et de procédure pénale, autorités administratives indépendantes, Dalloz, 2016

[3] Rapport fait au nom de la commission d’enquête sur le bilan et le contrôle de la création, de l’organisation, de l’activité et de la gestion des autorités administratives indépendantes, N.126, Sénat, session ordinaire de 2015-2016

[4] “Dès leur conception, des autorités administratives indépendantes ont pu être envisagées comme des substituts au juge. Appartient à cette catégorie la Commission d’accès aux documents administratifs qui, si n’était le recours administratif préalable obligatoire qui doit être porté devant elle avant toute instance, aurait tous les aspects extérieurs d’une juridiction administrative spécialisée. Parallèlement, en lieu et place des juridictions, certaines autorités administratives indépendantes exercent des pouvoirs quasi-juridictionnels, sans au demeurant que le respect du principe du contradictoire soit toujours formellement assuré. Si, dans un premier temps, le Conseil constitutionnel s’est refusé à voir ces autorités comme des juridictions, fidèle en cela au rattachement qu’il faisait de ces autorités à l’exercice du pouvoir exécutif, il s’est rallié aux exigences de la jurisprudence européenne. Prenant acte de la coloration juridictionnelle qui entoure une partie de leurs décisions, le juge constitutionnel s’est résolu à imposer une stricte séparation entre l’autorité de poursuite et la formation de jugement au sein de l’autorité administrative indépendante lorsqu’elle inflige une sanction administrative.” (Ibid. p.29)

[5]  يوسف سعدالله الخوري، القانون الإداري العام، الجزء الأول، المنشورات الحقوقية صادر ، بيروت، 1998، ص. 195-208.

[6] جريدة النهار في عددها الصادر في 12 آب 2023.

[7] Rapport fait au nom de la commission d’enquête sur le bilan et le contrôle de la création, de l’organisation, de l’activité et de la gestion des autorités administratives indépendantes, N.126, Sénat, session ordinaire de 2015-2016، p.32

انشر المقال

متوفر من خلال:

مرسوم ، اختفاء قسري ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني