الهيئات الإدارية المستقلة، ظاهرة جديدة في نظام سياسي قديم (1): الدوافع لإنشاء الهيئات المستقلة والموانع أمامه


2023-04-07    |   

الهيئات الإدارية المستقلة، ظاهرة جديدة في نظام سياسي قديم (1): الدوافع لإنشاء الهيئات المستقلة والموانع أمامه
رسم رائد شرف

شكل استحداث الهيئات المستقلة ظاهرة لم تكن طبيعتها مألوفة في النظام القانوني اللبناني. إذ إنها لا تدخل ضمن تعداد المؤسسات العامة (كمؤسسة كهرباء لبنان أو مياه بيروت وجبل لبنان مثلاً) كما يبدو من قوانين إنشائها، فيما تمنحها هذه القوانين ثلاث صفات أساسية وهي الاستقلالية المالية والإدارية كما الشخصيّة المعنوية، ولا تلحظ أيّ سلطة وصاية عليها.

إنّ الغموض الذي يشوب الطبيعة القانونية لهذه الهيئات طُرح أيضا في فرنسا عندما تم استحداث هذه الهيئات لأول مرة، إذ إن هذه الطبيعة لم تحسم بشكل صريح وفوري بل ظلّ النقاش عالقاً حتى صدور قانون سنة 2017 الذي نظّم إنشاء الهيئات المستقلة الفرنسية، فحصّن وجودها كفئة من السلطات المستقلّة القائمة بنفسها. أمّا الهيئات المستقلّة في لبنان فلم يعالجها حتى الآن الفقه بشكل واف ولم يأتِ المشرّع بقانون يضع قواعد عامة ترعاها. لذلك فإن النقاش حول طبيعتها القانونية لا يزال مفتوحاً وهذا ما سنحاول تناوله في جانب من هذه المقالة البحثية.

بالإضافة إلى ذلك، تكمن خصوصية الهيئات المستقلّة في كونها لا تخضع لسلطة الوصاية، تميّزها عن سابقاتها من الهيئات كالهيئة الوطنية للمرأة اللبنانية[1] وحتى ما أنشئ منها مؤخّراً كهيئة إدارة قطاع النفط[2]، إذ إنّ هاتين الهيئتين غير مستقلّتين أي أنهما تخضعان لسلطة الوصاية من قبل الوزير المعني أو حتى رئاسة مجلس الوزراء.

انطلاقاً من هذه الاعتبارات، اخترنا أن ندرس الهيئات المستقلّة الأربع المنشأة خلال السنوات الأخيرة وهي: الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً وهيئة الشراء العام. وقد وقع خيارنا على هذه الهيئات بالتحديد بالرغم من وجود هيئتين مستقلّتين أقدم منهم هما هيئة إدارة قطاع الكهرباء وهيئة إدارة قطاع الاتصالات. وذلك لأنّ الهيئات الأربعة ناشئة عن ديناميّة واحدة في ذهن المشرّع، وإنّ القوانين المنشئة لها متشابهة إلى حدّ كبير في أحكامها وموجباتها، وأخيراً إنّ هذه الهيئات سلكت طريقها إلى التشكيل والعمل بعكس سابقاتها التي بقيت حبراً على ورق أو معطلة بالرغم من أهميتها وضرورتها الملحّة.

يبقى أنّ وجود هذه الهيئات المستقلّة بما تتحمله من مسؤوليات ملقاة على عاتقها لا يبدو لنا أمرًا حتميّا يفرضه البناء التشريعي أو الإداري للدولة. إذ أن المهام الموكلة لهذه الهيئات تقع في الأساس على عاتق السلطات الدستورية التقليدية وإدارات الدولة. لذلك، فإن ما يبرر إنشاء هذه الهيئات قد يكون المميزات الإضافية التي تؤمّنها الهيئات المستقلّة بالنسبة لإدارات الدولة وأهمّها التخصّص والاستقلالية، لتتحمّل هذه الهيئات ما قد يبدو أنّ الدولة بإداراتها ومؤسساتها التقليدية مترددة أو متقاعسة عن تحمّله. وقد برز هذا الأمر في فرنسا أوّلاً بخصوص موضوع تحصين حماية البيانات الشخصية عند إنشاء أوّل هيئة مستقلّة وهي الهيئة الوطنية للمعلوماتية والحريات التي سنتناولها لاحقاً، إذ إن الدافع لإنشائها كان التخوّف من عدم قدرة الإدارة التقليدية للدولة أن تضمن حفظ البيانات الشخصية للمواطنين وحماية حياتهم الخاصة أمام تحديات المعلوماتية والتطور. ولاحقاً، تعددت الأسباب التي أدّت إلى وصول المشرّع الفرنسي إلى إنشاء ما يقارب الأربعين هيئة مستقلّة، تم إعادة ترتيبها لاحقاً بقانون سنة 2017.

لكن الاستقلالية الفعليّة المبتغاة من إنشاء الهيئات المستقلّة لا تنحصر فقط في فصل هذه الهيئات عن سلطة الإدارة التراتبية على الرغم من أهمية هذا الأمر، بل هي لا تكتمل إلا تحديدا بالفصل بين الهيئات المستقلّة والسلطة السياسية. ويتجلّى هذا الانفصال أوّلاً في تحرّر الهيئات المستقلّة من سلطة الوصاية التي يمارسها الوزراء والجهات السياسية التي قد تقف خلفهم، وثانيا عبر إقرار مجموعة من الأحكام الخاصة التي تضمن استقلالية الهيئة عند تعيين الأعضاء كما في رصد ميزانياتها وموانع الإقالة وإمكانية التجديد للأعضاء.

فيجدر السؤال هنا بالنسبة للهيئات المستقلة اللبنانية، هل إن إنشائها هو من أجل زيادة التخصص في مجال معين وتعزيز ضمانات الاستقلالية مقارنة بإدارات الدولة التقليدية؟ أم إنّ إنشاء الهيئات المستقلّة اللبنانية هو تساهلٌ في استبدال السلطات الدستورية التقليدية وإدارات الدولة المتهالكة والمكبّلة بالفساد والتحاصص بإدارات بديلة تصلح كواجهة برّاقة للسلطة السياسية علما أنها قد لا تسلم هي بدورها من المحاصصة؟

ولا شك أن المواضيع التي تخصصت بها الهيئات المستقلّة اللبنانية تشي بوجود تقاعس من السلطات التقليدية والإدارات المعنية عن القيام بواجباتها. فهل من داعٍ لإنشاء هيئة لتتحرّى عن الفساد في القطاع العام في ظلّ وجود قضاء فعال ونزيه؟ وهل من ضرورة لإيجاد هيئة تتابع ملفّ المفقودين في ظل نظام سياسي عالج تداعيات الحرب الأهلية وعمل جديا على تحقيق العدالة وإنصاف ضحايا العنف  المسلح؟ كذلك الأمر بالنسبة إلى هيئة الشراء العام والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان.

لهذه الأسباب، يبدو لنا أن وجود الهيئات المستقلّة اللبنانية هي نتيجة لعدم الثقة في مؤسسات الدولة وليس نابعاً من خطة حقوقية ومؤسساتية صحيحة تبدأ أوّلًا بمعالجة مكامن الخلل في الدولة وإداراتها لتنتقل منها إلى الاستعانة بوسائل جديدة كالهيئات المستقلّة، وهذا ما سنحاول توضيحه في هذه المقالة.

غير أنّ هذه الانطلاقة التي تبدو متعثرة للهيئات المستقلة لا تعني أنّها حتماً فاقدة للفعالية. وقد تكون الهيئات المستقلّة الباب للقيام بإصلاحات جوهرية شريطة منحها الوسائل القانونية والعملية وأن تكون ضمانات الاستقلالية المعطاة لها فعّالة ومصونة وليست فقط شعارات غير قابلة للتطبيق. فهل تضمن النصوص القانونية التي استحدثت هذه الهيئات استقلالية هذه الأخيرة فعليًّا وتحررها ليس فقط من الوصاية القانونية للإدارة المركزية بل أيضا من الوصاية السياسية التي باتت السلطة الخفية الفعلية التي تهيمن على كل مفاصل الدولة والمجتمع في لبنان؟

للجواب على هذه الأسئلة المتعددة، نتناول في هذه المقالة الهيئات المستقلّة بشكل عامّ بحيث نناقش طبيعتها القانونية وخصائصها كما وردت في قوانين إنشائها، ذلك ضمن مقارنة مع الهيئات المستقلّة في فرنسا، توضيحاً لدوافع إنشائها ومدى استقلاليتها الفعليّة عن السلطة السياسية بالنظر إلى طابعها الجماعي وتعيين أعضائها وأنظمتها الداخلية وموازناتها.

الدوافع لإنشاء هيئات مستقلة 

إن الفقه الفرنسي يعرّف الهيئات المستقلّة على أنها : “هيئات تعمل باسم الدولة بطريقة مستقلة، أي أنها لا تخضع لسلطة الحكومة ومجلس النواب، ولكنها تخضع لمراقبة السلطة القضائية، وهي تتدخل لتنظيم قطاعات اقتصادية أو لحماية الحريات أو لتنظيم العلاقات بين الإدارة والمواطنين”[3].


وفي تقرير له صدر سنة 2001، يجمع مجلس شورى الدولة الفرنسي ثلاث خصائص موجودة في كافة الهيئات المستقلة  الفرنسية وهي : امتلاك سلطة، الطبيعة الإدارية، وامتلاك ضمانات استقلالية[4]

وقد دار النقاش الفقهي في فرنسا حول تحديد الطبيعة القانونية للهيئات المستقلّة التي تألفت من فئتين: الهيئات الإدارية المستقلة (Autorités administratives indépendantes) ومن ثم تبعتها الهيئات العامة المستقلة (Autorités publiques indépendantes) حيث اعتبر بعض الفقهاء أن هذه الهيئات قد تكون بمثابة مؤسسات عامة مقنّعة. غير أنّ هذه النظريّة، وإن كانت تستقيم في فرنسا بالنسبة إلى بعض الهيئات المستقلّة، إلّا أنّها لا تستقيم بالنسبة إلى الهيئات المستقلّة اللبنانية.

فمن المعلوم أن المؤسسات العامة تمتلك الشخصيّة المعنويّة وميزانية مستقلّة وهي متخصصة في مجال معيّن، وذلك بشكل مشابه للهيئات المستقلّة. إلّا أن هذه المؤسسات، وبالرغم من انفصالها عن التراتبية الهرمية للإدارة (la hiérarchie de l’Administration) إلّا أنّها تبقى خاضعةً لسلطة الوصاية. وقد طرح السؤال في فرنسا عن الأشكال المتعددة التي قد تأخذها هذه الوصاية وهل أن الهيئات المستقلّة خاضعة لشكلٍ منها، ما يردّها إلى خانة المؤسسات العامة.

وبحسب العلّامة رينيه شابو (René Chapus)، فإن سلطة الوصاية تنقسم إلى قسمين، فتكون إمّا سلطة قادرة على إلغاء أو تصديق قرارات السلطات اللامركزية أو منحها أذونات مسبقة لأخذ قراراتها أو الحلول محلّها في بعض الحالات. أمّا في شكلها الآخر، فتنطوي الوصاية على أن يكون لسلطة الوصاية إمكانية إحالة قرارات السلطة اللامركزية إلى القضاء الإداري[5]. بمعنى أن سلطة الوصاية في فرنسا، أكانت تتجسد في ممثل الدولة المركزية (Préfet) أو أي سلطة أخرى، عند استلامها قرارات السلطة اللامركزية، لها أن تحيلها إلى مراقبة القضاء المختص طالبة إلغاء القرارات أو تعديلها.

في هذا الإطار، اعتبر الفقه الفرنسي في فترة ما قبل صدور قانون 2017 (المنظّم للهيئات المستقلة) أن بعضاً منها، لا سيما السلطات العامة المستقلة، خاضعة لهذه الإمكانية في إحالة قراراتها إلى القضاء الإداري، ما يعيدها إلى خانة المؤسسات العامة[6]

أمّا في لبنان، وبعد مراجعتنا لقوانين إنشاء الهيئات الأربعة التي يشملها هذا المقال، لا نجد أيّا من مقومات سلطة الوصاية المذكورة آنفاً، لا سيما إحالة قرارات الهيئات من قبل سلطة معيّنة إلى المحاكم الإدارية، بل فقط إمكانية أي صاحب صفة ومصلحة أن يطلب مراجعة بعض قرارات الهيئات أمام هذه المحاكم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن قوانين الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً (تحديداً المادة 9) والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (تحديداً المادة 6) والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان (تحديداً المادة 2) تنص على أن أعضاء الهيئة والموظفين التابعين لها يؤدّون مهامهم باستقلال كامل من دون التقيّد بأي توجيهات من أي مرجع. أمّا قانون إنشاء هيئة الشراء العام فلا يتضمن أي نصّ مشابه.

بذلك، ومع انتفاء أيّ نوع من سلطة الوصاية على الهيئات المستقلّة، يمكن القول بأن هذه الهيئات ليست مماثلة للمؤسسات العامة، وأن استقلاليتها عن السلطة المركزيّة باتت من هذه الناحية أكبر من الاستقلالية التي تتمتع بها المؤسسات العامة.   

علاوة على ذلك، وبالرغم من أوجه الشبه بين الهيئات المستقلّة والمؤسسات العامة لناحية حيازتها على الشخصية المعنوية وحصر اختصاصها ضمن مجال أو مرفق محدد (أي أنهما لا يمتلكان تفويضا عاما بالصلاحيات) إلّا أن الهيئات المستقلّة، خلافا للمؤسسات العامة التي ترتبط بالإدارة المركزية ما يحتمّ وجود سلطة الوصاية عليها، قد أنشئت في فرنسا تحديدا كي تتمايز عن غيرها من السلطات اللامركزية في انفصالها عن الإدارة لتمكينها من الاستجابة للمتطلبات الجديدة للدولة في تنظيمها الشأن العام كون الإستقلالية الذاتية (autonomie) التي تتمتع بها المؤسسات العامة لم تعد تفي بالمطلوب. وهكذا يتبين لنا أن المؤسسات العامة هي جسم متفرع عن الجهاز المركزي بينما الهيئات المستقلة لا تخضع للمنطق ذاته كونها لا تعتبر سلطات متفرعة عن الإدارة العامة ولا هي ترتبط بها حتى لو اتخذ هذا الرابط شكل الوصاية فقط.

وتتّضح أيضاً الأسباب نفسها التي ذكرناها والتي دفعت إلى إنشاء الهيئات المستقلّة الفرنسيّة في تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي سنة 2016، حيث يتبيّن أنّ الحاجة إلى هيئات إدارية مستقلّة نشأ لكي تكتسب هذه الهيئات ضمانات استقلالية وتعمل في مجالات يُعتبر فيها تدخّل الإدارة غير مناسب، خاصة في موضوع حماية الحريات وتنظيم قطاعات اقتصادية. غير أنّه يتبيّن أيضاً من خلال هذا التقرير أن الهيئات المستقلة نشأت في بعض الأحوال بعد فضيحة سياسية أرادت الحكومة أن تجد لها حلا تشريعيا. فباتت الهيئات المستقلة تنشأ في الكثير من الأحوال بهدف جني المكاسب السياسية أو بسبب الريبة تجاه إدارات الدولة التقليدية كما بسبب فقدان الحكومة للشجاعة في تحمّل مسؤولية قرارات معيّنة حيث تفضّل إلقاء هذا العبء على هيئة تكون مستقلّة عنها. 

ويؤكّد تقرير مجلس الشيوخ المذكور أن الهيئات المستقلة بدأت تشكّل صدى للريبة المحيطة بإدارات الدولة، وإن تكوينها يغذّي الشعور بعجز الإدارات عن تولّي مهمات كانت في السابق منوطة بها[7].

ومن أوجه التشابه أنّ الهيئات المستقلّة اللبنانية نشأت أيضاً بسبب تعثّر الإدارة والحكومة عن قيامها بعملها لاسيما في موضوع إدارة المناقصات مثلاً وإن كان ذلك يعود إلى أسباب خارجة أحياناً عن إرادة المسؤولين والموظفين في هذه الإدارة، حيث يعود الخلل إلى شبهات الفساد التي باتت تحيط دائما بعقود الشراء العام الأمر الذي أفقد المواطنين ثقتهم بمؤسسات الدولة.

يُطرح إذاً هنا السؤال، عن مدى تطابق الهيئات المستقلّة اللبنانية مع علّة وجودها أي فصلها بأكثر قدر ممكن عن السلطة السياسية الحاكمة كي تمارس عملها باستقلالية، وهل هي نشأت بدفع داخلي بسبب الفضائح التي شهدتها المؤسسات الرسمية أو هي كانت استجابة محلية لتوجه عالمي قضى بإنشاء هيئات كهذه كي تتمكن السلطة الحاكمة من تقديم صورة إيجابية عن نفسها أمام المحافل الدولية.

من الواضح أوّلاً أن هيئتيْ الشراء العام ومكافحة الفساد قد نشأتا بعد سلسلة طويلة من فضائح الفساد في التلزيمات وإدارة الدولة لمشاريعها ومشترياتها وقد انعكس ذلك في موجة الاحتجاجات التي انطلقت في 17 تشرين الأول 2019 والتي هدفت إلى التنديد بالفساد المستشري في مختلف مؤسسات الدولة. وإذ ترافق الحراك الداخلي مع مساع دولية شددت على ضرورة إصلاح الإدارة من أجل مكافحة الفساد البنيوي الذي يعاني منه لبنان.

وقد ذكرت الأسباب الموجبة لقانون مكافحة الفساد في القطاع العام صراحة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2003 وأصبحت نافذة سنة 2005 ووافق عليها مجلس الوزراء بتاريخ 15 حزيران 2006 وصدقها مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 8 تشرين الأول 2008. وقد اعتبرت الأسباب الموجبة أن هذه الاتفاقية هي من الأهم والأشمل في موضوع مكافحة الفساد ما يوجب على الدولة اتخاذ إجراءات عملية لتطبيقها داخليا.

ومن اللافت في هذا الإطار أنّ الأسباب الموجبة لقانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تشير أيضا إلى “استشراء الفساد في المجتمع اللبناني وفي القطاع العام على وجه التخصيص”. تحمل هذه الجملة أهميّة كبرى إذ إنّها تعبّر عن إقرار رسمي بالفساد الموجود في الإدارات اللبنانية، غير أنّ المشرّع يُسبق هذا الإقرار بتوصيفٍ لفساد موجود “في المجتمع اللبناني”، وهو تعبير مطاط ويحمل الكثير من التعميم ولا داعٍ لوجوده في هذا النص إلّا كمحاولة لتبرير الفساد في القطاع العام من خلال تظهيره كامتداد طبيعي وحتمي لفساد أكبر يضرب المجتمع بأكمله، بينما السبب الفعلي لذلك هو الفساد السياسي الذي تمارسه السلطة السياسية عبر الزبائنية والمحاصصة بحيث تتحول مؤسسات الدولة إلى مواقع نفوذ يتقاسمها مختلف أركان النظام.

وهكذا يتبين أن الأسباب الموجبة تنطلق من موقف أخلاقي إذ تعتبر أن الفساد هو أمر مجتمعي يقوم به بعض الأفراد ومن أجل مكافحته يمكن الاكتفاء بحلول تقنية يتمّ إدخالها عبر تبنّي تشريعات جديدة. فالفساد في هذه الحالة يقتصر على الفساد البيروقراطي بينما يتمّ تجاهل الفساد السياسي ومسؤوليته الكبرى في ضرب منطق الدولة وعرقلة العمل الطبيعي والشفاف للمؤسسات الرسمية.   

أمّا بخصوص هيئة الشراء العام، فإنّ الأسباب الموجبة تذكر العديد من الأسباب التي دفعت المشرّع اللبناني إلى إقرار القانون الذي ينظّم الصفقات العمومية ويضعها تحت إشراف هيئة مستقلّة. من أهمّها توحيد القوانين والمعايير التي ترعى الشراء العام في لبنان وتطويرها كي تراعي تلك المعتمدة دوليًّا وهي فتح مجال المنافسة لا سيما أمام المؤسسات المتوسطة والصغيرة واحترام معايير الشفافية والنزاهة من قبل الجهة الشارية والقطاع الخاص وتأمين الجهاز البشري المتخصص والقادر على ممارسة وظيفته وعلى التصرف بالمال العام بأعلى مستويات من المهنية والفعالية والنزاهة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة (الاقتصادية والبيئية والاجتماعية) التي التزمت بها الحكومة اللبنانية. ويهدف القانون أيضاً إلى أقلمة مبادئ الشراء العام في لبنان مع التوجيهات الصادرة عن جهات عديدة تسمّيها الأسباب الموجبة وهي الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والمفوضية الأوروبية والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية. وتذكر الأسباب الموجبة دافعا مهمّا كان التزام لبنان في مؤتمر “سيدر” الذي عقد في باريس في نيسان 2018 بالقيام بإصلاحات قطاعية وأخرى شاملة وعابرة للقطاعات.

ذلك أنّ المسح الدولي للشراء العام (MAPS) المذكور في الأسباب الموجبة قد أشار إلى وجوب توحيد الإجراءات واعتماد معايير واضحة. وأثار المسح إلى لجوء مفرط في الشراء بالتراضي. ويشير المسح إلى دور الجهات المعنية في الشراء العام ولجوئها إلى استثناءات تتناقض مع القوانين والمبادئ كما وتفسيرات متعددة مما يزيد مخاطر الممارسة الانتقالية. وللمفكرة القانونية في هذا الشأن مقالة تبيّن الخلل الكبير الحاصل في منظومة الشراء العام قبل إنشاء الهيئة ما حتّم على السلطة السياسية الانتقال إلى مفهوم جديد وإدارة جديدة لهذا القطاع. 

يبقى في النهاية أن الاحتجاجات الكبيرة التي عمّت لبنان ابتداءً من 17 تشرين الأول 2019 كانت الدافع الحاسم الذي أدّى بالطبقة السياسية الممثلة في المجلس النيابي إلى الاستعجال في تصديق القوانين الإصلاحية لا سيما تلك المتعلّقة بمحاربة الفساد، تخفيفاً من احتقان الشارع وإرسالاً بالإشارات إلى الجهات الدوليّة المانحة، خاصة صندوق النقد الدولي الذي يصور أنه مدخل الخروج من الانهيار الاقتصادي الذي أصابه أواخر عام 2019.

أمّا بالنسبة إلى الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، فإن الأسباب الموجبة تنص على أن إنشاء الهيئة تمّ تلبيةً لمتطلبات الدستور اللبناني لناحية تعزيز وحماية حقوق الإنسان أوّلاً، ومن ثمّ استجابةً لالتزامات لبنان الدولية لا سيّما ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وخصوصاً قرار الهيئة العامة رقم 48 – 134 لعام 1993 حول إنشاء مؤسسات وطنية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان والمعروفة «بمبادئ باريس». وقد تعهد لبنان أمام مجلس حقوق الإنسان بإنشاء هيئة وطنية تعنى بحماية وتعزيز حقوق الإنسان في إطار آلية الاستعراض الدوري الشامل في تشرين الثاني 2010. وتنص الأسباب الموجبة على أن الهيئة أعطيت صلاحية التحقيق بانتهاكات القانون الإنساني الدولي، مما يسمح لها بالتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية تجاه الشعب اللبناني وأراضيه أثناء حروبها العدوانية.

أخيراً، بالنسبة إلى الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، فإن مسار إنشائها كان طويلاً وشاقاً وقد تناولته المفكرة القانونية في مقال لها سنة 2019. حيث أنّ معالجة قضيّة المفقودين والمخفيين “بدأت في ظلّ حكومة الرئيس سليم الحصّ في سنتي 1999 و 2000 ، وارتكزت أوّلاً على تعيين لجنة من رؤساء الأجهزة الأمنية انتهت في سنة 2000 إلى وضع تقرير من صفحتين ونصف خلاصته أن يوجد العشرات من المقابر الجماعية في لبنان (عددت 4 منها فقط) وأن جميع المفقودين خلال الحرب قد ماتوا. وقد أوصت اللجنة بإعلان وفاة جميع هؤلاء من دون أن تجلي مصير أيّ منهم. وقد عيّنت فيما بعد لجنتان في 2001 و2005 لم تسفرا عن أي نتيجة تذكر على صعيد جلاء مصائر المفقودين”. من ثمّ توجّه نضال أهالي المفقودين والمخفيين نحو القضاء وبالتحديد مجلس شورى الدولة الذي أنصفهم سنة 2014 بإعلان حق المعرفة لذوي المفقودين والمخفيين قسراً. تبع ذلك تقديم مسودة قانون سنة 2014 وصل إلى خواتيمه سنة 2019 بالتصديق في مجلس النواب.

معارضة إنشاء الهيئات يكشف طبيعة النظام السياسي اللبناني

يتبيّن من مراجعة محاضر مجلس النواب أن ضرورة إنشاء الهيئات المستقلّة لم تكن قناعة راسخة لدى جميع النواب. ففي شأن هيئة المفقودين والمخفيين قسراً كما بشأن هيئة مكافحة الفساد، برزت معارضة للنواب حول ضرورة إنشاء هذه الهيئات لعدّة اعتبارات متعلّقة بفعالية الهيئات والجدوى منها إضافة إلى الأعباء المالية الجديدة التي ستتحملها خزينة الدولة كنفقات تتعلق بعمل هذه الهيئات.

ففي محضر جلسة 26 حزيران 2019 لمجلس النواب التي صُوّت فيها على قانون مكافحة الفساد، تركّز نقاش النواب حول الجدوى من إنشاء هيئة لمكافحة الفساد زاعمين أنّ هذه الهيئة لن تقدر على القيام بما لم تفلح فيه كل الإدارات والقضاء في موضوع الفساد وأنّها لن تجدي نفعاً، وقد أثير هذا الأمر من قبل نواب حزب الله والنائب نعمة افرام. وقد اقترح هذا الأخير استبدالها بغرفة في القضاء العدلي كما اقترح الوزير سليم جريصاتي أن يتم التريّث في إقرار القانون ريثما تقرّ الحكومة استراتيجية مكافحة الفساد.

ولا شك أن توقع بعض النواب فشل الهيئة بالقيام بدورها هو نقطة بالغة الأهمية لناحية ما تكشفه حول حقيقة الفساد في لبنان كون الإقرار بفشل القضاء والإدارة وعدم جدوى إنشاء هيئة جديدة يشي بأن الفساد هو نتيجة نظام سياسي متكامل ولا يمكن معالجته بحلول تقنية. فبدل أن تعمد السلطة السياسية إلى إصلاح القضاء والإدارة من أجل الحد من الفساد تقوم باستحداث هيئة جديدة لذلك مع الإبقاء على سيطرتها الزبائية في مختلف مؤسسات الدولة.

من جهة أخرى، يتبين من محضر جلسة مجلس النواب بتاريخ 12 تشرين الثاني 2018 التي أقرت قانون إنشاء هيئة المفقودين والمخفيين قسرا أن المادة 37 منه قد اثارت جدلا كونها تعاقب كلّ من أقدم بصفته محرّضاً أو فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً في جرم الإخفاء القسري. وقد اعترض عليها بشدّة نائب الحزب التقدمي الاشتراكي أكرم شهيب[8] معتبراً أن هذه المادة قد تطيح بقانون العفو الذي أقر سنة 1991 عقب “الحرب الأهلية” وأنّ إنشاء الهيئة يعيد فتح الجروح والمقابر التي أقفلت مع الوقت.

ولا شك أن موقف النائب أكرم شهيب الذي يعتبر أن اكتشاف الحقيقة من شأنه تهديد السلم الأهلي يعكس إقرارا ضمنيا منه بأن الجهات المسؤولة عن ارتكاب هذه الجرائم خلال الحرب لا تزال قادرة على اللجوء إلى العنف من أجل الدفاع عن مصالحها والحفاظ على سلطتها داخل النظام. فالدولة اللبنانية التي سيطرت عليها ميليشيات الحرب باتت عاجزة عن القيام بواجبها من أجل جلاء مصير المفقودين ما حتم إنشاء هيئة مستقلة يمكن للمجتمع ولذوي الضحايا الوثوق بها.


[1] المنشأة بالقانون رقم 720 الصادر سنة 1998.

[2] المنشأة بالقانون رقم 132 الصادر سنة 2010 والمنظمة بالمرسوم رقم 7968 تاريخ 7 نيسان 2012.

[3] Aurélie Cappello, Répertoire de droit pénal et de procédure pénale, autorités administratives indépendantes, Dalloz, 2016.

[4] Les autorités administratives indépendantes, Rapport public du Conseil d’État, 2001, Études et documents no 52، مذكور في المرجع السابق

[5] René Chapus, Droit administratif, 15e édition, Montchrestien, pp. 409-411.

[6] Michel Degoffe, Les autorités publiques indépendantes, AJDA 2008 p.622.

[7] Rapport fait au nom de la commission d’enquête sur le bilan et le contrôle de la création, de l’organisation, de l’activité et de la gestion des autorités administratives indépendantes, N.126, Sénat, session ordinaire de 2015-2016, pp. 15-24.

[8] إقرار قانون المفقودين والمخفيين قسرا بقوة الحراك العام: وقف الاعتداء على ضحايا الحرب في لبنان

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، اختفاء قسري ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني