مخططات “الهجرة الهادئة” من غزة منذ 1967


2024-02-14    |   

مخططات “الهجرة الهادئة” من غزة منذ 1967

تضَع الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للصهيونية، مسألة موازين القوى الديمغرافية، في قلب السياسات الإسرائيلية. تقُوم الصهيونية أسَاساً على فكرة طرد السكان أو نقلهم وإحلال اليهود مكانهم. ورغم الطّواف الطويل للآباء المؤسسين للحركة حول خيارات إقامة دولتهم، الذي انتهى أخيراً في فلسطين بدعم بريطاني، إلا أن مسألة طرد السكان الأصليين تأخذ في فلسطين بالذات بعدا أكثر عمقا من المسألة القومية، نحو حالةٍ من “الوعد الإلهي” المنصوص عليها في الكتاب المقدس. هذه المركزية الذي تحظَى بها المسألة الديمغرافية، كانت شاغلاً إسرائيلياً منذ تأسيس الكيان. حيث جرَى التأسيس أولاً، على حساب تهجير آلاف السكان العرب، خلافاً حتى لقرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة، والذي تتكئ عليه إسرائيل في تَثبيت شرعية وجودها دولياً.

وقبل ذلك، لعبَت مسألة الهجرة والهجرة المضادة، خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، دوراً أساسياً في إنتاج واقع ديمغرافي جديد، أوجد شروطاً غير مسبوقة لإقامة الكيان الإسرائيلي. وقد كانت هذه السياسة مدفوعة بدعم غربي وحتى سوفياتي. إلى حدود العام 1946، كان الفلسطينيون من غير اليهود يُشكّلون الأغلبية في 14 من أصل 16 منطقة في فلسطين، حيث بلغ عددهم 1,237,334 مقابل 608,225 يهوديًا، بعضهم من السكان الأصليين في فلسطين فيما بعضهم الآخر من الوافدين ضمن موجات الهجرة التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر[1]. ومع ذلك، إذا كان المشروع الصهيوني يبدو غير عقلاني في عام 1897، فإنه لا يبدو أن هناك شيئا قادرا على منعه من النجاح بعد الحرب العالمية الثانية. من عام 1919 إلى عام 1946، حيث زاد عدد السكان اليهود من 9.7% إلى 35.1%، وضَمنت الوكالة اليهودية الاكتفاء الذاتي الغذائي من خلال المُستعمرات الخصبة. ومع نهاية الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948، تمّ إخلاء 685 تجمعاً سكانياً فلسطينياً، جزئياً أو كلياً، من بينها سبعون حالة صاحبَتها مجازر بحق المدنيين. فيما أصبحت 78% من فلسطين التاريخية مُحتلة من قبل القوات الصهيونية. وبلغ عدد اللاجئين 805 ألفا، بينهم 10% من الطبقات الغنية الذين يبدو أنهم فرّوا طوعاً قبل اندلاع الأعمال العدائيّة. وقد مَنحَت عمليات الترحيل القسري إسرائيل 300 ألف هكتار من الأراضي، و73 وحدة سكنية، و8700 وحدة تجارية، وما يقرب من 5 ملايين جنيه إسترليني كأموال منهوبة.[2]

وبموازاة عمليّات النّقل والتهجير القسري التي حدثَت على مدى سبعين عاماً، خلال الحروب والانتفاضات، فإنّ إسرائيل كانت تعمل دائماً، حتى في أوقات السلمّ، على إفراغ فلسطين من سكّانها من خلال أساليب الهجرة الهادئة، لدرء انتقادَات المجتمع الدولي، وكي لا تُثير المجتمع الفلسطيني. فقد شكّلَ العبء الديمغرافي الفلسطيني دائماً عقبةً أمام جَميع الحكومات الإسرائيلية في السيطرة على المجال، وربّما كان هو الدّافع الذي جعلَ حكومة إسحاق رابين تُوافق في النهاية على اتفاقية أوسلو عام 1993، كي تتخلّص من أعباء إدارة الضفة والقطاع، فوجدت في نموذج “السلطة” أفضل بديل للإدارة المحلية دون أن تَفقدَ في الوقت نفسه سيادتها المطلقة على فلسطين.

ومنذ بداية الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، عادَتْ أفكار نقل السكان وتهجيرهم بالقوة إلى ساحة النقاش الإسرائيلية. وعملياً تبدو الهجمات العشوائية التي يُنفذّها سلاح الجو الإسرائيلي على التجمعات السكنية في القطاع، دون تحديد أهداف عسكرية واضحة، تصبّ في هذا التوجه لإفراغ القطاع من سكانه، من خلال جعله مكاناً غير صالح للحياة. وبحسب تقرير للبنك الدولي نُشر منتصف الشهر الماضي، فقد أصيب حوالي 60% من المساكن في قطاع غزة بأضرار جسيمة جراء القصف، ودُمّرَ حوالي 45% منها ولم تعد صالحة للسكن. وتضرّرَ نحو 290 ألف منزل بشكل كبير، ودُمّرَ نحو 70 ألفاً منها بشكل كامل. ويشير التقرير أيضًا إلى أنّ حوالي 61% من الطرق ومسارات التنقل في القطاع تضرّرت خلال القتال. وتضرّر 92% من الطرق الرئيسية، ودمّر حوالي 57% منها تدميراً كاملاً؛ وتضرّر 70% من الطرق الصغيرة والممرّات، وحوالي 55% منها دُمّرَت بالكامل. كما أن حوالي ثلثيْ البنى التحتية للمياه والصرف الصحي في القطاع قد تضرّرت أو دُمّرَت. وبحسب التقرير فإن نحو 70% من سكان غزة لا يحصلون على مياه نظيفة ويشربون مياهاً ملوثة، وأن أكثر من 80% من المستشفيات والعيادات تعرضت لنوع من الضرر، ودُمّر حوالي 83% من المؤسسات التعليمية.

في الوقت نفسه، شرعت الحكومة الإسرائيلية في إنتاج خطاب جديد حول ما تسميه بــ”الهجرة الطوعية”. مستندةً إلى حالة الدمار الواسع الذي خلّفته، تسعَى إسرائيل إلى تصوّر “اليوم التالي” للحرب كأنه يوم خالٍ من الوجود الفلسطيني في غزة، وذلك من خلال اجتراح أساليب مختلفة عن التهجير القسري، و بالاعتماد على طرف ثالث، إما دول غربية صديقة أو دول فقيرة تحتاج دعماً مالياً، في سبيل تسهيل طرق ومسالك الهجرة أمام الفلسطينيين. إذ كشفت الصحف الإسرائيلية، مطلع العام الحالي، عن شروع حكومة نتنياهو في التباحث مع الكونغو لاستقبال الفلسطينيين من قطاع غزة. في الوقت نفسه، أعلنت كندا أنها ستُطلق اعتباراً من بداية العام الحالي برنامجاً للهجرة يُتيح لسكّان غزة الذين لديهم أقارب كنديون أن يتقدّموا بطلب للحصول على تأشيرة مؤقتة، وستَمنح تصريح إقامة مؤقتة لمدة 3 سنوات لكل شخص يرغب بمغادرة القطاع. ومع ذلك، ليست هذه الأساليب الصامتة للتهجير، بالأمر الجديد بالنسبة لإسرائيل، بل تُشكل امتدادا لنهج طويل بدأ منذ تأسيس الكيان ولا يبدو أنه سينتهي قريباً.

مشروع “أدا سارني” وخطة “باراغواي”

في أعقاب نكسة 1967، سيطرَت إسرائيل على كامل فلسطين التاريخية. في نهاية الحرب، قالَ وزير الدفاع موشيه ديان لمراسل تلفزيوني أمريكي إن قطاع غزّة “مشكلة أكثر منه هدية”. واقترح أبراهام أحيتوف، رئيس القسم العربي في جهاز الشاباك ورئيس الجهاز فيما بعد، نَقل اللاجئين من غزة إلى الضفة الغربية وتحويل القطاع إلى منطقة يهودية بالكامل.  بعد أشهر قليلةٍ وتحديداً في فيفري 1968، قرّرَ رئيس الحكومة ليفي إشكول تعيين آدا سارني، أرملة المظلي إنزو سارني الذي قُتل أثناء مهمة إلى إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، لرئاسة مشروع الهجرة تمهيدًا لتوسِيعه. وكان دورها مزدوجًا: العثور على بلدان المقصد وتشجيع المغادرة إليها من دون لفت نظر العالم. تمّ اختيار سارني لهذا المنصب بسبب علاقاتها في إيطاليا وخِبرتها في تنظيم الهجرة من ذلك البلد بعد الحرب العالمية الثانية، ولأن إشكول كان يأمَل أنه من خلال إيطاليا سيكون من الممكن الوصول إلى ليبيا أو مستعمرات إيطاليا السابقة في شرق إفريقيا -إريتريا والصومال. النموذج الذي رآه أمام عينيه هو نموذج الشّركات التي نظّمَت هجرة اليهود الروس إلى الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين.

شرعَت سارني في وضع خطّة تقوم على تحديد المرشّحين للهجرة وفقاً لترتيب معين، يجعل من الهجرة العائلية أولوية، وذلك عَبر منح تسهيلات مالية وإدارية وتأمين النقل وبلدان الاستقبال، من خلال وسطاء وشركات تجارية، كي لا تظهر الحكومة الإسرائيلية في الصورة. أولاً خشيةً من الرأي العام الدولي، وثانياً خوفاً من أن يكون ذلك سبباً في رفض قطاع واسع من الفلسطينيين الانخراط في مشروع إسرائيلي. وعرَضَت سارني على أشكول فكرة إنشاء بنك يمنح قروضًا عقارية أو قروضًا لأبناء السكان المالكين الذين يغادرون قطاع غزة إلى الدول الغربية، لأغراض تعليمية بشكل أساسي، مقابل رهن ممتلكاتهم، على أمل أنه بعد أن يُكمل الطالب دراسته ويستقر، ستلتحق به أسرته. وفي أمريكا اللاتينية، عَمِلت سارني على طُرق شراء التأشيرات، وطلبَت اتخاذ قرار من حيث المبدأ يسمح لها بالدّخول في مفاوضات لشرائها.

كان إشكول يَخشى حدوث تعقيدات دبلوماسية إذا تم نقل أعداد كبيرة من الأشخاص جوّاً إلى أمريكا الجنوبية على أساس تأشيرات مُشتراة. وأرادت سارني أيضًا توظيف عمّال بناء فلسطينيين للعمل في الشركات الدولية، التي تتلقّى عطاءات بناء كبيرة في الدول العربية، وخاصة في ليبيا. وأخبرت أشكول أنه من الممكن تفعيل المنظمات الدولية لهذا الغرض. وفي هذا الاتجاه، فكّرَ أشكول في توجيه اللوردين روتشيلد وزيف في بريطانيا وغيرهما من الأثرياء اليهود، الذين أرادُوا المساهمة في حلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، بدلاً من استثمار أموالهم في خطط لتوطينهم في الدولة اليهودية. في البداية، سارَ مشروع سارني بشكل جيّد. ولكن معركة الكرامة التي صدَّت فيها قوات الفدائيين الفلسطينيين الجيش الإسرائيلي، في 21 مارس 1968، أعادت الأمل في قلوب سكان غزّة وعطّلَت وتيرة الخروج من القطاع. في الوقت نفسه تفطنت مصر إلى الخطّة، وطرحت في شهر ماي 1968 شكوى داخل مجلس الأمن بشأن “طرد السكان من غزة” وقالت إنه بحلول فيفري 68، أُجبرَ 35 ألف شخص على مغادرة القطاع والتوقيع على تنازل عن حقهم في العودة إليه. وفي الصيف، انضمّ الأردن أيضًا إلى الحملة ضد الهجرة من غزة. وفي نهاية شهر يوليو، تمّ توزيع منشورات في غزة، وخاصة في مُخيّم جباليا، تدعو السكان إلى مقاومة الضغوط التي تُمارس عليهم من أجل الهجرة. حيث أن الإدارة العسكرية استدعَتْ وجهاء مخيم جباليا وأبلغَتهم أنه خلال أسبوعين سيتمّ إجلاء 50 ألفاً من سكانه إلى الضفة الشرقية، وستُوفّر الحكومة وسائل النقل اللازمة.

لاحقاً، ومع قدوم غولدا مئير إلى السلطة عام 1969، تجدّدَت الطّموحات الإسرائيلية في تهجير ما تبقّى من سكّان فلسطين، من خلال خطّة تسفي زامير الذي كان رئيس الموساد في ذلك الوقت، وبالتعاون مع النظام العسكري في باراغواي بقيادة ألفريدو سترويسنر. كانت الخطة –التي كُشفَت وثائقها عام 2020– تتضمّن موافقة باراغواي على “استيعاب” 60 ألف فلسطيني – حوالي 10% من سكان غزة في ذلك الوقت- مقابل أن تدفع الحكومة الإسرائيلية تكاليف سَفَر كل فلسطيني، كما تَمنح كل منهم 100 دولار لتغطية تكاليف المعيشة الأساسية. وستدفع إسرائيل أيضًا لحكومة باراغواي 33 دولارًا عن كل مهاجر جديد، لا تشمل الرسوم الأولية البالغة 350 ألف دولار “لإعادة توطين” أوَّل 10 آلاف فلسطيني. كما سيَحصل الفلسطينيون على الإقامة في غضون خمس سنوات. تمّت الموافقة على الخطة في نفس العام الذي أوقَفَ فيه الموساد عمليات مطاردة النازيين في الخارج، بما في ذلك في باراغواي، حيث كان العديد من الهاربين النازيين يَعيشون في حماية النظام اليميني العسكري في ذلك الوقت، بما في ذلك جوزيف منجيل، المُسمَّى بــــ”ملاك الموت”. في البداية، تمّ إرسال 33 فلسطينيًا فقط على سبيل التجربة، لكن اثنين منهم هما خالد درويش كساب (21 عامًا) وطلال الدماسي (20 عامًا) قامَا بإطلاق النار على عامل في السفارة الإسرائيلية وقتلوه في عام 1970، مما أدّى إلى وضع حد للمشروع.[3]

الصهيونية الدينية و”الحل النهائي”

بالنسبة إلى تيار الصهيونية الدينيّة، الذي أخذَ في الصّعود منذ نهاية الثّمانينات، حتى وصلَ اليوم إلى أن يكون جزءاً من السلطة وذا قاعدة اجتماعية واسعة، تحضر لديه مسألة التهجير والهجرة ونقل السكان ضمن رؤية دينية تنطلق من قداسة أرض فلسطين وحصرية ملكيتها للشعب اليهودي دون غيره. قبل خمس سنوات نشَرَ وزير المالية الحالي، وأحد الرموز الإيديولوجية للصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، عقيدته في المسألة دون مواربةٍ، منتهياً إلى أن “وجود إسرائيل رهين الفهم بأنه لا يوجد مكان في أرض إسرائيل إلا للشعب اليهودي”. وفي الوثيقة التي حملَت عنوان “الخطة الإسرائيلية الحاسمة”[4] يذهب سموتريتش إلى أن: “إنهاء الصراع يعني خلق وتعزيز الوعي –عملياً وسياسياً– بأن هناك مجالاً لتعبير واحد فقط عن تقرير المصير غرب نهر الأردن: وهو تعبير الأمة اليهودية. وبالتالي، لا يُمكن لدولة عربية تحقيق التطلّعات القومية العربية أن تنشأ في الأرض نفسها. النصر يَعني وَضع هذا الحلم على الرفّ. ومع تضاؤل الحافز لتنفيذه، تتضاءَل كذلك الحملة الإرهابية ضد إسرائيل”.

 وبعد أن يضع الخطوط العريضة لخطته، القائمة على فكرة أرض إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، يُقدّم سموتريتش البديل المفترض لملايين السكان العرب، وهو الهجرة قائلاً: “أولئك الذين لا يستطيعون البقاء هنا كأفراد من دون تحقيق تطلعاتهم الوطنية مدعوّون لتحقيقها في إحدى الدول العربية المحيطة العديدة، أو البحث مثل الكثير من العرب من حولنا، عن حياة أفضل في أوروبا أو أمريكا الجنوبية أو أيّ مكان آخر، حتى لا يضطرّ إلى البقاء في الدولة اليهودية. يلوّح اليسار الإسرائيلي منذ سنوات بفكرة الانفصال عن العرب. لكنه لسبب ما، يُعارض الوسيلة اللائقة والفعالة لتحسين واقعنا الديمغرافي، ألا وهي تشجيع الهجرة. ومن بين أمور أخرى، يُزعم أن العرب لا يهاجرون، بل يتمسّكون بأرضهم. ويقال أيضاً إن الهجرة هي طرد قاسٍ، وأن لا أحد يريد استيعاب المهاجرين العرب. هذه الحجج كلها سخيفة. بداية من الخيار الأول، يبدو لي أنه لا داعٍ لبذل أيّ جهد لإثبات أن الهجرة هي بالتأكيد خيار في نظر العرب، وهو خيار لكثيرين اليوم، من الضفة الغربية والعديد من البلدان العربية، رغم القيود وعدم التشجيع على الهجرة. وفي الوقت الذي يُسمح بالهجرة السهلة والمريحة، بل وتُقدّم المساعدات اللوجستية والمالية لأولئك المهتمين بتجربة حظهم في بلدان أخرى، فإن الهجرة سوف تصبح أكثر انتشاراً. لذلك يُمكن لدولة إسرائيل، بل وينبغي لها، تقديم منح سخية للعرب الذين يرغبون في العيش في بلدان أخرى، ممّا يَسمح لهم بالانتقال بطريقة مُشرّفة وناجحَة. وستكون هذه “منحة فراق” مُناسبة من إسرائيل. لقد بنيت الصهيونية على أساس التبادل السكاني، على سبيل المثال الهجرة الجماعية لليهود من الدول العربية وأوروبا إلى أرض إسرائيل، طوعاً أو كرهاً، وخروج جماهير العرب الذين عاشوا هنا، طوعا أو كرها، إلى المناطق العربية المحيطة. ويبدو أن هذا النمط التاريخي يحتاج إلى ذروته، مما يضمن مستقبل السلام قبل كل شيء”.

يُحوّل الهوس الديمغرافي الإسرائيلي مسألة بقاء الفلسطينيين في أرضِهم إلى أحد وجوه المقاومة المتعدّدة للاحتلال. ويَذهَب عالم الديمغرافيا يوسف كرباج إلى أن الديموغرافيا الفلسطينية قاومَت، منذ عام 1967، وحتى منذ الانتداب البريطاني، التحليلات الكلاسيكية للتحديث. فقد كان الزواج والخُصوبة أكثر ارتفاعاً بين النساء الأكثر تعليماً، والنّساء اللواتي يتمتعن بأقوى وعي سياسي. إذ هن شعُرنَ بالحاجة إلى زيادة الولادات في صفوف الفلسطينيين لمواجهة الاحتلال بشكل أفضل. إلا أن الاتجاه الديموغرافي في العقدين الماضيين أصبحَ يتجه لصالح الإسرائيليين، فقد ارتفع معدّل المواليد بشكل كبير بين السكان اليهود، ولاسيما في البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية بسبب توسع القاعدة الاجتماعية للصهيونية الدينية، في حين انخفضَ معدل المواليد العرب بشكل كبير في جميع أراضي فلسطين التاريخية. إلا أنه منذ الانتفاضة الثانية، دفعَ العنف ومصادرة الأراضي وإقامة أجزاء جديدة من الجدار العازل، الفلسطينيين إلى المغادرة، على الأقل أولئك الذين تمكّنُوا من العثور على بلد مضيف. هذه الأسباب نفسها تُشجّعهم أيضًا على إنجاب عدد أقل من الأطفال. علاوة على ذلك، فإن معدل الوفيات بين الفلسطينيين، الذي انخفض بشكل كبير بفضل فعالية الرعاية الصحية، يمكن أن يرتفع بسبب الآثار المباشرة وغير المباشرة لحالة التوتر الشديد التي أعقبت إعادة احتلال الضفة والحروب المتتالية على غزة. كل هذه الإجراءات المتعلقة بالهجرة والخصوبة، وحتى الوفيات، تُشكّل الجوانب المختلفة لسياسة ديموغرافية غير مكتوبة -أقل وضوحا من “الترانسفير” -والتي تهدف إلى تقليص عدد السكان الفلسطينيين لصالح السكان الإسرائيليين[5].


[1] – Walid Khalidi, From Haven to Conquest, Washington DC, Institute for Palestine Studies, 2007, p.841.

[2] – Avi Shlaim, « The Debate about 1948 », in International Journal of Middle East Studies, n°27, 1995.

[3]  – Unclassified Docs Show Israel’s Secret Plan to Ship 60K Palestinians to Latin America, The Daily Beast   13 Aug 2020.

[4] Bezalel Smotrich, Israel’s Decisive Plan – Hashiloach 7 sept. 2017 https://hashiloach.org.il/israels-decisive-plan/

[5] Youssef Courbage, Deux phases de la démographie de la Palestine, 1872-1948 et 1967-2025 : Aspects comparatifs – Dans : Temps et espaces en Palestine : Flux et résistances identitaires – Roger Heacock (dir.) Presses de l’Ifpo 2008, p. 307-329.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني