“المفكّرة” تحاور حسام شبات من شمال غزة: صحافيّ يعاند الإبادة


2024-02-26    |   

“المفكّرة” تحاور حسام شبات من شمال غزة: صحافيّ يعاند الإبادة

“أقول للعالم إنّ شمال قطاع غزة يعاني من المرض والجوع، وأنا صرت أخشى المشي طوال الوقت خلال تغطيتي للأحداث، خوفًا من أن أسقط في الشارع من الجوع. أقول للعالم، أنا مستمرّ، أغطي الأحداث بأمعاء خاوية، وبصمود وثبات. أنا حسام شبات، من شمال قطاع غزة الصامد”. 

بهذه الكلمات، يلخّص حسام شبات، المراسل الصحافيّ في شمال غزّة، تجربته، وهو واحد من أواخر الصحافيّين الصامدين في شمال غزّة. يواجه حسام اليوم التجويع المميت هناك، كسلاح أخير تحاول إسرائيل من خلاله تدمير أهل غزة وناسها.

وحسام، صحافيّ في عمر الـ 22، وجد نفسه في قلب الإبادة، فقرّر تحدّيها. وفي يوم التضامن العالمي مع الصحافيين الفلسطينيين، كان واجبًا إعطاء الكلمة لأصحاب اليوم والقضيّة، ليكون المنبر لحسام، الذي قابلته “المفكّرة القانونيّة” كي يشارك تجربته ويحكي معاناة ما يقدّره هو بـ 19 من زملائه موزّعين على مناطق الشمال.

ينقل الزميل حسام صوت الشمال الذي يراد تصويره خاليًا من السكّان فيما يواجه أهله المجاعة اليوم بفعل الحصار والقتل والتدمير، ينقل الصوت من خلال تغطيات متواصلة، إن كان لصالح قناة “الجزيرة” أو عبر صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي. فنراه يوثّق قصص أطفال ماتوا جوعًا، ثمّ ينقل قصّة سيّدة استشهد جميع أبنائها في قصف منزلهم العائلي، لكن زوجة ابنها محمد أنجبت لها حفيدًا بعد أسبوع، فنراها تبكي أولادها أمام خيمة نزوحها، ثمّ تعتني بحفيدها الذي حمل اسم والده. وفي قصص حسام، نرى أهل شمال غزة وناسه وقصصهم في خضمّ المعاناة، يوثق حال أطفالهم وسط البرد والجوع، ويحكي عن حال خيام النازحين بعد أن اجتاحتها السيول، ثمّ يستعرض وجبة غداء له قوامها بضع أقراص شعير، وينعى زميلًا أو زميلة، قبل أن يهرع ليوثّق قصف المنازل وانتشال الشهداء ببثّ مباشر على قناة “الجزيرة”.

وحسام مستمرّ، رغم تهديده مباشرة من قبل الجيش الإسرائيلي الذي قصف منزله، وجرف مطعمًا كان مصدر دخل لعائلته، ودمّر حلمه بتأسيس شركة إعلاميّة وتسويقيّة، وقتل 30 من عائلته، وهو مستمرّ رغم التجويع والتشريد، والوحدة بعيدًا عن أسرته التي نزحت إلى رفح.

وحسام واجه التهديدات الإسرائيلية، وعاندها، ولم يرضخ لاتصالات ترهيبيّة تأمره بحذف منشوراته، وإطفاء عدسته. فلاحقه الاحتلال إلى المستشفى الذي أوى إليه بعد أن نجا من استهداف سوق بيت حانون حيث كان يغطّي الأحداث. والصحافيّ الشاب، مانعت والدته استمراره بالتغطية وتمنّت عليه مرافقتها في نزوحها من الشمال إلى الجنوب، لكنّه أصرّ على عدم ترك شمال غزة، وأرسل أسرته من دونه إلى الجنوب.

سارت الأمّ مع باقي أسرتها درب نزوح خطير من الشمال إلى الجنوب، شهدت فيه هول الدمار، وبطش الاحتلال وإجرامه، ولمّا تعرّضت الأسرة للاستهداف والقصف، ووقع ما كانت تخشاه الأمّ، بعثت برسالة إلى حسام تقول فيها: “لا تترك كاميرتك يا ولدي، حتى وإن انفصل رأسك عن جسمك، واستمر بتوثيق جميع جرائم الاحتلال”.

واستهداف الصحافيّين في غزّة مستمر، ضمن حرب الإبادة الأكبر، حيث استشهد 132 منهم بحسب المكتب الحكومي في غزة، هم 10% من مجموعهم، وهم شرّدوا جميعهم فباتوا يسكنون المستشفيات والخيام ومراكز الإيواء. واعتقل وعذّب وفُقد آخرون، فيما جرح العشرات، وتسبّب الاستهداف الإسرائيلي ببتر أطراف بعضهم، كما قصفت منازلهم ودمّرت جميع مؤسساتهم واستهدفت أسرهم. وتعمّدت إسرائيل استهداف أبناء الصحافيين كوسائل ضغط وترهيب لإسكاتهم، فيما تركت آلة قتلها 500 طفلًا يتيما بقتل أحد والديه من الصحافيّين، لترتكب إسرائيل الإبادة بيد وتطفئ الأضواء بيد أخرى.

المفكّرة القانونية: كيف يقدّم حسام شبات نفسه؟ وماذا يخبرنا عن طموحات الصحافيّ الشاب قبل الحرب وأهدافه للمستقبل؟

حسام شبات: أنا الصحافيّ حسام باسل شبات، من سكان مدينة غزة، نازح في شمال قطاع غزة منذ أكثر من 140 يومًا، ولا زلت نازحًا في مراكز الإيواء. كان هدف حسام قبل الحرب بناء شركة إعلامية وتسويقية والاستقرار المالي، وكنت شغوفًا بقطاع الضيافة وأعوّل على مصدر رديف للرزق، هو مطعم جرّفه الاحتلال اليوم.

تعرّضت للكثير من الأخطار منذ بداية هذا العدوان الغاشم على أبناء شعبنا. بدأت رحلة نزوحي من مدينة بيت حانون، فخرجت منها إلى مدينة زايد، وأيضًا من مدينة زايد إلى المعسكر، ولا أزل في المعسكر حتى هذه اللحظات، لكن الخطر لا يزال محدقًا بنا في كل الأماكن خلال تنقّلنا لتغطية الأحداث، الخطر يجول من حولنا.

المفكّرة: لماذا لم يترك حسام شبات شمال غزة وينزح إلى رفح؟

شبات: منذ الساعات الأولى لم أخرج من شمال قطاع غزة رغم الخطر الذي يلوح في كل الأوقات. بدأت المخاطر من مدينة بيت حانون حينما قصف سوق المدينة بعد لحظات من مغادرتي مكان الاستهداف، دمّر السوق بالكامل، وخرجنا من هذا الموت إلى مستشفى بيت حانون. هناك اتصل بي ضابط مخابرات إسرائيلي ليبلغني بالخروج فورًا من مدينة بيت حانون. رفضت الخروج لكن جيش الاحتلال لم يتركني، وكان يتابع صفحتي على فيسبوك، فاتّصلي بي مرّة أخرى وأخبرني بضرورة حذف جميع المنشورات التي أنشرها.

كنت الصحافيّ الوحيد في بيت حانون، لكن جيش الاحتلال وضعني تحت التهديد الكبير وقال لي سوف يتم قصف بيتك، لم أهتم لهذا الموضوع وقلت له لن أخرج من مدينة بيت حانون، فأخبرني بضرورة إخلاء المستشفى وإخراج الأطباء. لم أتحرّك من بيت حانون إلّا بعد أن وقع علينا القصف، قصفت مستشفى المدينة وهي اليوم مدمّرة بالكامل، ثم قصف بيتي.

رفضت أن أخرج من شمال قطاع غزة رغم تعرّضي للعشرات من المواقف الخطرة، رفضت الخروج بسبب علمي بأهمّيّة وجدّيّة العمل الصحافيّ، رفضت أن أخرج من شمال القطاع لإيماني بأهمية الرسالة التي أحملها وهي نقل الحقيقة وتوثيق جرائم الاحتلال. كنت عنيدًا مع هذا الجيش الذي يحاربنا كصحافيّين، يقصفنا في كلّ مكان وأنا أرسل وأصوّر وأتكلّم عن الجرائم التي يرتكبها هذا الجيش، أنا وجميع الزملاء الذين يعملون في شمال غزة. خاطرت ولازلت أخاطر وأقدّم روحي مقابل الصورة ونقل الحقيقة. لم أخرج من شمال قطاع غزة ولن أخرج رغم كلّ الضغوطات التي كانت عليّ لكن كما قلت الرسالة مهمة والحقيقة لن يكشفها إلّا الصورة والصوت.

المفكّرة: ما هي تجربتك الشخصية كصحافيّ في مواجهة التجويع في شمال غزة؟

شبات: أنا منذ يومين لم آكل شيئًا، شربت عصير الليمون فقط خلال يومين. أحيانًا تمرّ ساعات لا أحصل على رغيف خبز أو أي شيء أسدّ به هذا الجوع. أستيقظ صباحًا وأنا أكبر همّي البحث عن جرائم الاحتلال وتوثيقها ونقلها، وهذا ينعكس على قدرتي على تأمين الطعام. ففي شمال غزّة اليوم، إما أن توثق جرائم الاحتلال أو أن تحصل على الطعام، اتجاهان لا يمكن سلوكهما في الوقت نفسه. فالتغطية والتصوير يستغرقان وقتًا كبيرًا من يومي. أما رحلة البحث عن الطعام، والبحث عن الدقيق، فمعاناة لوحدها، وإذا ما عثر على المكوّنات لطهي أي شيء فإنّ البحث عن الحطب معاناة أخرى، وكلّ ذلك قد يستغرق كامل اليوم. وأنا لا يمكنني أن أضحّي بوقت التغطية من أجل البحث عن الطعام.

المفكّرة: كيف أثرت حرب الإبادة الإسرائيلية ومن ضمنها استهداف الصحافيّين/ت على إرادة الجسم الإعلامي في غزة؟ وهل اعتكف البعض عن إيصال الصوت بسبب هذه التهديدات؟

شبات: لم نستسلم ولم نتوقف، بل إنّ التهديد الذي يصلنا من هذا الجيش للتوقف عن التغطية والإعلام ونشر الحقيقة، والألم والقصف المستمر لنا والخطر الذي يحوم ويجول حولنا، يزيدنا إصرارًا وعزمًا على مواصلة هذا الطريق. وكلّ تهديد يصل لنا كصحافيّين، وكلّ استهداف لنا بشكل مباشر، يولّد لدينا الثقة الكاملة والكبيرة جدًّا بأنّ هذا الطريق، طريق الإعلام، هو أقوى ما يمكن لنا أن نقدّمه للقضية الفلسطينية، ومن أجله نحن نعرّض أنفسنا وبيوتنا وأموالنا وأهلنا للخطر، من أجل طريق الإعلام الذي يوثّق جرائم الاحتلال وينقل صوت الناس.

المفكّرة: هل من ضغوطات عائليّة على الصحافيّين من أجل الاعتكاف خوفًا من فقدانهم؟

شبات: بالتأكيد كان هناك ضغوطات عائلية علينا كصحافيّين خوفًا من أن نستشهد. كانت أمي تحرص على أن أبقى معها طوال الوقت، وبسبب صغر سني، ما يقارب 22 سنة، كانت شديدة الحرص على أن أنزح معها إلى جنوب القطاع، لكنها قبلت النزوح من دوني بعد إصراري على عدم الخروج من شمال غزة.

رغم ذلك، وبعد تعرّض عائلتي للقصف الإسرائيليّ خلال رحلة نزوحهم إلى الجنوب، بعثت لي أمي رسالة بألّا أترك هذا المجال، حتى وإن انفصل رأسي عن جسمي، وأن أوثّق جميع جرائم الاحتلال. وهي كانت تعتقد أنّه سيأتي اليوم الذي سيتمّ فيه استهداف العائلة بسبب حسام الذي يعاند هذا الجيش ويواصل عمله الصحافيّ.

المفكّرة: ماذا تقول عن قتل الصحافيّين في غزة وخسارة الصحافيّين لزملائهم وأسرهم؟

شبات: لن يتمّ قتل الصوت بقتل هؤلاء الأبطال الذين قتلهم جيش الاحتلال وهم يحاولون ويقاومون ويصارعون مع هذا الجيش الذي لا يفهم أي حقوق ولا يلتزم بالقوانين الدولية التي تضمن حق العمل للصحافيّين. جيش الاحتلال يخنق ويلاحق كلّ من يعمل في هذا المجال، وهو لم يكتف بقتل الصحافيّين وعوائلهم بل يلاحق جميع الشركات والقنوات الإعلامية. ليس ببعيد وائل الدحدوح هذه الأيقونة الكبيرة التي ضحّت من أجل إيصال الصوت وعدم كتمان هذا الصوت في قطاع غزة. وأيضًا زميلنا أنس الشريف الذي تم استهداف والده في منزله بعد تهديد جيش الاحتلال له ولعائلته. وهناك الكثير من الصحافيّين الذين تم قتل عائلاتهم وتم قصف منازلهم وأنا منهم بعد أن قصف الاحتلال منزلي، وجرّف المطعم الذي كنت أعمل به كمدير. دمروا كل شيء و لاحقوا كل الزملاء الصحافيّين.

حسام موثّقًا استهداف الصحافيين في حي الزيتون

كيف تابع حسام شبات من شمال غزة قتل الزملاء الصحافيّين في الجنوب اللبناني؟

شبات: أقول للصحافيّين والزملاء اللبنانيين، نحن نشعر بتضامن كبير من لبنان وشعبه ومن الزملاء الصحافيّين فيه. عندما فقدنا الشهيد عصام عبدالله والزميلة فرح عمر والزميل ربيع المعماري والمتعاون الصحافيّ حسين عقيل، شعرت بأنّهم قطعة من جسدي وقد فقدتها، هؤلاء الزملاء الصحافيّون، كنا نتابعهم عن كثب. وهم أيضًا صحافيّون والخطر ليس ببعيد عنهم كما نحن، وأقول رحمة الله على الصحافيّين الزملاء الذين كانوا يغطون هذه الحرب ويعملون بجهد واجتهاد من أجل إيصال الصورة والصوت.

المفكّرة: هل تتابع المساعي القانونية لملاحقة إسرائيل دوليًا بجرائم الإبادة وبجرائم الحرب التي تستهدف الصحافيّين؟ وهل ترى أفقًا لهذه المسارات القانونية؟

شبات: إسرائيل لم تحترم القانون ونحن نشاهد العالم عاجزًا عن إجبار دولة إسرائيل الزائلة على الالتزام بالقانون. منذ عشرات الأعوام وهي تستهدف الصحافيّين، وليس استهداف شيرين أبو عاقلة ببعيد، وأيضًا العشرات من الزملاء الصحافيّين في غزة وفي لبنان. وحتى القرارات التي صدرت في حقها، لم تلتزم بها.

المفكّرة: هل من رسالة إلى الجسم الصحافيّ في العالم الذي يتضامن مع الصحافيّين الفلسطينيين اليوم؟

شبات: رسالتي إلى الصحافيّين في كل العالم، أشعر بتضامنكم معنا، وأشاهد ما تنشرونه بشكل يومي، وأشعر بأنّكم تكتبون عنّا وكأنّكم بجانبنا في كلّ دقيقة، تصفون حالنا، وتحاولون أن توصلوا صوتنا الذي يحاول أن يكتمه جيش الاحتلال. لم تخذلونا، وكنتم عند حسن الظن وكنتم نعم الثقة، نعم إنّكم زملاء، زملاء المعاناة، وزملاء الصوت، وزملاء الصورة، وزملاء الحقيقة، وزملاء الثقة. كنت خير من كتبتم عن غزة، وناصرتموها بالقلم، وبصوتكم، وبلسانكم، وبتضامنكم معنا في شمال قطاع غزة وفي قطاع غزة أجمع.

المفكّرة: ماذا عن المؤسّسات الإعلامية الصامتة وتلك المتواطئة في حرب الإبادة على غزة؟

شبات: هؤلاء الذين لم يحترموا المهنة ولم يقدموا شيئًا لفلسطين، ولم يخصّصوا من يومهم وتغطيتهم قليلًا من الوقت حتى ينصروا قضيتنا، قضية فلسطين، وكي يكتبوا عنها أو يدينوا هذا العدو المجرم الذي لا يحتاج إلى المزيد من الأدلة حتى نجرّمه. هؤلاء الصحافيّون ليس لهم عذر بأن يستنكفوا ويقفوا مكتوفي الأيدي وألّا يستخدموا قلمهم وألّا يكتبوا عن هذا الإجرام، وألّا يرفعوا صوتهم بوجه هذا العدو وأن يناصروا وينتصروا لأهل فلسطين.

المفكّرة: بعد 145 يومًا من التغطية، هل من رسالة من حسام إلى العالم؟

شبات: أقول إنني اليوم في شمال قطاع غزة، وهذه الرسالة لا أعلم إن كانت الأخيرة أم يكون بعدها رسائل. أنا حسام شبات، من شمال قطاع غزة، أنقل لكم معاناتنا في كل يوم، لكن بعد هذه الأيام، وبعد معاناة كبيرة كنت أظن فيها أنني أوصل صوتي للعالم على أمل أن يحدث تغيير، الآن أصبح كل شيء صعبًا. أنا لم أكن لأتخيل كلّ هذه المعاناة وأنا جزء منها. أقول للعالم إنّ شمال قطاع غزة يعاني من المرض والجوع، وأنا صرت أخشى المشي طوال الوقت خلال تغطيتي للأحداث، خوفًا من أن أسقط في الشارع من الجوع. أقول للعالم، أنا مستمرّ، أغطي الأحداث بأمعاء خاوية، وبصمود وثبات. أنا حسام شبات، من شمال قطاع غزة الصامد.

 صورة مركّبة لعشرات الصحافيين الذين قتلتهم إسرائيل في غزة منذ 7 أكتوبر (المصدر: نقابة الصحافيين الفلسطينيين)
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني