المعارضات وسؤال الانتخابات الرئاسية


2024-04-19    |   

المعارضات وسؤال الانتخابات الرئاسية

بعد أخذ وردّ، وعلى إثر تكهّنات متضاربة حول إجراء الانتخابات الرئاسية من عدمها قياسا على “الدستور الجديد”، صرّح رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر عقب إعلان النتائج النهائية لانتخابات المجالس المحلية عن إقرار الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر بين شهري سبتمبر وأكتوبر 2024، من دون تحديد تاريخ واضح، إذ يبقى القرار في النهاية بيد الرئيس سعيّد. إلاّ أنّ هذا الإعلان المتأخّر زمنيا، لم يوقف الجدل حول العملية الانتخابية برمّتها، بل لم يتعدّ كونه شارة البداية لنقاشات أخرى حول شروط الترشّح وكيفية التحضير للدورين الانتخابيين في ظلّ مناخ سياسيّ مشحون بتخوين وملاحقة المُنافسين السياسيّين من قبل مختلف أجهزة السلطة، وفي خضمّ حملة رئاسية مكشوفة من قبل سعيّد، تتراوح بين الزيارات الفجائية إلى الجهات وتفقد بعض المرافق العامة وصولا إلى خطابات “نارية” تجاه المعارضة وبعض الجهات الأخرى “خفية الإسم” لدى الجمهور، ومعلومة فقط لدى قائلها أو من أوحى له بذلك. وتأتي الانتخابات أيضا في ظلّ حساسية مفرطة للسلطة من أيّ حدث عارض قد يؤثر على المزاج الانتخابي العامّ، بلغ حدّ إعلان حالة من الاستنفار سياسيا ودعائيا ضدّ برنامج عُرض في قناة أجنبية ينتقد الأوضاع المعيشية والسياسية في البلاد.

في الجانب الآخر، لا يزال موقف “المعارضات” التي لم تجتمع إلى اليوم ضمن ائتلافات كبرى غائما من هذه الانتخابات، وجزء من هذه الضبابية مرتبط بمنطق ردّ الفعل الذي تتبناه مختلف الأطياف المعارضة تجاه مبادرات السلطة. وتشكّل الاعتقالات والإيقافات والأحكام بالسجن والملاحقات تجاه المعارضين السياسيين، عاملا مُحدّدا في تقديم الترشحات أو تحديد الموقف الداعي للمشاركة في الانتخابات من عدمه. إذ أنّ عددًا لا بأس به من هذه الملاحقات والإيقافات يستهدف جملة من الفاعلين المستقبليين في العملية الانتخابية، سواء من بين المرشحين المُفترضين أو من اللاعبين المهمّين ذوي رأس المال الرمزي المساهم في حشد جزء من الجمهور الانتخابي تجاه مرشّح معين. إلا أنّ هذه العوامل الموضوعيّة لا يُمكن لها حجب عوامل أخرى ذات طابع هيكلي تُفسّر شقّا مهمّا من أزمة المعارضة وسلوكها اليوم، وليس أقلّ هذه العوامل أثرا، عدم القيام بمراجعة جديّة لأساليب العمل السياسيّ واستعادة ثقة الجماهير في الأحزاب عموما وفي النموذج الديمقراطي كمنهج للحكم، رغم أزمة السلطة الحالية وانعدام مُنجزاتها على أرض الواقع.

شروط الحدّ الأدنى لنزاهة الانتخابات تبقى رهينة تحول في مزاج السلطة

أزمة السلطة لم تمنح فُرصة للمعارضة

من خلال مقاله المنشور في جريدة المغرب بتاريخ 27 فيفري 2024، دافع العياشي الهمامي، المحامي في هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين والوجه الديمقراطيّ المعروف، عن ضرورة استغلال المحطّة الانتخابيّة لخلق ديناميّة تجميعيّة للمعارضة، تفضي إلى قرار مشترك بالمشاركة من عدمها. ويُلخّص الهمامي أهمّ شروط المشاركة، في تنقية المناخ السياسي العامّ بإطلاق سراح المساجين السياسيين وتركيز هيئة مستقلة للانتخابات، من جهة السلطة، وفي توحيد طيف واسع من المعارضة السياسية والمدنيّة حول مرشح واحد يتم اختياره بعد صياغة “أرضية الحد الأدنى الديمقراطي الاجتماعي المشترك” للانخراط في ما بعد ضمن حملة في الجهات والإعلام. 

لكنّ شروط توفّر الحدّ الأدنى من نزاهة الانتخابات تبقى رهينة تحول في مزاج السلطة اليوم، لا يُمكن أن نرى إلا عكسه تماما، عبر تواصل الإيقافات وحملات التخوين المستمرّة. كما أنّ هذه المبادرة لا تزال في خطوات أولى للنقاش داخل مجموعات واسعة من المعارضة، حيث لم توضح الأطراف المعنية موقفها من هذه الرسالة حتى بعد إعلان العياشي الهمامي نفسه في برنامج “ميدي شو” الإذاعي أنه غير معنيّ بالترشح للانتخابات الرئاسية. أحد أهم الأطراف التي قد توجّه إليها المبادرة وهي مكونات جبهة الخلاص وعلى رأسها حركة النهضة لا تزال في حالة اللاحسم حول المشاركة في الانتخابات من عدمها. ففي حين تشير الكواليس إلى إمكانية دعم زعيم الجبهة أحمد نجيب الشابي كمرشّح رئاسي، تسود تخمينات أخرى بإمكانية تصويت أطراف داخل الجبهة نفسها لمرشحين آخرين بناء على بعض التقديرات الخاصّة. كما تتوجّه مبادرة العياشي الهمامي أيضا إلى أحزاب رباعي تنسيقيّة القوى الديمقراطية التقدمية (حزب العمال والتيار الديمقراطي والتكتل والقطب) التي تخوض نقاشاتها هي الأخرى حول الانتخابات، مع موقف يميل حتّى الآن إلى المقاطعة. وتتقاسم مواقف المعارضة عموما رؤيتان تتوزّعان بين الانحياز للجانب المبدئي المتمثّل في مقاطعة المسار الانتخابي لعدم توفر الشروط الملائمة لشفافية العملية بكاملها وبين رؤية سياسية تُحاول اختراق القيود التي تفرضها السلطة على المناخ السياسي بأكمله عبر المشاركة في الانتخابات بناء على تقدير سياسي يُمكن من خلاله تحقيق التغيير عبر قواعد اللعبة السياسية التي فرضها الرئيس مُسبقا، وهو ما يُفهم منه مثلا إعلان ترشيح عصام الشابي من سجنه للانتخابات الرئاسية. من جهته، لم يتردّد الرئيس  سعيّد في التشهير بالمعارضين الذين “لا همّ لهم سوى رئاسة الدولة” بعد أن قاطعوا مختلف المحطات الانتخابيّة منذ 25 جويلية 2021، متناسين أنّ “المسؤولية ابتلاء ووزر ثقيل”.   وهي حجّة مردودة على صاحبها، الذي  سبق وأن افتخر بمقاطعة جميع انتخابات المسار الديمقراطي منذ 2011، باستثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي استغلّها للانقلاب على قواعد اللعبة ذاتها التي أوصلته للرئاسة.

وضمن مختلف هذه المحدّدات، يبقى اتخاذ الموقف الواضح من الانتخابات التحدّي الأبرز أمام المعارضة الحزبية، ويبدو أن هناك اتّجاها تُسانده مجموعات متنوّعة من المعارضة مؤخّرا لترشيح شخصية محايدة من خارج الأحزاب السياسية. إلاّ أنّ هذا التوجّه يبقى مُستبطِنا لنوع من القيود السياسيّة الذاتيّة لدى جزء من المعارضة، حيث يعدّ استدعاء فكرة ترشيح شخصية من خارج الإطار الحزبي للمنافسة، نوعا من الإقرار الضمنيّ بفكرة نهاية صلوحية الأحزاب التي يقوم عليها مشروع الرئيس. خطورة هذا الأمر تتجلّى بالأساس في أنّ قوى المعارضة الحزبية نفسها قد بدأت تُفكر ضمن نفس المربّع الذي عمل سعيّد منذ انتخابه في الدفع إليه، عبر إضعاف إمكانيات الأحزاب سياسيا وتقييد أنشطتها قانونيا.  وبذلك يصبح اختيار المرشح التوافقي تحدّيا إضافيا للمعارضة في سبيل ضمان حدّ أدنى من الانسجام، فضلا عن صعوبة التوفيق بين موقفيْ رفض الانقلاب وكل ما بني عليه من جهة، وبين المشاركة في انتخابات وفق دستور الرئيس من جهة أخرى. كما تطرح فكرة التعويل على مرشّح رئاسيّ لاسترجاع الديمقراطيّة الكثير من الأسئلة، ليس أقلّها مدى توفر ضمانات وفاء هذه الشخصية لتعهداتها تجاه الأطراف الداعمة لها وعدم الانقلاب عليها خدمة لمشروع سياسي شخصي، وهو أمر لا يمكن استبعاد حدوثه بالمطلق بناء على التجارب السابقة.

يعوّل البعض على الانتخابات الرئاسية كفُرصة لـ “إقامة الحجة” على السلطة 

أبواب الترشح الافتراضي؟

يُمكن قراءة الانتخابات الرئاسية من زاوية أخرى مختلفة كفُرصة للمعارضة لـ “إقامة الحجة” على السلطة، أي أن يتحوّل الرهان على الانتخابات من نطاقه التنافسي السّاعي للفوز، إلى وسيلة لإحراج السّلطة عبر إثبات توجّهها نحو منع بعض الترشحات والتضييق على المنافسين الجديين. وهو تفسير قد يجد صدى لدى بعض الأطراف السياسية، خصوصا منها التي تمتلك ماضيا حقوقيا. وفي هذا الصدد، يُقر محمد الحامدي المعارض السياسي في تصريح صحفي سابق له بأنّ على المعارضة اختبار نوايا النّظام والانخراط في العملية كرهان سياسي. وقد طرح الحامدي فكرة توحّد المعارضة قبل فترة الصائفة لتدارس الموقف المبدئي حول الموضوع والاجتماع على رؤية سياسية موحّدة. ولا يبتعد موقف وسام الصغير القيادي في الحزب الجمهوري عن هذا الطرح عبر اعتباره الانتخابات الرئاسية كبوابة للخروج من حالة العبث السياسي من دون التراجع عن الموقف من المسار ككل. بعض التيارات السياسية الأخرى مثل حزب العمل والإنجاز، الذي يضمّ بالخصوص جزءا من المستقيلين من حركة النهضة، والذي عقد مؤتمره الأول في فيفري الماضي، تُشارك وجهة النظر نفسها. إذ صرّح الأمين العام للحزب عبد اللطيف المكي بأن المعارضة سترتكب خطأ استراتيجيا إذا لم تراهن على الانتخابات الرئاسية، وهو ما يفتح الباب أمام مشاركة الحزب في الانتخابات وإن لم يتمّ التصريح بالموقف إلى الآن انتظارا لتطورات الساحة السياسية خلال الفترة المقبلة. 

على مستوى الأحزاب التي تنتمي للطيف الدّستوري والتجمعيّ، برز أخيرا إسم المنذر الزنايدي الوزير الأسبق زمن بن علي كمرشّح للمراهنة على الانتخابات الرئاسية. وقد صاحبت نية ترشحه حملة دعائية وترويجية كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل بلغ الأمر حدّ ظهوره بنسب محترمة في بعض نتائج سبر الآراء المسرّبة والتي لا تُعلم درجة مصداقيتها وطريقة عملها بعد.

يطرح ترشح الزنايدي جدلا وسط قاعدته الانتخابية المفترضة التي عُرف جزء كبير منها بمساندة عبير موسي الموقوفة حاليا. ولئن أبدى الخطاب المعلن للزنايدي خصوصا في رسالته التي نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي قبيل عيد الاستقلال نوعا من التراجع عن الثوابت التقليدية للعائلة الدستورية بحديثه عن المُعتقلين السياسيين ونقده المباشر “للاستبداد”، إلا أن عدم التقيّد بمراجعات كاملة لتجربة الزنايدي السابقة وعائلته السياسية يضع هذا التصريح ضمن محاولات استقطاب بعض الفئات المتردّدة انتخابيا وليس كموقف مبدئي مؤصّل له من الناحية المنهجية والسياسية. وضمن نفس المجموعة أيضا أعلن نزار الشعري وهو أحد المقربين سابقا من منظومة بن علي ورئيس جمعية “تونيفيزيون” ترشحه مستهدفا فئة الشباب عبر لغة ناقدة بشدة لحصيلة قيس سعيد، رغم تصريحه سابقا بأنه كان قد ساهم في صعوده كرئيس خلال انتخابات 2019.

وفي ظل تواجد بعض الأسماء الأخرى ضمن نتائج سبر الآراء مثل لطفي المرايحي الذي أعلن عن نيته الترشح في فيديو على صفحته الفايسبوكية وكذلك الصافي سعيّد، يبقى استقطاب القواعد الانتخابية للأحزاب الرئيسية وعلى رأسها حركة النهضة هدفا لعديد المرشحين المستقبليين. غير أن الهاجس الأكبر الذي يظل محيطا بالعملية الانتخابية ككل يبقى في مدى قيامها على مبادئ النزاهة والشفافية وضمان شروط التنافس والعرض الانتخابي الجادّ، وهي عوامل تنتفي تماما في السياق السياسي الحالي وفي ظل استهداف أمني “مُغلف” قانونيا لكل من تراوده نية الترشح. 

“لا يمكن القبول بالرجوع إلى الوراء أو بأن يتم الترشح من قبل مجموعات ترتمي في أحضان الخارج”. عبر هذا التصريح من ضريح الحبيب بورقيبة يوم 6 أفريل، حدد الرئيس قيس سعيّد مربّع المنافسة في الانتخابات الرئاسية القادمة مُعتبرا المسألة “قضية بقاء أو فناء” حسب تعبيره. ويعزّز هذا التصريح الشكوك القائمة حول تلاعب ممكن بشروط الترشح عبر استنباط موانع قانونيّة لإقصاء منافسين محتملين، قد تأخذ شكل قرار ترتيبيّ من هيئة الانتخابات في ظلّ إعلان الرئيس في 6 مارس عدم الحاجة إلى تنقيح القانون الانتخابيّ لملائمته مع دستوره. هذه الخطوة، إذا تأكّدت، من شأنها أن تؤكد العبث القانوني ونكران الحقوق والنزعة الاستبدادية التي اتّسم بها النظام القائم منذ 25 جويلية 2021، وتنزع ما تبقى من مظهر ديمقراطي لاستحقاق انتخابي تغيب عنه الشروط الدنيا للنزاهة. 

نشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لتحميل العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني