المجامع المهنية المشتركة في الصناعات الغذائية: سلطة التعديل بيد كارتيلات المصنعين؟


2022-02-15    |   

المجامع المهنية المشتركة في الصناعات الغذائية: سلطة التعديل بيد كارتيلات المصنعين؟

سنة 1982، بينما كان رونالد ريغان ومارغريت تاتشر يدقّان المسمار تلوَ الآخر في نعش المنوال الكينزي للاقتصاد والدولة الراعية، معلنَيْن دخول العالم في الحقبة النيوليبرالية، تحصّل جورج ستيغلر، أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو، على جائزة بنك السويد في العلوم الاقتصادية في ذكرى ألفريد نوبل[1]. كانت الإضافة العلمية الأبرز لستيغلر “نظريّة التعديل” (regulation theory)، التي بيّن فيها أنّ الدور التعديلي للدولة لا يخدم الصالح العامّ، كما في الاعتقاد السائد، بل الصناعيين المنتصبين في مجال ما والساعين إلى إقصاء أيّ منافسين جدد[2]. أسّس ستيغلر بهذه المقالة، وبدون أن يستعمل هو نفسه الكلمة[3]، نظريّة الالتقاط أو الاستئثار التنظيمي (Regulatory capture) التي تجاوز رواجُها العلوم الاقتصادية ليشمل العلوم السياسية والقانون والإدارة العمومية وغيرها من الحقول العلمية. تَدرُس هذه النظريّة انحراف الهيئات التشريعية والتنفيذية لخدمة مصالح خاصّة بفئة معيّنة، عوض خدمة الصالح العامّ، وتُقدَّم كتفسير ليس لأزمة الديمقراطيّة وحسب، بل للأزمة المالية العالمية لسنة 2008 أيضاً وحتّى لاستفحال الأزمة البيئية[4]. ولا تجد هذه النظريّة جذورها في أعمال ستيغلر فقط، ومن ورائه مدرسة شيكاغو الليبرالية، بل تتوافق أيضاً مع النقد الماركسي للدولة ومؤسّساتها باعتبارها في خدمة مصالح البرجوازية[5]. لذلك يلتقي حولها اليمين واليسار، وإن اختلفت الاستنتاجات، بين مَن يسعى إلى إلغاء الدور التعديلي للدولة في ما عدا حماية حرّيّة المنافسة، ومن يروم إلى دعمه وتصويبه في اتّجاه الصالح العامّ وحقوق المجتمع.

دفع رواج نظريّة الالتقاط التنظيمي معظم الدول المتقدّمة إلى البحث عن حلول قانونية لتحصين هياكلها التعديلية، بخاصّة في المجالات الاقتصادية الأكثر عرضة لذلك، من مخاطر اختراقها من أصحاب المصالح وتجييرها لخدمتهم. أمّا في تونس، ورغم محاولة المشرّع مكافحة تضارب المصالح في القانون عدد 46 لسنة 2018، فلا يزال هاجس حماية الدور التعديلي للدولة من الالتقاط ضعيفاً. حتّى أنّ استئثار الكارتيلات الاقتصادية بالدور التعديلي ليس مجرّد واقعٍ تعجز القاعدة القانونية عن مكافحته، بل يبدو أحياناً منظَّماً بقوّة القانون، في أحد أكثر القطاعات الاقتصادية أهمّيّة، وكذلك أكثرها تركّزاً في أيدي عدد قليل من الشركات الكبرى، وهو الصناعات الغذائية. إذ يسند القانون صلاحيّات تعديلية إلى المجامع المهنية المشتركة، وهي هياكل هجينة، يختلط فيها العامّ بالخاصّ، تجمع ممثّلين عن الفلّاحين والصناعيين والإدارة. ولكنّها، عوض أن ترمي إلى تعديل اختلال التوازن بين حلقات الإنتاج كما في الأصل الفرنسي، تظهر على العكس كأداة في يد كارتيلات المصنّعين لتحصين مواقعهم وزيادة أرباحهم. فرئيس المجمّع المهني للمصبّرات الغذائية هو سمير ماجول، أحد أهمّ مصنّعي مصبّرات الطماطم ورئيس نقابة الأعراف. أمّا مجمّع الحليب واللحوم الحمراء، فيرأسه ممثّل عن شركة دليس، التي تسيطر على سوق منتوجات الحليب ومشتقّاته. كذلك الأمر في مجمّع منتوجات الدواجن والأرانب، الذي لا تخرج رئاسته عن سيطرة الشركات الصناعية الثلاث التي تقتسم سوق منتوجات الدواجن.

اختلاط العامّ بالخاصّ، لمصلحة مَن؟

يعود إنشاء المجامع المهنية المشتركة في تونس إلى سنة 1965، حين أُنشئ مجمّع صناعات المصبّرات الغذائيّة. تكرّرت تجربة المجامع خلال العقدَيْن المواليَيْن مع منتوجات أخرى في قطاع الفلاحة والصناعات الغذائية، قبل أن يأتي القانون عدد 84 لسنة 1993 ليوحّد نظامها القانوني. يعرّف هذا النصّ، في فصله الأوّل، المجامع المهنية المشتركة بأنّها “ذوات معنوية ذات مصلحة اقتصادية عمومية تتمتّع بالشخصيّة المدنية وبالاستقلال المالي”. يضيف الفصل ذاته أنّ الانخراط في المجامع والانتفاع بخدماتها يشمل المنتجين الفلاحيين والمحوّلين والمصدّرين للمنتوجات الفلاحية أو منتوجات الصناعات الغذائية، سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو معنويين.

تظهر الطبيعة الهجينة لهذه الكيانات إذن منذ تعريفها، حيث إنّها تمثّل جميع المتدخّلين في قطاع ما، وغالبيّتهم الساحقة من الخواصّ، ويُفترَض فيها في الوقت ذاته أنّ تحقّق “مصلحة اقتصادية عمومية”. أي أنّها تتميّز مثلاً عن “تجمّع المصالح الاقتصادية”، المنظَّم بمجلّة الشركات التجارية، والذي يخضع لقاعدة حرّيّة الانخراط ويسعى إلى خدمة مصالح أعضائه الخاصّة. كما تتميّز في الآن ذاته عن الديوان الوطني للزيت، الذي يعرّفه المرسوم المُحدَث له[6] “مؤسّسة عمومية مهنية مشتركة ذات صبغة صناعية وتجارية”، والذي لا يمثّل سوى الدولة التي تحتكر تركيبة مجلس إدارته.

فالخلط بين العامّ والخاصّ داخل المجامع المهنية المشتركة ينعكس في تركيبة مجالس إدارتها، التي لا تشمل فقط ممثّلين عن المنظّمات والجمعيّات المهنية للفلّاحين والمحوّلين والمصدّرين، كما هو الشأن في فرنسا وفي معظم التجارب المقارَنة المستوحاة منها، بل أيضاً ممثّلين عن الإدارة. خصّص قانون 1993 للجهة الحكومية نسبة الربع في مجالس إدارة المجامع، قبل أن تعود مع تنقيح سنة 2005 إلى الثلث، أي تقريباً كما كانت في معظم القوانين المنفصلة التي كانت تنظّم هاته المجامع[7]. ممثّلو الإدارة لا يشكّلون بالضرورة كتلة متجانسة، فهم يأتون من أربع وزارات، وهي الفلاحة والتجارة والمالية والصناعة، كلّ منها ممثَّلاً بعضو. أمّا الثلثان المتبقّيان فيتقاسمها مناصفة، الاتّحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري ممثِّلاً المنتجين، والاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ممثِّلاً، حسب المجمّع والمنتوج، المحوّلين والموزّعين والمصدّرين. يختار مجلس الإدارة رئيساً من بين أعضائه، بالأغلبيّة. وفي الواقع، يبدو أنّ ثمّة قاعدة ضمنية تجعل رئاسة مجامع الصناعات الغذائية حكراً على حلقة المحوّلين، أي الصناعيين. كما يعيّن مجلس الإدارة مديراً عامّاً، بعد استشارة وزير الفلاحة، يتولّى التسيير اليومي، وهو عادة مَن يمثّل المجمّع إعلامياً، إذ يتجنّب رؤساء المجامع الظهور في الصورة، حتى أنّ المواقع الرسميّة للمجامع، ما عدا واحد منها[8]، لا تذكر أسماءهم أصلاً.

ولئن كان وجود الخواصّ في المجامع المهنية المشتركة طبيعياً، فإنّ التركيبة الهجينة تشمل بالعادة أيضاً بعض الدواوين، وهي هياكل عمومية تتمتّع بصلاحيّات تعديلية واسعة، من بينها احتكار توريد منتوجات معيّنة، إذ يخصّص القانون المنظِّم للديوان التونسي للتجارة سبعة مقاعد من أصل 12 لـ “أرباب المهنة”، ما يعطي الشركات المسيطرة على قطاعات معيّنة منفذاً مباشِراً لحماية امتيازاتها.

كما يتجلّى الطابع العمومي للمجامع المهنية المشتركة من خلال تمويلها، إذ يسمح لها قانون 1993 بالانتفاع بموارد معاليم جبائية. هذه المعاليم، التي تتعلّق بالمنتوجات الفلاحية والغذائية الداخلة في مجال كلّ مجمّع، أصبحت تمرّ منذ قانون المالية لسنة 1995 بصندوق تنمية القدرة التنافسية في القطاع الفلاحي والصيد البحري والصناعات الغذائية (FODECAP). ولئن كان التمويل العمومي للمجامع المهنية المشتركة نتيجة منطقية لاعتبارها هياكل ذات مصلحة اقتصادية عمومية، فإنّه ليس حكراً على تونس. إذ نجده كذلك في عدد من الدول الأخرى، بما فيها تلك التي تعتبر الهياكل المهنية المشتركة “خواصّ”، سواء في طبيعتها أو في تركيبتها، كما الشأن في جمهوريّة جنوب أفريقيا وحتّى في الولايات المتّحدة الأميركية[9]. ورغم أنّ اختلاط العامّ بالخاصّ يبلغ أقصاه في تونس، حيث يشمل الطبيعة القانونية للمجامع وتركيبتها، فإنّه موجود كذلك، وإن بدرجات أقلّ، في عدد من التجارب المقارَنة، حتّى أكثرها ليبرالية.

يبقى أنّ درجة حضور العامّ تنعكس كذلك في الصلاحيّات الممنوحة التي حوّلت، في تونس، المجامع المهنية المشتركة من مجرّد هياكل تنسّق بين مختلف حلقات منتوج ما وتحاور السلط العمومية إلى فاعلين بصلاحيّات تعديلية. فرغم أنّ تجربة الجمعيّات المهنية المشتركة تختلف من دولة إلى أخرى، بل وأحياناً داخل دولة واحدة حسب المنتوج الذي تتأسّس حوله، لا تكتسي المهامّ المناطة بعهدتها في العادة طابع السلطة العامّة. في دراسة مقارنة حول الجمعيّات المهنية المشتركة، صنّف خبراء منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتّحدة (الفاو) المهامّ التي تضطلع بها إلى ستّة أصناف كبرى[10]. أوّلها وأهمّها هو الدفاع عن مصالح القطاع، وتمثيله أمام الحكومة، واحتضان المفاوضات التجارية بين حلقاته والحدّ من اختلال التوازن بينها. بالإضافة إلى ذلك، نجد مهامّ متعلّقة بتحسين جودة المنتوج، وتوفير دورات تكوينية للمهنيين، مثلاً حول التكنولوجيّات الحديثة، وجمع وتوفير المعلومات حول سوق المنتوج، وحلّ الإشكالات اللوجستية، وكذلك إنجاز أو تمويل أعمال بحثية بهدف تطوير القطاع.

من أدوار الحوار والتمثيل والتطوير، إلى التعديل

معظم هذه المهامّ موجودة في القانون المنظِّم للمجامع المهنية المشتركة في تونس. لكنّه يضيف مهمّتَيْن مُبهمتَيْن، يتسلّل من خلالهما دور تعديلي، وهما “المساهمة في تعديل السوق باعتماد مختلف الآليّات الملائمة”، و”المساهمة في النهوض بالتصدير”. في كليهما، يضيف القانون عبارة “بالتعاون والتنسيق مع الهياكل المهنية والإدارية المعنيّة”، بدون أن يكون واضحاً هامش تدخّل المجامع المهنية المشتركة ولا سلطتها التقريرية. في الواقع، كانت صياغة المهامّ أكثر تفصيلاً في الصيغة الأصلية للقانون، قبل تنقيحه سنة 2005، فكانت تشمل “التدخّل عند الضرورة لتفادي اختلال العرض والطلب”، و”القيام بكلّ عمليّة إنشاء مخزون لضمان التزويد وخزن فوائض الإنتاج”. أمّا صلاحيّة التدخّل في التصدير، فنجد تفاصيلها، في علاقة بقطاع التمور، في قرار وزير الاقتصاد المؤرَّخ في 18 جانفي 1988 والمتعلّق بموسم التمور. هذا القرار، الذي يسند لوزير الاقتصاد صلاحيّات إصدار “البطاقة المهنية لمصدّر التمور” التي لا يمكن من دونها ممارسة هذا النشاط، و”بطاقة مجمّع التمور”، وتحديد الأسعار الدنيا، يشترط في جميعها أخذ رأي المجمّع المهني المشترك، أي أنّ هذا الرأي نظرياً غير “مطابق”. ولكنّه يُخضع جميع عمليّات التصدير إلى شرط تأشير المجمّع على الفواتير، ممّا يسمح للمصدّرين الموجودين والممثَّلين بالمجمّع بإقصاء أيّ منافسة جديدة. تقرير منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) حول تقييم الأثر على المنافسة، يشدّد على أنّ صلاحيَّتًيْ تكوين مخزونات استراتيجية لتعديل السوق ومراقبة الصادرات، لا تتلاءم أبداً مع طبيعة المجامع المهنية المشتركة، ومن شأنها أن تحدّ من حرّيّة المنافسة داخل القطاعات المعنيّة[11]، لصالح الشركات الممثَّلة في المجمّع. فكما بيّن ذلك ستيغلر في مقالته المرجعية، أكثر ما يهمّ الفاعلين الاقتصاديين عند التأثير على السياسات التعديلية لقطاع ما، ليس الحصول على امتيازات معيّنة وحتّى مِنح مباشَرة، بقدر ما هو إقصاء المنافسين الجدد.

يبقى أنّ جزءاً هامّاً من صلاحيّات المجامع يقتصر على الاستشارة والاقتراح، على أن يصدر القرار من الوزارة، ممّا يترك السؤال قائماً حول مدى تدخّل الدولة في الواقع للحدّ من استئثار الشركات الكبرى بالدور التعديلي. تفتح ضبابيّة صلاحيّات المجامع وتدخّلها في المجال التعديلي، وعدم وضوح ترابطها مع صلاحيّات الإدارة، الباب أمام انحراف دور المجامع في اتّجاه خدمة الطرف الأقوى داخلها. في الأصل الفرنسي، لا تصدر الجمعيّات المهنية المشتركة قرارات، بل اتّفاقيات مهنية مشتركة، تلزم فقط مَن ينخرط فيها. لكن، إذا ما أُبرِمت بالإجماع داخل الجمعيّة المهنية المشتركة، أي باتّفاق ممثّلي مختلِف حلقات الإنتاج، يمكن للدولة تعميمها، لتصبح ملزِمة حتّى لغير المنخرطين[12]. أمّا في تونس، رغم أنّ تقريراً للبنك الدولي، المحترز دائماً من أيّ حضور للدولة، يعتبر المجامع المهنية المشتركة في تونس “ذراعاً للإدارة”[13]، نرى أنّها ذراع مشتركة للإدارة والصناعيين… على حساب الفلّاحين.

 ضعف تنظّم الفلّاحين، العلّة الأصلية؟

تاريخياً، كان الهدف الأبرز من إيجاد شكل الجمعيّات المهنية المشتركة في فرنسا، ثمّ في دول أوروبية أخرى، هو حماية مصلحة الحلقة الأضعف من حلقات المنتوج الفلاحي أو الغذائي، أي الفلّاح. فالمنتجون الفلاحيون يكونون دوماً أكثر عدداً وأقلّ تنظّماً من المحوّلين والموزّعين والمصدّرين. لذلك، تعطي الجمعيّات المهنية، نظرياً، الفرصة للفلّاحين للتعامل بندّيّة مع بقيّة الحلقات، فتقلّص بقوّة القانون، اختلال التوازن في العلاقات الاقتصادية. لكنّ الأمر مختلف في تونس. في قطاع التمور مثلاً، وهو، كغيره من القطاعات الفلاحية وربما أكثر، تحكمه علاقات استغلال للفلّاحين من طرفِ الحلقات الأخرى، عارض الفلّاحون منذ سنوات قليلة مشروع إنشاء مجمّع مهني مشترك، وطالبوا مكانه بديوان عمومي للتمور. فرغم أنّ التمور كان لها مجمّعها المهني المشترك، انحلّ هذا المجمّع منذ 2002 ليتولّى مجال اختصاصه المجمّع المهني المشترك للغلال. في النهاية، غلبت الرؤية المقابلة، وأُعيدَ إنشاء مجمّع مهني مشترك للتمور سنة 2018، بعد أن وُعِد الفلاّحون بأن تكون رئاسة المجمّع بالتناوب بينهم وبين المصدّرين، الذين كانت لهم أسبقيّة العهدة الأولى.

يبقى أنّ تفضيل الفلّاحين هيكلاً عمومياً صرفاً، في شكل ديوان، على مجمّع مهني مشترك يُمثَّلون مباشَرةً فيه بنسبة الثلث، يكشف العيب الأصلي الذي طبع تجربة المجامع المهنية المشتركة في تونس، وهو ضعف تنظّم الفلاحين. ورغم أنّ اختلال التوازن بين الفلّاحين وبقيّة الفاعلين الاقتصاديين يكاد يكون القاعدة في كلّ مكان، فإنّه دفع الفلّاحين في عدد كبير من الدول إلى التنظّم بطريقة يقدرون فيها على التأثير في السياسات العامّة وتعديل الكفّة ولو نسبياً. لكنّ الاتّحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، الذي لا يزال يحتكر تمثيل الفلّاحين داخل المجامع المهنية المشتركة رغم وجود نقابة الفلاحين المنافسة له، التي نشأت بعد الثورة، أبعد ما يكون عن تأدية هذا الدور.

فقد كان الاتّحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، منذ نشأته، مرتبطاً بشكل عضوي بالسلطة، مبارِكاً جميع سياساتها. فقد تأسّس في 1955 لينافس الاتّحاد العامّ للفلاحة التونسية، الذي اصطفّ معظم قياداته وراء بن يوسف في صراعه مع بورقيبة، قبل أن تجعله السلطة بعد انتصار هذا الأخير ممثِّلاً وحيداً للفلّاحين. ورغم أنّ ارتباط المنظّمات الوطنية الكبرى بالسلطة كان القاعدة منذ الاستقلال، قلّما كانت العلاقة ذات اتّجاه واحد كما في حالة اتّحاد الفلّاحين. فالخيارات الاقتصادية الكبرى لدولة الاستقلال كانت على حساب صغار الفلّاحين، سواء عند تطبيق تجربة التعاضد في الستّينيّات، ثمّ بالأخصّ مع سياسة تشجيع الاستثمار الأجنبي المتواصلة منذ السبعينيّات، التي فرضت الإبقاء على مستوى منخفض للأجور، ممّا يشترط الضغط على كلفة المعيشة أي على أسعار الموادّ الأساسية المتأتّية أساساً من الفلاحة.

لم يتغيّر الأمر كثيراً بعد الثورة، حيث تولّى رئاسة اتّحاد الفلاحين، في مؤتمر 2013، عبد المجيد الزار، عضو مجلس الشورى في حركة النهضة. لم يغيّر تأسيس “نقابة الفلّاحين” بعد الثورة المشهد كثيراً، حيث لا تزال الدولة لا تعترف بالتعدّديّة النقابية، وتكرّس سيطرة الاتّحاد على الفلّاحين عبر علاقات زبائنية[14]، إذ تمرّ معظم طلبات المنح والقروض والتزويد والبطاقات المهنية عبر قنواته. بالإضافة إلى ذلك، تشهد نقابة الفلّاحين نفسها انقسامات لم تساعدها على افتكاك تمثيليّة واسعة.

قد يكون فلّاحو قرية أولاد جاب الله، بانتفاضتهم احتجاجاً على أسعار الأعلاف[15]، قد وضعوا الإصبع على موطن الداء، إذ استهدفت شعاراتهم في الآن ذاته المجموعات الاقتصادية الثلاث المسيطرة على قطاع الأعلاف، واتّحاد الفلاحين الذي اعتبروه متواطئاً معها، متجاهلاً حقوق ومصالح صغار المزارعين.

إن كانت تجربة المجامع المهنية المشتركة في تونس نسخة مشوّهة عن الأصل الفرنسي، فذلك لا يعود إلى تركيبتها الهجينة وتدخُّلِها في المجال التعديلي وحسب (ما يشكّل تطبيقاً يكاد يكون كاريكاتورياً لنظرية الاستئثار التنظيمي) إنّما تَحوُّلها، على عكس هدفها التاريخي، إلى أداة في خدمة مصلحة المُصنِّعين. ويتأتّى هذا الأمر بالدرجة الأولى عن ضعف تنظّم الفلّاحين وسلبيّة المؤسّسة التي يُفترَض بها أن تدافع عنهم. ففي دراسة لوزارة الخارجية الفرنسية حول مدى ملاءمة نقل تجربة الجمعيّات المهنية المشتركة إلى الدول النامية، يشدّد الخبراء على ضرورة أن يسبق ذلك تنظّمُ الفلّاحين، وتشكيلُهم قوّة سياسية[16]. ففي غياب ذلك، قد تتحوّل هذه الجمعيّات إلى أداة لآخر حلقات المنتوج لفرض سيطرتها على المُنتِجين.

قد لا يحتاج الصناعيون ولا المصدّرون إلى مجمّع مهني مشترك، للتنظُّم في شكل كارتيل. لكنّ الدولة تضفي شرعيّة قانونية ومؤسّساتية على كارتيلهم، وتساعدهم على إحكام سيطرتهم على قطاعاتهم، سواء في ما خصّ منافسيهم أو بقيّة حلقات الإنتاج. فالسؤال الأهمّ ليس بالضرورة إذا كان على الدولة أن تتدخّل، فحتّى السياسات الأكثر نيوليبرالية تحتاج تدخّل الدولة، إنّما هو، لمصلحة مَن تتدخّل الدولة؟

نشرت هذه المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم

اضغطوا هنا لقراءة المقالة باللغة الإنجليزية


[1] كثيراً ما تسمى خطأ بجائزة نوبل للاقتصاد، في حين ألّا علاقة لها بجوائز نوبل الخمس، التي جاءت في وصيّة ألفرد نوبل.
[2] George Stigler, “The theory of Economic Regulation”, The Bell Journal of Economics and Management Science, Vol. 2, No. 1 (Spring, 1971), pp. 3-21 (19 pages), 1971.
[3] Christopher Carrigan and Cary Coglianese, “ George J. Stigler, “the theory of economic regulation””, in Martin Lodge, Edward C. Page, and Steven J. Balla (ed), The Oxford Handbook of Classics in Public Policy and Administration, 2015, p. 290.
[4] Daniel Carpenter and David A. Moss, Introduction, in Carpenter and Moss (ed.), Preventing regulatory capture. Special Interest influence and how to limit it, Cambridge University Press, p. 1.
[5] Jean-Jacques Laffont and Jean Tirole, “The politics of government decision-making: a theory of regulatory capture”, The Quarterly Journal of Economics Vol. 106, No. 4 (Nov., 1991), Oxford University Press, 1988, pp. 1089-1127.
[6] المرسوم عدد 13 لسنة 1970.
[7] كانت نسبة ممثّلي الإدارة في المجامع الثلاثة للمنتوجات الفلاحية، أي الخضر، والقوارص والغلال، والتمور، ثلاثة أعضاء من عشرة. أمّا بالنسبة إلى المجامع الخاصّة بالصناعات الغذائيّة، فيختلف الأمر حسب المجمّع. على سبيل المثال، في مجمّع المصبّرات الغذائية، كانت الإدارة مُمثَّلة بثلاثة أعضاء من أصل خمسة عشر عضواً، بالإضافة إلى حضور ثلاثة موظّفين بصوت استشاري فقط، لكن مع إمكانيّة الطعن، على أن يكون الحسم بيد الوزير. أمّا في مجمّع منتوجات الدواجن والأرانب، فتتمثّل الدولة بأربعة أعضاء مقابل خمسة من القطاع الخاصّ.
[8] الاستثناء الوحيد هو مجمّع المصبّرات الغذائية (GICA)، ربّما بالنظر إلى أنّ سمير ماجول، الذي يشغل في الوقت ذاته رئاسة المنظّمة التونسية للتجارة والصناعة والصناعات التقليدية، لا يهرب من الأضواء، على عكس نظرائه في بقيّة المجامع.
[9] A. W. Shepherd, J-J. Cadilhon, E. Galvez, Les associations interprofessionnelles sont-elles un outil de développement des filières ?, FAO, p. 30.
[10] Ibid., p. 20.
[11] OCDE, Examens de l’OCDE pour l’évaluation de l’impact sur la concurrence: Tunisie, 2019, p. 54.
[12] Célia CORONEL, Laurent LIAGRE, Les interprofessions agroalimentaires en France, Ministère des affaires étrangères, 2006, p. 20.
[13] Banque mondiale, Tunisie, Examen de la politique agricole, Rapport No. 35239-TN, 2006, p. Xlviii.
[14] Alia Gana, “Protestations et action collective en milieu agricole et rural. Enjeux et paradoxes du processus de changement politique en Tunisie, in Amin Allal et Vincent Geisser (dir.), Tunisie, une démocratisation au-dessus de tout soupçon?, Nirvana, p. 69.
[15] ياسين النابلي، “قرية أولاد جاب الله وحكاية المقاومة الريفية لمنظومة الهيمنة“، موقع المفكّرة القانونية، 23 مارس 2021.
[16] Célia CORONEL, Laurent LIAGRE, op. Cit., p. 44.

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، سلطات إدارية ، قطاع خاص ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني