المجالس المحلية: إجراء “الانتخابات” وتأجيل الصلاحيات


2023-12-23    |   

المجالس المحلية: إجراء “الانتخابات” وتأجيل الصلاحيات

لأول مرة، ستُجرى يوم 24 ديسمبر 2023 الدورة الأولى للانتخابات المحلية في تونس. وعلى الرغم من حداثتها ومن السعي الدؤوب لهيئة الانتخابات لضمان مشاركة واسعة، إلا أنها تمثل (لا) حدث سياسي لا يكاد يثير انتباها أو حركية تُذكر في الميدان. سياسيا، تتنزل هذه الانتخابات كلحظة انتخابية ثالثة في نظام الرئيس قيس سعيّد تعقب الاستفتاء على الدستور والانتخابات التشريعية على درب إرساء دعامة إضافية من مؤسسات الحكم الفردي ممثلة في الغرفة الثانية للبرلمان، وخطوة إضافية في تكريس مشروع الرئيس المنفرد بالسلطة والقائم على فكرة البناء القاعدي.

تمثل المجالس المحلية التي سيقع انتخابها الصنف الوحيد الذي وقع استحداثه تماما، مقارنة بالبلديات والجهات والأقاليم. لذلك، كان من المفترض وجود تصوّر واضح ومتكامل دفع واضع الدستور ومُصدر المراسيم إلى بعث هذا الكائن الجديد الى الحياة المحلية. لكن، على الرغم من أنه لا تفصلنا عن إجراء الدورة الأولى للانتخابات المحلية سوى أيام قليلة، لا يزال الغموض يكتنف دور هذه المجالس وصلاحياتها، بقطع النظر عن تعدّد المحاولات الهادفة والمصرّة على رفع هذا الغموض.

من الناحية القانونية، يتضمّن مصطلح الاختصاص مكوّنين اثنين. يتمثل الأول في منح الامكانية والتأهيل القانوني لممارسة مهام معينة، فيما يتعلق الثاني بضبط مجالات التدخل بشكل دقيق[1]. وتتمتع مسألة توزيع الاختصاص بأهمية بالغة بالنسبة للجماعات المحلية بما أنها تمثل خيارا سياسيا قبل أن تكون تقنية قانونية[2] يمكن من خلالها تحليل مكانة الجماعات المحلية صلب التنظيم الإداري والسياسي للدولة، خاصة في علاقتها بالسلطة المركزية.

غير أنه في علاقة بالمجالس المحلية القادمة، من الغريب عدم إصدار أيّ نصّ يحدّد صلاحيّاتها حتّى اليوم. وقد حاولت هيئة الانتخابات سدّ هذا الفراغ من خلال الإيهام بوجود إطار قانوني يحدد مهام المجالس القادمة، بالاستناد إلى نصوص قانونية في غير محلها، وأبرزها قانون 1994 حول المجالس المحلية للتنمية. من جهة أخرى، يفتح هذا الغموض باب التأويلات والفرضيات حول الدور الحقيقي الذي ستلعبه المجالس المحلية على غرار بقية الجماعات المحلية، التي يبدو أنها ستكون مجرد خزان انتخابي لإضفاء مشروعية انتخابية للغرفة الثانية للبرلمان، من دون أي قدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها على أرض الواقع.

هيئة الانتخابات تتجاوز صلاحيّاتها…

لئن كان المرسوم عدد 10 موغلا في المسألة الانتخابية والجوانب المتعلقة بتركيبة مختلف المجالس، إلاّ أنه سكت عن مسألة اختصاصاتها. وعليه، وفي ظل غياب أيّ نصّ يحدّد بشكل صريح مهام المجالس المحلية، سعت الهيئة المشرفة على الانتخابات إلى سدّ هذا الفراغ من خلال إعداد ومضات تحسيسية رسمية تشرح فيها دور المجالس المحلية القادمة. ومن اللافت للانتباه أن الهيئة قامت بالترويج لها في مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وعلى مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، وذلك حتى قبل الانطلاق القانوني للمسار الانتخابي الذي يتم بمقتضى إصدار رئيس الجمهورية أمر دعوة الناخبين.

حسب الهيئة، تتمثل صلاحيات المجلس المحلي المنتخب في “النظر في المسائل المتعلقة بالتنمية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية والتربوية بالمعتمدية والعمادات التابعة لها وهو الذي يضبط الأولويات والبرامج والمشاريع التنموية”. كما تؤكد الومضات التحسيسية على اختلاف الصلاحيات بين المجالس البلدية والمجالس المحلية، حيث “تهتم المجالس البلدية بالمشاريع البلدية مثل التنوير العمومي ورفع الفضلات المنزلية”. بينما يهتم المجلس المحلي “بالمشاريع التنموية المحلية على مستوى المعتمدية والعمادات التابعة لها بمعنى أن المجلس المحلي سوف يقرر بعد الاستماع لمشاغل المواطنين المشاريع التي تستحقها المعتمدية التي يمثلها”، من خلال تقديم مجموعة من الأمثلة على غرار إنشاء مستشفى، أو مدرسة، أو دار شباب، أو مدرسة إعدادية.

للوهلة الأولى، يمكن التفكير في شكر الهيئة على مجهودها في إماطة اللثام عن الغموض الذي يحيط بصلاحيات المجالس التي تُشرف على تنظيم انتخاباتها، غير أن ما أقدمت عليه الهيئة يمثل عملا مُستفزا ليس فقط للمنطق العام السليم، بل كذلك للمنطق القانوني العقلاني من خلال الاستنجاد بنصوص قانونية لا علاقة لها بالموضوع.

منطقيا، وبالنّظر إلى خصوصية المجالس المحلية وحداثتها في المشهد اللامركزي التونسي، كان على رئيس الجمهورية أن يُقدم تصورّه المتكامل للنظرة الجديدة للجماعات المحلية من خلال استكمال نحت معالمها وإصدار النصوص القانونية المنظمة لصلاحياتها، وعلى رأسها المجالس المحليّة. إذ يفرض المنطق أن إنشاء صنف جديد للجماعات المحلية أملتْه ضرورة ما تتّصل وجوبا بالمصلحة العامة، مع الإشارة إلى جسامة هذه العملية: إذ أنّ بعث صنف جديد من الجماعات المحلية يمثّل عملا قانونيا قليل اللجوء إليه، ويختلف جوهريا مع الأعمال القانونية الإدارية المعهودة على غرار خلق إدارة جديدة صلب وزارة ما، أو دمج مصالح إدارية أو إدارات عامة أو وزارات مع بعضها البعض. فما الحاجة الوظيفية التي أدت إلى خلق هذا الصنف الجديد؟ أم أنّ الأمر يتعلّق فقط بتحقيق نبوّة للماسك بالسلطة، يرى فيها خلاصا للإنسانيّة جمعاء؟

قانونيا، يمثل تحديد اختصاصات المجالس المحلية عملا يخرج عن صلاحيات هيئة الانتخابات التي تقف عند الإشراف على مختلف مراحل العملية الانتخابية. استناد على القانون المحدث لها، ينصّ الفصل 3 من القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات على أنها تتولى “القيام بجميع العمليات المرتبطة بتنظيم الانتخابات والاستفتاءات وإدارتها والإشراف عليها”. كما لا تتضمن صلاحياتها  أي إشارة، صريحة كانت أم ضمنية، إلى مهمة ضبط اختصاصات الهياكل التي تشرف على عملية انتخابها. يبدو أن الهيئة التي ما انفكت تذكر وتؤكد على “ولايتها العامة” على المسار الانتخابي أوّلت خطأ هذه الولاية لتتجاوز سلطتها الترتيبية وتتدخل في مجال التشريع.

إنّ تحديد اختصاصات أي هيكل من الهياكل لا يتم استنتاجه بشكل ضمني أو الاستئناس بنصوص أخرى لتحديدها، بل يتم التنصيص عليه بشكل صريح في إطار نص قانوني. وتمثل القاعدة القانونية العامة التي مفادها “لا اختصاص بدون نصّ” تكريسا قانونيا لهذا المتطلب المنطقي، إذ لا يمكن تصوّر إحداث هيكل دون تحديد سابق لصلاحياته ومهامه، خصوصًا إذا تعلق الأمر بإحداث صنف جديد للجماعات المحلية، لم يعرفه من قبل التنظيم الإداري التونسي.

وتغالط الرأي العامّ…

حتى وإن وقع التسليم بمشروعية تمشي الهيئة القائم على سدّ الفراغ التشريعي، لا يمكن من ناحية المضمون، الاستناد على القانون الذي ارتكزت عليه الهيئة، وهو القانون عدد 87 لسنة 1994 المؤرخ في 26 جويلية 1994 المتعلق بإحداث مجالس محلية للتنمية، وذلك لعدة أسباب قانونية مترابطة.

أولا: الطبيعة القانونيّة للنصّ. ينتمي قانون 94 إلى خانة القوانين العادية، في حين أن دستور 2022 ينصّ في الفصل 75 على أنّ النصوص المتعلقة بالمجالس المحلية يجب أن تأخذ شكل قوانين أساسية.

ثانيا: الطبيعة القانونيّة للمجلس. ينصّ الفصل الأول من قانون 1994 على أنّ المجلس المحلي للتنمية المحدث بكل معتمدية هو هيكل استشاري يرأسه المعتمد، وهي ينتمي تبعا لذلك إلى التنظيم اللامحوري الترابي، أحد تفرعات التنظيم المركزي. على خلاف ذلك، تمثل المجالس المحلية القادمة صنفا من أصناف الجماعات المحلية وهي مجالس منتخبة لا علاقة هيكلية بينها وبين المعتمد، وتنتمي (نظريّا) إلى التنظيم اللامركزي الترابي، وإن افتقرت في الواقع إلى كلّ ضمانات اللامركزيّة.

ثالثا: التركيبة. ينصّ الفصل 2 من قانون 94 على أن المجلس المحلي للتنمية يتركب من: رؤساء البلديات أو رؤساء الدوائر البلدية بالمعتمدية، رؤساء المجالس القروية بالمعتمدية، عُمَد المناطق الترابية بالمعتمدية وممثلين عن المصالح الجهوية الراجعة بالنظر للإدارات المدنية التابعة للدولة والمؤسسات العمومية بدائرة المعتمدية. على خلاف ذلك تماما، ستتكون التركيبة الجديدة للمجالس المحلية القادمة من شقين. شق منتخب بطريقة مباشرة من قبل الناخبين المحليين باعتماد نظام الاقتراع على الأفراد في دورتين في إطار دوائر انتخابية ضيقة تقوم على العمادة، والقرعة بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة. أما الشق الثاني، فيتكون من موظفين عموميين معيّنين من طرف الوزراء، ممثلين في مديري الإدارات المحلية بالمعتمدية.

رابعا: الصلاحيات. تضمّن الفصل 3 من قانون 1994 تعدادا لصلاحيات المجالس المحلية، التي تتمحور حول النظر في كل المسائل المعروضة عليه من طرف رئيسه والمتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية بدائرة المعتمدية، إضافة إلى إبداء الرأي في البرامج والمشاريع المحلية للتنمية وتقديم اقتراحات في خصوص ضبط الأولويات، وتنظيم أيام تنموية محلية يقررها الوالي، علاوة على المساهمة في إعداد وتنفيذ البرامج المتعلقة بالنظافة والعناية بالبيئة وبرامج المحافظة على الطبيعة وترشيد استغلال الموارد الطبيعية والمحافظة عليها وحمايتها. كما يساهم المجلس في إعداد المخطط الجهوي للتنمية. كما يشير القانون إلى أنّ المجلس المحلي يرفع إلى الوالي تقارير دورية تتضمن مقترحاته وتوصياته حول جميع المسائل المعروضة عليه. ويمكن للوالي إحالة تلك التقارير إلى الوزارات المعنية.

تتميّز هذه الصلاحيات أساسا بطابعها الاستشاري الذي يتلاءم مع طبيعة الهيكل الاستشارية الذي يرأسه المعتمد ويخضع، تبعا لذلك، إلى سلطة الوالي. على نقيض ذلك، لا يمثل المجلس المحلي القادم هيكلا تحت إشراف الوالي، بل هي جماعة محلية من المفترض أن تقوم على مبدأ التدبير الحرّ بما يعنيه ذلك من حرية في التداول وأخذ القرارات، في إطار وحدة الدولة. وعليه، فإنّ الصلاحيات التي يجب أن تتمتّع بها هي صلاحيات تقريرية قادرة على تنفيذها على أرض الواقع، وليس مجرد آراء استشارية يمكن أن يتم الأخذ بها كما الإعراض عنها.

بناء عليه، يبدو جليا عدم قابلية قانون 94 للتطبيق على المجالس المحلية القادمة، بالنظر إلى حجم الاختلافات وانتماء كل هيكل إلى بيئة قانونية ومؤسساتية وسياسية مختلفة، بل متناقضة.

مجالس للتصعيد والتداول، بلا سلطة قرار ولا تنفيذ

على الرغم من هذا الغموض القانوني، فإنّ ما صرّحت به الهيئة وما كرره رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة من تأكيد لإسناد مهمة التنمية إلى المجالس الجديدة، انطلاقا من المجالس المحلية، يفتتح باب النقاش حول هذا الخيار بالنظر خاصة إلى طبيعة هذه الصلاحيات من جهة، والى تقاطع مع مهام بقية الجماعات المحلية عموما والبلديات خصوصا، ما يطرح إمكانية وجود علاقات وظيفية نزاعية بين مختلف أصناف الجماعات المحلية.

تقوم النظرية العامة للجماعات المحليّة على العديد من المبادئ التي يمثّل التدبير الحر عمادها. ولا يقف مفهوم التدبير الحر عند الحرية التي يتمتع بها المجلس المنتخب في عملية التداول وأخذ القرار في إطار قوانين الدولة، بل يتعدّاه ليشمل القدرة على تنفيذ تلك القرارات حتى لا تبقى حبرًا على ورق.

إلاّ أنه بالرجوع إلى الإطار القانوني الحالي المنظّم للمجالس المحلية، وفي ظلّ طغيان الغموض على صلاحياتها، يبدو أن مجال حركة المجالس المنتخبة سيقف عند عملية التداول حول المشاريع التنموية التي سيقع إقرارها صلب كل مجلس مع “تصعيدها” للطابق الموالي من الجماعات المحلية ممثلا في المجلس الجهوي، الذي يقوم بدوره بنفس العملية التصعيدية إلى مجلس الإقليم، ليُتوج مسار المشاريع التنموية التي تمّ تأليفها صلب المجلس الوطني للجهات والأقاليم، الغرفة الثانية للبرلمان. بهذا التمشي، يبدو أنه يمكن اختزال صلاحيات المجالس المحلية، على غرار بقية المجالس، تحت شعار “أكثر تداول، أقلّ تقرير، أقل تنفيذ”.

يتعزّز هذا الاستنتاج بالنظر إلى مُعطييْن هامّين. يتمثّل الأول في طبيعة العلاقة الهيكلية بين الجماعات المحلية المستحدثة والتي تحكمها علاقة انتخابية- تصعيدية داخليا وخارجيا. داخليا، يتمّ انتخاب أعضاء المجالس المحلية بشكل مباشر، ليتمّ في مرحلة ثانية تنظيم قرعة لاختيار ممثل عن المجلس المحلي بالمجلس الجهوي الراجع له بالنظر. إثر ذلك، ينتخب أعضاء المجلس الجهوي من بينهم ممثلا واحدا بمجلس الإقليم. بهذه الطريقة تكتمل تركيبة المجالس المحلية داخليا. خارجيا، ينتخب أعضاء كل مجلس جهوي 3 أعضاء لتمثيل المجلس الجهوي في المجلس الوطني للجهات والأقاليم، كما ينتخب أعضاء كل مجلس إقليم نائبا واحدا لتمثيل الإقليم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم.

بهذا التمشي، يبدو جليا الدور الانتخابي-التصعيدي لكلّ صنف من الأصناف الذي ينطلق بانتخابات المجالس المحلية وينتهي في الغرفة الثانية للسلطة التشريعية. وبناء عليه، كأنّ وظيفة هذه المجالس الرئيسية هو استكمال تركيبة الغرفة الثانية للبرلمان وتعزيز مشروعيتها، وليس تعزيز صلاحيات مجالس منتخبة. ويتنزّل هذا الخيار في إطار نظام سياسي جديد يقوم على اختلال واضح في توزيع السلطات لفائدة رئيس الجمهورية، إذ لا مكان في نظام حكم الفرد لأيّ سلط أخرى يمكن أن تكون مضادة أو حتى مكملة للسلطة التنفيذية.

علاوة على هذا التكثيف الانتخابي الذي يصعب هضمه، تفتقر المجالس المحلية، شأنها شأن بقية الأصناف، إلى المقومات المتعلقة بالموارد التي ستسمح لها بتنفيذ قراراتها. فحتّى اليوم، لا وجود لأي بوادر لتمتيع المجالس المحلية بموارد مالية وبشرية ومادية خاصة بها، لصيقة بصفتها كجماعة محلية. كما أنّ المجالس المحلية ومجالس الجهات ستكون في علاقة ارتباط وثيق مع المعتمدية والولاية على المستوى اللوجستي-التنظيمي من خلال احتضانها اجتماعاتها ومسك مهمة كتابة المحاضر والتكفل بالمصاريف اللازمة. يعني ذلك مبدئيا أنّ دور هذه المجالس سيقتصر على التداول والتأليف، وأنّ النسخة النهائية لهذه العملية التأليفية إلى جانب مرحلة التنفيذ ستبقى من الاختصاص الحصري لهياكل السلطة المركزية.

تكامل أم تنازع في الصلاحيات؟

إلى جانب المستوى المتعلق بالموارد، يطرح غياب توزيع واضح للصلاحيات بين مختلف أصناف الجماعات المحلية المستحدثة والكلاسيكية إشكالا جدّيا يتعلق بتعزّز فرص وجود علاقات نزاعية ومبهمة.

في خصوص الطابع المبهم، فهو يتعلق بالعلاقات الوظيفية بين المجالس المحلية من جهة، ومجالس الجهات ومجالس الأقاليم من جهة أخرى. من المعلوم أن اختصاصات هذه الأخيرة تم التنصيص عليها صلب مجلة الجماعات المحلية، وهو ما يعني نظريا عدم وجود فراغ تشريعي وإمكانية مواصلة تطبيقها. غير أنّ ذلك يصطدم بمعطى موضوعي منطقي يتمثل في انتماء المجلة دستوريا وسياسيا الى نظرة خاصة للجماعات المحلية سعت الى تدعيم استقلاليتها في إطار دستور 2014. وبالتالي، يبدو واضحا أن الإلغاء التدريجي أو المراجعة الجذرية سيكون مصير المجلة بوصفها، شكلا ومضمونا، من بقايا مرحلة توجّب حسب الرئيس إغلاقها تماما. .

من جهة ثانية، يجد الطابع الملتبس والنزاعي صداه بين المجالس البلدية والمجالس المحلية. بالرجوع إلى الصلاحيات التي عددتها الهيئة، من دون أن تكون مؤهلة لذلك، أو استنادا على خطابات رئيس الجمهورية بقطع النظر عن عموميتها، بالإمكان القول أنّ اختصاصات المجالس المحلية تتقاطع بشكل شبه كلي مع اختصاصات المجالس البلدية. ولئن وقع حلّ هذه الأخيرة بمرسوم رئاسي، فإنّ المؤسسة البلدية لازالت قائمة وتمارس اختصاصاتها المنصوص عليها صلب مجلة الجماعات المحلية التي لا تتعارض مع أحكام المرسوم عدد 10. على سبيل المثال، ينصّ الفصل 18 على أنه “تتمتع البلدية بالاختصاص المبدئي العام لممارسة الصلاحيات المتعلقة بالشؤون المحلية…”. كما ينصّ الفصل 200 على أنّ “البلدية جماعة محلية تتمتّع بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية تتولى التصرف في الشؤون البلدية وفقا لمبدأ التّدبير الحر وتعمل على تنمية المنطقة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا وحضريا وإسداء الخدمات لمنظوريها والإصغاء لمشاغل متساكنيها وتشريكهم في تصريف الشأن المحلي”. وعليه، يمكن القول أنّ البعد التنموي لا يعدّ فقط مجرد اختصاص من اختصاصات البلدية، بل يمثل مقوما من مقومات تعريفها ووجودها، سواء بشكل مباشر أو من خلال إسنادها الاختصاص المبدئي العام.

يطرح هذا التداخل أسئلة متعددة تتعلّق بالمخاطر التي يمكن أن تشهدها البلديات: هل أنّ الغاية من سحب هذا الاختصاص الهامّ من البلديات عزلها عن بقية الجماعات المحلية وتهميش دورها الذي سيقتصر على الخدمات البلدية الكلاسيكية ممثلة في خدمات القرب كرفع الفضلات والتنوير والتراتيب العمرانية الى جانب إسداء الخدمات المتعلقة بالحالة المدنية، خصوصًا وأنه لم يتم أصلا تحديد موعد للانتخابات البلدية القادمة بعد حلّ مجالسها؟

في نفس التمشّي الضبابي، من المشروع التساؤل عن مدى قدرة المجالس المحلية الجديدة على تناول المسائل المتعلقة بمخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والصحية، والتربوية والثقافية. أليس في إسناد هذه الصلاحية للمجلس المحلي إيهاما للمتساكنين بأن هذا المجلس سيحقق لهم كل البرامج التنموية التي يحلمون بها في حين أنّ مشاريع ومخططات التنمية يمكن أن يتم رفضها عندما “تصعّد” إلى المجلس الجهوي والذي قد يكون أعدّ برنامجا تنمويا مختلفا عن البرنامج الذي اقترحه المجلس المحلي؟ كيف سيتم التحكيم بين مختلف البرامج التنموية للمجالس المحلية صلب المجلس الجهوي؟ كيف يمكن التأليف بين مشاريع لا يمكن التأليف بينها؟

 في ظلّ انعدام النقاش العام حول هذه المسائل التي تعوّدنا التعليق عليها بصورة لاحقة، تبقى هذه الأسئلة معلقة من دون أجوبة حاسمة. إلاّ أن نتائج هذا الخيار تبدو واضحة وستقود إلى بعث جماعات محلية فاقدة لكل مقومات النجاعة والاستقلاليّة، يقتصر دورها على التداول والتصعيد، وهو ما يمثل قبرا لمسار لامركزي كان واعدا في خطواته الأولى. وينصهر هذا الخيار في إطار النظرة الجديدة للامركزية، وهي نظرة موغلة في المركزية وفقا لدغمائية وحدة الدولة، لا تعترف بوجود هياكل منتخبة قادرة على إدارة الشأن المحلي بكل حرية ونجاعة، مهما ادّعت العكس.

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد رقم 28
للاطّلاع على العدد بصيغة PDF


[1] «  La compétence, au sens juridique du terme, comporte nécessairement une double composante, la première étant l’aptitude légale à intervenir, la seconde un ou des domaines d’intervention. Parler de compétences, c’est faire référence indissolublement à ces deux dimensions », Jean-Marie Pontier, « Compétences locales et politiques publiques », Revue française d’administration publique, n° 141, 2012, 139-156.

[2] « Certes, il est entendu que la décentralisation est administrative et que la répartition des compétences est politique avant d’être juridique. », Marie-Hélène Frayssinet, «  La clarification des compétences des collectivités territoriales ou l’improbable innovation”, Sciences de la société, 81 | 2010, 11-25

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني