القمع الناعم للتظاهر في تونس “الاستثناء”


2021-11-23    |   

القمع الناعم للتظاهر في تونس “الاستثناء”
صورة مجهولة المصدر انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي يوم تظاهرة 14 نوفمبر 2021، على مستوى الطريق الرابط بين مدينة الجم والعاصمة

حرص رئيس الجمهورية قيس سعيد، خلال الاتصال الهاتفي  الذي جمعه بأنطوني بلينكن، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، على الدفاع عن التدابير الاستثنائية المتخذة وعلى عدم مساسها بالحقوق والحريات مؤكدا، حسب بلاغ رئاسة الجمهورية، أن “الدليل على ذلك المظاهرات التي تُنظّم والاحتجاجات التي تقع بين الحين والآخر بكل حرية”. كانت إشارة رئيس الجمهورية تقصد بوضوح المظاهرات التي ينظّمها حراك “مواطنون ضد الانقلاب”، للتعبير عن رفضهم لتدابير 25 جويلية والمطالبة بالعودة الى النظام الديمقراطي، وآخرها مظاهرة يوم 14 نوفمبر. في الواقع، جوبهت هذه المظاهرة بتضييقات عدّة من قبل أعوان الأمن كقطع الطريق أمام المتظاهرين لمنعهم من الالتحاق بساحة التظاهر أو اعتراض طريقهم وتفتيشهم بذريعة ضرورة تأمين المظاهرة وصولا إلى غلق عدد من الطرقات المؤدية إلى العاصمة. تضييقات شملتْ ليس فقط المتظاهرين، بل دفع ثمنها كذلك عموم المواطنين ممّن كانوا يعتزمون التنقّل إلى العاصمة في اليوم ذاته لقضاء شؤون أخرى. أساليب قمعية جديدة، جرّبتها وزارة الداخلية في بداية السنة ضدّ المسيرات المساندة لانتفاضة شباب الأحياء الشعبية، بهدف التضييق على حرية التظاهر مع تفادي مشاهد العنف المعتادة وما قد تخلّفه من تأجيج للرأي العام الداخلي والخارجي.

“مواطنون ضدّ الانقلاب”: نشأة حراك جديد

منذ أن تمّ نشر الأمر الرئاسي عدد 117 الذي كرّس به الرئيس حكم الفرد، بدأت الدعوة للخروج من حالة التململ التي سادتْ السياسيين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بعد إعلان تدابير 25 جويلية، ولتشكيل قوة مواطنية معارضة لقيس سعيد ومشروعه. تململ وتردّد سادا في الساحة المدنية والسياسية وحالا دون تجمّع مختلف القوى لعدة أسباب، أهمّها  الانقسام الحادّ حول القراءة السياسية للحظة 25 جويلية وجذورها ومآلاتها. كما رفض العديد من الأحزاب والجمعيات وحتى الشخصيات، الاصطفاف مع حركة النهضة أو التحالف معها أو حتى مشاركتها بأيّ عمل جماعي على خلفية تحميلها مسؤولية ما آلت إليه الأمور واعتبارها حزبا فاقدا للمصداقية باعتبار المقبولية التي لاقتها تدابير الرئيس من قبل شريحة هامة من المواطنين. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الخلافات الإيديولوجية وأحيانا الشخصية حالت دون تحالف عدة أشخاص وتوحّدهم حول مشروع معارضة الرئيس.

بدأت دعوات التظاهر أساسا بمبادرة من حزب العمّال من جهة ومن “مواطنون ضد الانقلاب” من جهة أخرى. كانت الاستجابة الشعبية لدعوة حزب العمّال للتظاهر ضئيلة جدا بينما كان الحشد أكبر من قبل حراك “مواطنون ضد الانقلاب”. شكّل هذا الحراك أول نواة للمعارضة الصريحة، بقيادة عدة شخصيات سياسية مستقلة وحزبية، وبدعم خلفي من حركة النهضة. معظم  القوى السياسية المعارضة فضّلت عدم الانضمام إلى هذا الحراك ولم تساند دعواته للتظاهر، بل شكّك العديد في تلقائية هذه المبادرة مُعتبرين أنها واجهة لحركة النهضة خصوصا بعد الإعلان عن أعضاء هيئتها التنفيذية. فقد ضمّت هذه الأخيرة شخصيات حزبية أبرزها سميرة الشواشي عن حزب قلب تونس ونائبة رئيس البرلمان، ورضا بالحاج المدير التنفيذي لحزب الأمل ومدير الديوان الرئاسي في أولى سنوات رئاسة الباجي قائد السبسي، أو شخصيات تعدّ قريبة من حركة النهضة أو موالية لها كالحبيب بوعجيلة (صحفي ومحلل سياسي) أو أسامة الخريجي (وزير سابق). كما انضمّ لها أخيرا عبد الرؤوف بالطبيب، المستشار السابق لقيس سعيّد. بينما يؤكّد أعضاءها على استقلالية قرارها وطابعها المواطني ويستغربون عدم التفاف القوى الديمقراطية حولها ودعمها كما قامت به حركة النهضة.

التضييق على الحقّ في التظاهر أو أساليب القمع الناعم

نظّم هذا الحراك عدة وقفات احتجاجية بالعاصمة على أربعة مواعيد متتالية كانت بـ 18 و26 سبتمبر، 10 أكتوبر و14 نوفمبر، ليردّ عليهم في كل مرة الرئيس بخطاب، أو أنصاره بمظاهرة داعمة له. وُوجِِهت هذه المظاهرات وخصوصا الوقفة الاحتجاجية ليوم 14 نوفمبر بعدة أساليب قمعية تعدّ ناعمة بالمقارنة مع تلك التي اعتادتْ وزارة الداخلية على ممارستها من قبل. فتمّت عسكرة الشارع عبر نشر الأعوان وعرض المعدّات والأجهزة في محاولة لتخويف المتظاهرين وترهيبهم وتطويق الشوارع المؤدية لمنطقة التجمّع. لم تكتفِ وزارة الداخلية باستعراض قوّتها فقط، بل قامت أيضا بغلق بعض الطرق المؤدية لساحة باردو بهدف التقليص من عدد المتظاهرين الذين يمكنهم الالتحاق وحجز سيارات الأفراد بقصد منعهم من المشاركة بالتظاهر.

بالإضافة إلى ذلك، تمّ إيقاف 11 متظاهرا وتفتيشهم دون أي موجب ومن ثم نشر صور ما تمّ حجزه على مواقع التواصل الاجتماعي، وتقديمه في شكل “أسلحة بيضاء”، الأمر الذي أثار سخرية المتابعين لما تحمله الصور من أدوات للاستعمال العادي كمرآة أو شوكة بلاستيكية أو مقصّ. محاولات جديدة لتجريم المشاركين بالمظاهرة وتقديمهم على أنهم يمثلون خطرا على أمن المواطنين بهدف شيطنتهم لدى الرأي العام واعتبارهم أطرافا لا يمارسون التظاهر السلمي رغم إخلاء سبيلهم فيما بعد من قبل وكيل الجمهورية. تضييقات تمّ استنكارها من قبل أعضاء الهيئة التنفيذية لحراك “مواطنون ضد الانقلاب” واعتبارها اعتداءً صارخا على حقّ الأفراد في التظاهر وحرية التعبير.

انتهتْ الوقفة الاحتجاجية بالإعلان عن نجاحها من قبل منظمّيها رغم منع عشرات الآلاف من المشاركة والالتحاق بها حسب بلاغ لهم بينما أعلنت وزارة الداخلية عن مشاركة 3500 شخص بهذه المظاهرة الأمر الذي استنكره المشاركون بالحراك مُعتبرين أن الوزارة تقدّم أعدادا مغلوطة للتقليل من شأن وعدد المعارضين.

حريّة التنقّل مجمّدة يوم المظاهرة

على بعد قرابة 300 كم من ساحة باردو، منعتْ دوريات أمنيّة مجموعة من المواطنين، كانوا ينوون زيارة معرض تونس الدولي للكتاب، من مغادرة ولاية صفاقس على متن الحافلة. لم يكن ذلك “حادثة معزولة”، إذ وقع إرجاع المجموعة ذاتها بعدما استقلّت سيارات أجرة، فأعيدوا إلى أعقابهم في الطريق السيارة صفاقس-تونس. وقد انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي شهادات عديدة من هذا النوع، من ولايات أخرى. إذ لم يقتصر غلق الشوارع على محيط مكان المسيرة في باردو، وإنما شمل ولايات عديدة، حتى البعيدة عن العاصمة. ولم يقتصر حتّى على الحافلات، وإنما وقع إرجاع سيارات أجرة وسيارات خاصّة، طالما كانت هناك “شبهة” الالتحاق بالمظاهرة. فكانت القاعدة منع النفاذ إلى العاصمة، باستثناء من يثبت للأمنيّين عدم نيته المشاركة في المظاهرة.

إن عشوائية الممارسات القمعية لم تقتصر على هذه الأحداث فقط. فلطالما اتسمت ممارسات التضييق على الحقوق والحريات باعتباطيتها. فلا تميّز الأداة القمعية بين المعارض والمؤيد ولا تضيّق في دائرة الاستهداف بل تسعى على العكس لتوسيعها لضمان بلوغ هدفها عبر الترهيب والتنكيل. إن في أحداث جانفي 2021 خير مثال على ذلك، حيث قامت وزارة الداخلية بتوسيع حملة الايقافات على عدة ولايات وبعدة أحياء شعبية بهدف ترهيب وإيقاف أي شخص يُحتمل أن يشارك في المظاهرات. فتمّ إيقاف ما يقارب 2000 شخص من بينهم قصر وتمّ تسجيل إيقاف أطفال بسن 14 سنة وحتى أشخاص حاملين لإعاقة ذهنية بتهم كيدية ومن دون احترام لأي إجراءات.

تتجدّد الأساليب، والهدف واحد

لا تستند هذه التضييقات، رغم وضوحها على أساليب العنف التقليدية، مما يصعّب عملية توثيقها وتقديمها للرأي العامّ. وتُعتبر بذلك ممارسات جديدة رغم عدم اختلافها عن الأساليب التقليدية في أهدافها وطبيعتها القمعية. مما يدفعنا للتساؤل حول ما اكتسبته وزارة الداخلية من أساليب وقدرات لمواجهة المظاهرات بعد كل ما تمّ تخصيصه من قبل ممولين وشركاء للدولة التونسية من تمويلات وبرامج لحثّ الوزارة على احترام حقوق الإنسان. فقد مثّلت هذه الممارسات تواصلا لسياسة قمعية تقوم على التضييق من الحق في التظاهر والتجمّع وحرية التعبير، رغم مرور عشر سنوات على الثورة وانتقال السلطة في مطلقها لرئيس الجمهورية حديثا الذي ما فتئ يعبّر عن إيمانه بالشعارات والمطالب الثورية التي جاءت لتطيح بالسياسات القمعية والاستبدادية. وهو ما يتماهى مع الخطاب العنيف الذي يعتمده سعيّد حين يخاطب معارضيه. فقد واجه الرئيس الجهات الداعية للتظاهر بخطاب تحقيري أحيانا في ادّعاء بأنهم أعداد ضئيلة بدون أهمية ونعتهم بالحشرات أو اعتماد خطاب تخوينيّ يعتمد على آيات قرآنية في علاقة بالمنافقين والكفّار أو بالتلميح عن وجود متآمرين على الدولة. هذا بالإضافة لاعتماده خطابا عنيفا في ردوده على معارضيه في الوقت الذي يصرّ فيه على إيمانه بالتعددية.

إن في اعتماد هذا الخطاب العنيف، الذي يساهم في تقسيم المجتمع وفي تأجيج النزعة العنيفة لديه، بالاضافة لما يُمارس من تضييقات على أرض الواقع إنما ينذر بخطر الانزلاق للاستبداد.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات عامة والوصول الى المعلومات ، حريات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أجهزة أمنية ، سلطات إدارية ، حرية التعبير ، حرية التنقل ، حرية التجمّع والتنظيم ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني