حوار مع المؤرخ آرثر الصراف: حين فكّرت فرنسا في “إسرائيل جديدة” في الجزائر


2023-12-21    |   

حوار مع المؤرخ آرثر الصراف: حين فكّرت فرنسا في “إسرائيل جديدة” في الجزائر

آرثر الصراف هو مؤرخ فرنسي مختصّ في تاريخ الاستعمار والإعلام في فرنسا وشمال إفريقيا، ويدرّس في جامعة كامبريدج منذ 2017. قدم إلى تونس للمشاركة في تقديم الكتاب الجماعي الصادر حديثا عن دار Seuil للنشر، “Colonisations. Notre histoire” والذي ساهم في تنسيقه، وتقديم كتابه الصادر منذ سنة بعنوان “Le désinformateur” حول سيرة مسعود الجباري. كما صدر له في 2019 كتاب “Electric News in Colonial Algeria” عن منشورات أوكسفورد، وله مقالات ومساهمات عديدة، من بينها مقال “A New Israel”: Colonial Comparisons and the Algerian Partition That Never Happened”. التقت به المفكّرة القانونيّة لمحاورته حول هذه الإصدارات، وحول صعوبات تناول موضوع الاستعمار في فرنسا ورفض الاعتراف بالطبيعة الكولونيالية للمشروع الإسرائيلي، وحول ما يمكن أن تعلّمنا دروس التاريخ عن رهانات الإعلام والحقيقة وحرية التعبير اليوم.

المفكرة القانونيّة: نبدأ بالكتاب الذي صدر حديثا، “الاستعمارات: تاريخنا”، بإدارة بيير سنغارافيلو Pierre Singaravélou وتنسيق مشترك بينك أنت وثلاثة أساتذة آخرين، والذي جمع أكثر من 250 مساهما من فرنسا القارّية ومن المناطق التي كانت مستعمرة، ويعود على تاريخ أكثر من خمسة قرون من الاستعمار الفرنسي. هل يمكن أن تحدّثنا عن المقاربة التي اعتمدتموها في هذا الكتاب، وعن أوجه الجدّة فيه بالمقارنة مع ما سبقه من إصدارات حول الموضوع، وبالتحديد عن أسباب اختياركم الكرونولوجيا العكسيّة، انطلاقا من نقاشات اليوم وصولا إلى فترة ما قبل الاستعمار؟

آرثر الصراف: لهذا الكتاب أكثر من ميّزة. أوّلها الطابع الجماعي والتعددي، فهو يجمع 268 مساهما ومساهِمة، من فرنسا القارّية ولكن أيضا من مقاطعات ما وراء البحار، ومن دول إفريقيّة وآسيويّة عديدة وحتى من دول أخرى لم تكن مستعمرات فرنسيّة، فقد بحثنا عن أفضل المختصّين في كلّ مجال. لا ينفي ذلك أنّ الانطلاق كان من فرنسا، فدار النشر فرنسيّة، ومنسّقو العمل أيضا، وإن كنا نأتي من أصول ومسارات عائلية متنوّعة وبعضنا يدرّس في جامعات أجنبيّة. فنحن نعتقد أنّ هذا التاريخ أعقد بكثير من أن يسرده مختصّ واحد. وهو تاريخ حيّ، فهناك جوانب عديدة لا تزال محلّ نقاش مهمّ. فنحن لا نريد أن نظهر أنّ تاريخ الاستعمار الفرنسي وكأنّه قد حُسم وانتهى، وإنما أن نُبرز المعارف المحصّلة في هذا المجال وفي نفس الوقت الطابع الحيّ لهذا البحث خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة. هناك أيضا النطاق العالمي والشامل، فقد بحثنا عن الاستعمار الفرنسي حيثما حلّ، في كلّ القارّات طوال خمسة قرون، بدءا بأمريكا الشمالية وجزر الأنتيل (les Antilles) في الكاراييب وأمريكا الجنوبيّة والمحيط الهادئ وإفريقيا وآسيا، في حين يختزل الخطاب السياسي في كثير من الأحيان الاستعمار الفرنسي في إفريقيا.

أخيرا، اختيار الكرونولوجيا العكسيّة، هو وليد ما لاحظناه من نقاشات متواصلة ودائمة لا يزال الاستعمار ومخلفاته يثيرها في الفضاء العامّ، خصوصا في فرنسا ولكن أيضا في فضاءات أخرى ومنها تونس، من دون أن نتحدث عن النيجر في الأشهر الماضية، وغيرها من المستعمرات القديمة. فهذا الماضي الاستعماري يعود دائما إلى السطح، في كلّ مكان، بطرق وأشكال ونقاشات مختلفة. انطلقنا من هذه الملاحظة العامّة، ومن التساؤلات الكبيرة الموجودة لدى الناس حول تاريخ الاستعمار. وقد لاحظنا هوّة كبيرة بين عالم البحث، الذي راكم معارف جديدة كبيرة، وبين الجمهور الذي يشتكي من عدم معرفة هذا التاريخ، وحاولنا التوجّه إليه عبر هذا الكتاب. نحن أيضا، كباحثين، أسئلتنا وليدة الحاضر، سواء اعترفنا بذلك أم لا. لذلك أن ننطلق صراحة من نقاشات اليوم قد يكون طريقة أكثر أمانة في البحث.

هناك سبب آخر لخيار الكرونولوجيا العكسيّة، وهو بحثنا عن فهم جديد لهذا التاريخ، الذي يقدّم في العادة كما لو تعلّق الأمر بشخص ولد في زمن وعيّن ثمّ كبر إلى أن شاخ وتوفّي، في حين أنّ الامبراطورية الاستعمارية لم تكن بهذا الشكل. فالإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية لم تولد وتمتْ في الوقت ذاته في كلّ مكان، بل كانت دائما في طور إعادة التشكّل. التقسيم الدارج بين امبراطورية أولى في الفترة الحديثة في القرنين 16 و17 خصوصا بين المحيطيْن الأطلسي والهندي، خسرت أجزاء كبيرة لصالح قوى أوروبية أخرى خلال حروب الثورة، وامبراطورية ثانية خصوصا في إفريقيا وآسيا في القرنين 19 و20، إذا ما دقّقنا النظر فيه، لا يصمد كثيرا. يكفي أن نذكر أنّ بين احتلال الجزائر والمغرب، وهما جاران، هناك أكثر من 80 سنة. لذلك قد يكون أفضل أن ننطلق من الحاضر لنعود على مختلف الأطوار التاريخية.

السبب الأخير، وهو لا يقلّ أهمّية، هو أن ننهي مع الماضي ما قبل الاستعماري. كيف يمكن أن نفهم اليوم العوالم السابقة للاستعمار، أي مختلف المجتمعات المغاربيّة والإفريقية والآسيوية والأنتيليّة (antillaises) وحتى الأوروبية قبل تجربة الاستعمار؟ هذا هو، حسب رأيي، الجانب الأكثر طرافة وجدّة في الكتاب. إذ نادرا ما نحاول الحديث بعمق عن هذه المجتمعات في تعدّدها، وكذلك في ترابطها وتواصلها قبل الاستعمار الأوروبي، فلدينا مثلا مقالات حول المبادلات ما بين الصحراء، أو بين جزر الأنتيل. فهذه المجتمعات لم تكن نائمة حتى أتى الأوروبيون لإيقاظها. في هذا الجانب، البحث العلمي أصعب وأعقد بكثير ولكنّه مهمّ ومشوّق جدّا.

المفكرة: هذا يحيلنا إلى السؤال الثاني، حول البراديغم الذي اخترتموه (أو لا) لهذا الكتاب. إذ نجد الأفق الديكولونيالي في بعض المواضيع والأسماء والخيارات، ومن بينها العودة إلى خمسة قرون من الاستعمار، من دون أن يكون بالضرورة مهيمنا أو وحيدا. كيف تفسّر الممانعة التي تواجهها في فرنسا الدراسات الديكولونياليّة، وحتى قبلها الدراسات ما بعد الكولونياليّة، إذا ما قارنّاها بالجامعات الأنجلوسكسونيّة مثلا، وأنت أستاذ فرنسي في جامعة كامبريدج البريطانيّة؟

الصراف: هذا السؤال مهمّ جدّا. أنا نفسي أتفاجأ كيف أنّ الفضاء الإعلامي وحتى الأكاديمي في فرنسا، يستخدم التقسيم بين الفرنكوفوني والانجلوسكسوني لرفض التجديد وإجهاض نقاشات كثيرة. فكلّ اختلاف يصوّر وكأنّه استيراد من الجامعات الأمريكيّة، من ذلك النظريات ما بعد الكولونياليّة مثلا، في ظلّ جهل وتجاهل عميقين للأدبيات الفرنكوفونيّة المناهضة للاستعمار في القرن العشرين (إيمي سيزير، ألبير ممي، فرانز فانون، إلخ)، وهي ثريّة جدّا. فضلا عن المفكّرين الذين يكتبون اليوم، ومنهم من هو مساهم في الكتاب مثل باتريك شاموازو وأشيل ميمبي، بغضّ النظر عن اختلافاتهم. وصم الدراسات الديكولونياليّة بأنّها استيراد وترجمة يبدو أقرب إلى ردّة الفعل الدفاعيّة التي تنمّ بالخصوص عن جهل بهذا التقليد البحثي. بل نجد ذلك حتى بخصوص نظرية الجندر مثلا، التي تتعرّض للوصم ذاته، في تجاهل لما كتبته سيمون دي بوفوار في منتصف القرن الماضي. لا أنفي بذلك واقع علاقات الهيمنة بين الجامعات الفرنسيّة ونظيراتها الأمريكيّة والأنجلوسكسونيّة التي تمتلك إمكانيّات أكبر، ولا أنّ حركة الترجمة أصبحت أكثر فأكثر في اتجاه واحد، بما يساهم في الإحساس العامّ بتراجع فرنسا من المركز إلى الهامش. يبقى أنّ هناك انقسامًا سياسيّا صارخا في فرنسا حول قضايا الاستعمار. فالممانعة التي تواجهها الدراسات الديكولونياليّة تعبّر أيضا عن ممانعة أعمق وأشمل ضدّ أيّ محاولة لنقاش صريح حول تاريخ الاستعمار الفرنسي ومسؤوليّاته، وحتى فيما يتعلّق باللامساواة في المجتمع الفرنسي اليوم. هناك صعوبة حقيقيّة في النظر والتفكير في تاريخ فرنسا ولكن أيضا في حاضرها وموقعها في العالم.

المفكرة: درستَ في أحد مقالاتك لحظة مهمّة ولكنّها مغيّبة في تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهي فكرة تقسيم الجزائر، التي طرحها دافيد بن غوريون سنة 1960 على الرئيس الفرنسي شارل ديغول استلهاما من تجربة تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهوديّة فيها. كيف ترى المقارنة بين الاستعمار الفرنسي للجزائر والاستعمار الصهيوني لفلسطين، بوصفهما مثالين لما يعرف بـ”الاستعمار الاستيطاني”؟ ولماذا لا تزال هناك ممانعة في دول الشمال، ومنها فرنسا، ضدّ الاعتراف بالطبيعة الكولونياليّة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟ هل يفسّر ذلك بأنّ الفلسطينيّين هم، كما يقول إدوارد سعيد، “ضحايا الضحايا”؟

الصراف: فلنبدأ بمشروع تقسيم الجزائر. فكرة التقسيم طرحت في السنوات الأخيرة لاستعمار الجزائر، خلال حرب الاستقلال، حين كانت السلطات الفرنسيّة عاجزة عن إيجاد حلول للأزمة. فجاءت فكرة إنشاء مناطق فرنسيّة، في أماكن التركّز الديمغرافي الأوروبي، لفصلها عن باقي الجزائر. اشتغلت لجان على الموضوع وتمّ اقتراح مشاريع خرائط عديدة للتقسيم، اصطدمت بصعوبة كبيرة نظرا لأنّ الأغلبية الأوروبية لا توجد إلا في مدينتيْ الجزائر العاصمة ووهران. الفكرة لم تكن تماما مقترحة من الإٍسرائيليّين، فقد سبق التفكيرُ فيها في فرنسا مقترحَ بن غوريون. كانت أهمّ نصائح بن غوريون، استلهاما من التجربة الإسرائيليّة، هي إقامة ممرّ بين البحر والصحراء، وعدم تشغيل العرب والتعويل على يد عاملة أوروبيّة، وتسليح الشباب الأوروبي لتشكيل ميليشيات. في النهاية كان المشروع بالأخصّ أداة تفاوض لدى السلطات الفرنسيّة، حتى أنّ جبهة التحرير الجزائرية اعتبرت الحفاظ على وحدة الأراضي الجزائرية في اتفاقيات إيفيان مكسبا مهمّا جدّا. وقد كانت مخططات التقسيم، والخوف من مصير مشابه لما حصل لنكبة الفلسطينيّين، موضع بحث جدّي في صحيفة المجاهد الناطقة باسمها.

كنت قد خصّصت في كتابي الأوّل فصلا حول المقارنات بين الجزائر وفلسطين خلال الفترة الاستعماريّة، وكيف كانت المسألة الفلسطينيّة مركزيّة لدى الحركة الوطنيّة الجزائريّة. لقد سبقت تحرّكاتُ الجزائريّين المساندة لفلسطين في الثلاثينات، المظاهراتَ المطالبة باستقلال الجزائر. لا شكّ أنّ سياسة القمع لدى السلطات الاستعمارية ساهمت في ذلك، فكان التحرّك من أجل فلسطين أسهل، مثلما كان التحرّك ضدّ الإيطاليين في بداية الحركة الوطنيّة في تونس أسهل من هذه الناحية. لكنّ التفكير في فلسطين كان حاضرا بقوّة  لدى الحركة الوطنية الجزائريّة، وكانت الدروس تستخلص من هناك من أجل فهم أفضل لواقع الاستعمار الفرنسي وأفقه.

لذلك، قبل الحديث عن المقارنة بين الجزائر وفلسطين، يجب أن لا ننسى أنّ الوضعيّتين لم تكونا منفصلتيْن. أوّلا من جهة العلاقة بين حركتي التحرّر الوطني، قبل ولكن أيضا بعد استقلال الجزائر، التي لعبت دورا محوريا في دعم منظمة التحرير الفلسطينيّة والتأثير على خياراتها الأساسيّة، ومن بينها إعلان دولة فلسطين في 1988 من دون سيطرة على المجال الترابي. ومن الجهة المقابلة، بالنظر للعلاقة الوثيقة بين الحكومات الفرنسيّة والإسرائيليّة، التي بلغت أوجها في “أزمة السويس” في 1956.

يبقى أنّ المقارنة بين الوضعيّتين، رغم اشتراكهما في صنف “الاستعمار الاستيطاني”، تصطدم ببعض الفوارق. أبرزها غياب “مركز” (métropole) في الاستعمار الإسرائيلي. فالتراب الجزائري كان مقسّما إلى مقاطعات تتبع المركز الفرنسي، وقد أدّى ذلك مثلا إلى صعوبة في تدويل القضيّة الجزائريّة في الأمم المتحدة، بالمقارنة مع القضيّتين التونسيّة والمغربيّة مثلا، أو بالقضيّة الفلسطينيّة اليوم. هناك صفة أخرى تميّز الاستعمار الصهيوني، وهي صناعة ثقافة جديدة، عبر استعمال العبرية وإنشاء مؤسسات خصوصيّة بهم. هنالك أيضا أنّ المستعمرين الإسرائيليّين طُردوا من أوروبا، ويعترف بهم التاريخ الأوروبي كضحاياه، في ظلّ شعور قويّ بالذنب، نلاحظ اليوم آثاره. من جانب آخر، كان الاستعمار الفرنسي يسعى إلى افتكاك الأراضي واستغلال الثروات والسيطرة على السكان الجزائريين، ولكنّه لم يحاول إقامة اقتصاد منفصل عن اليد العاملة الجزائريّة، كما في الاستعمار الصهيوني لفلسطين. ربما من هذه الجوانب تكون مقارنة الاستعمار الإسرائيلي مع نظام الميز العنصري “الأبارتايد” في جنوب إفريقيا أدقّ، بوجود جمهوريّات للبيض مستقلّة عن المركز البريطاني ولكن أيضا عن السكان السود الذين أقصتْهم تماما وحاولت عدم الارتباط بهم اقتصاديّا (وإن لم تنجح). مع ذلك، هناك مشكل حقيقي في أوروبا لإدراك الطبيعة الكولونياليّة للوضعيّة في فلسطين. بل أنّ النقاشات والحجج المتداولة اليوم كانت تقريبا هي نفسها منذ الستينات.

المفكرة: أصدرتَ منذ سنة كتابًا بعنوان “Le désinformateur” حول سيرة مسعود الجباري، المُخبر والمترجم الذي اشتغل لصالح السلطات الاستعماريّة الفرنسيّة في الجزائر وتونس وبلدان إفريقية أخرى، حيثُ ألقيت الضوء على جوانب غير معتادة من تجربة الاستعمار الفرنسي من منظار رهان المعلومة وصناعة الحقيقة. ماذا يمكن أن يضيئ لنا هذا العمل التاريخي على رهانات الحاضر حول “الأخبار الزائفة” والحرب على المعلومة، ونحن نشهد مثالا بالغا عليها اليوم في الحرب على غزّة؟

الصراف: كثيرا ما تقدّم “الأخبار المضلّلة أو الزائفة” في الخطاب العامّ كمشكل مستحدث، في حين أنّ هذه الظاهرة وُجدت في مختلف الحقبات والمجتمعات، ولكن بأشكال تختلف وتتطوّر. كلّ ما ظهرت وسائل تواصل أو إعلام جديدة، تطوّرت معها أشكال التضليل وسبّبت هواجس ومخاوف. في القرن 19، وهي الفترة التي اشتغلت عليها في ذلك الكتاب، حصلت عولمة للمعلومة عبر الكوابل التلغرافيّة، فظهرت وكالات الأنباء، وارتفع عدد الصحف بشكل كبير في كلّ أنحاء العالم، فأصبحت المعلومة متاحة في مختلف المناطق بصفة تكاد تكون حينيّة. خلق ذلك خوفا كبيرًا من المعلومات الزائفة وما يمكن أن تؤدي له من نتائج يصعب تداركها، كما حصل في فرنسا مع سقوط حكومة جول فيري بسبب خبر حول الحرب في فيتنام اتضح بعد بضعة أيّام أنّه غير دقيق. فالمقارنة بين تلك الفترة وما نعيشه اليوم يمكن أن تكون مفيدة، نظرا لأنّ التطوّر التكنولوجي وتسارع تناقل المعلومة تطرح مجدّدا السؤال حول سبل محاربة الأخبار الزائفة وحول معايير الثقة في مصادر المعلومة. في السياق الاستعماري لنهاية القرن 19، كانت هناك حاجة كبيرة لدى الأوروبيّين لمعرفة وفهم ما يجري في المجتمعات التي يستعمرونها في إفريقيا، مما سمح لشخصيّات مثل مسعود الجباري، الآتي من وسط اجتماعي مهمّش جدّا، بلعِب أدوار مهمّة وصولا إلى اختلاق حكايات وتفاصيل من وحي خياله لتعزيز مكانته والحاجة لخدماته، حتى أصبح شخصيّة عامّة تلقي محاضرات في باريس. هناك حالة شبيهة منذ سنوات، حيث تأسّست تبريرات احتلال العراق والمزاعم حول أسلحة الدمار الشامل، على “معلومات” مختلقة نقلها رافد أحمد علوان الجنابي الذي كان طالبا للجوء في ألمانيا، فادّعى أنّه مهندس يعمل في مختبرات صناعة الأسلحة الكيمياوية لتعزيز حظوظه. لا يعني ذلك أنّ الحرب لم تكن لتُشنّ لولا هذه الادعاءات، لكنّ الأخبار المضلّلة يمكن أن تكون نتائجها وخيمة، ليس فقط على ضحاياها وقد يكونون شعوبا بأكملها، ولكن أيضا على صانعيها كما في حالة الجباري. فالمجتمعات تحتاج إلى حدّ أدنى من الاتفاق على “حقيقة الأحداث”، ولا أعني بذلك بالضرورة معايير “الموضوعيّة” الغربيّة.

المفكّرة: اشتغلتَ أيضا على تاريخ وسائل الإعلام في العالم العربي، وبالأخصّ الصحف والإذاعات، ودورها في صناعة الشعور القومي أو الوطني، ورهانات اللغة. كيف تقارن ذلك مع دور القنوات التلفزيّة الإخباريّة وارتباط جلّها بأجندات دول بعينها. هل ترى أنّ هيمنتها على المعلومة قد ساهمت في الانتكاسة المؤقتة للثورات العربيّة؟ وهل أنّ وسائل التواصل الإجتماعي، التي لعبت دورا مهمّا في هذه الثورات وتلعبُ اليوم دورا في إيصال حقيقة ما يحصل في غزّة، تساهم في الوقت ذاته في تقسيم المجتمعات إلى غرف صدى لا تتواصل ولا تتحاور؟

الصراف: في البداية، لا تبدو لي الوضعيّة الحاليّة للقنوات الفضائيّة العربيّة المرتبطة بدول بعينها كأمر مستحدث. فقد كانت بدايات الصّحافة الورقيّة، ثمّ الإذاعات في القرن العشرين، مرتبطة بالأخصّ بمشاريع دول. والسبب هو أنّه في العالم العربي، لم يوجد الكثير من مشاريع وسائل الإعلام وفق النموذج الرأسمالي، الباحث عن الربح المالي، وذلك خلافا للمجال الفنّي كالأفلام والاسطوانات التي خلقت “طلبا” اقتصاديّا أثمر مشاريع خاصّة. في تونس، أوّل الجرائد كانت “الرائد التونسي”، التي أصبح إسمها “الرائد الرسمي” وكانت تنقل، إلى جانب النصوص القانونيّة، أخبارا وطنيّة ودوليّة، وكذلك الأمر في مصر والسلطنة العثمانيّة. بعد ذلك تطوّرت الصحافة الخاصّة، ليس فقط في مصر، ولكن أيضا في تونس حيث كان هناك عدد لافت من الصحف في النصف الأوّل من القرن العشرين، ولكنّ أغلبها لم يعمّر كثيرا. في الإذاعات أيضا كانت هيمنة الدّول منذ البداية واضحة، بدءا بالحقبة الاستعماريّة، وتحديدا في السنوات الثلاثين حين أنشأت القوى الأوروبيّة (إيطاليا، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا) برامج وحتى إذاعات بالعربيّة للتأثير على الجماهير العربيّة، مرورا بالمشاريع الإذاعيّة للدول المستقلّة، وأبرزها “صوت العرب” في مصر. ولكن اللافت، والذي سيتكرّر مع القنوات الفضائيّة الإخباريّة، هو أنّ الإذاعات لم تكن فقط مموّلة وفي خدمة مشاريع حكوميّة، ولكنها أيضا كانت في أحيان كثيرة تتوجّه ليس فقط إلى جمهور وطني ضيّق، ولكن إلى الجماهير العربيّة في مختلف الدول. ربّما ما أصبح يزعج في القنوات التلفزيّة الفضائيّة، هو كسرها للاحتكار الذي كانت تمارسه الأنظمة التسلّطيّة في بلدانها، خصوصا في دول المغرب على الأقلّ حتى التسعينات، على الإعلام السمعي والسمعي البصري.

أمّا بخصوص وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كانت هناك في البداية لحظة انتشاء بدورها خصوصا في الثورات العربيّة، ثم انتقلنا إلى مرحلة أخرى من الشيطنة وتحميلها كلّ شرور الدنيا. مثل هذا التحوّل حصل في السابق كلما ظهرت وسائل إعلام جديدة، حيث نتحمّس في البداية ونعتقد أنّ التواصل سيكون أسهل، ثمّ تحصل الخيبة ونبالغ في شيطنتها. في الواقع، دور وسائل الإعلام أعقد من هذه الاختزالات. يبقى أنّ دور الإعلام في اللحظات الثوريّة مهمّ جدّا، فهو يتيح المزامنة (synchronisation) التي تفتح طرقًا وأساليب جديدة للتنظم والفعل الجماعي، وهي عامل أساسي في سِحر الثورات. وقد ارتبط ربيع الشعوب في أوروبا في 1848 بانتشار الصحافة وبالأخصّ الصحافة المصوّرة.  

يبقى أنّ ما يقال اليوم حول دور وسائل التواصل الاجتماعي ليس خصوصيّة عربيّة، إذ نجد مثل هذه الانتقادات حول استفادة الشعبويات من خوارزميات هذه الوسائل وحول الأخبار الزائفة وخطرها. لا أنكر أنّنا دخلنا مرحلة جديدة مع وسائل التواصل الإجتماعي تحتاج الكثير من التحليل وتطرح رهانات مهمّة. ولكن، في السياق الأوروبي على الأقلّ، هناك مبالغة في تصوير القطيعة بين “زمن ذهبي” للصحافة، كانت خلاله كلّ المعلومات مثبتة وحقيقيّة وموضوعيّة، وبين الزمن الحالي الذي تطغى عليه الأخبار الزائفة والتضليل. إذ تتناسى هذه النظرة انخراط وسائل الإعلام التقليديّة في التضليل، وكذلك إهمالها ما يجري في مناطق معيّنة من العالم. يجب أن لا ننسى أيضا أنّ احتكار عدد محدود من وسائل الإعلام للقدرة على نقل المعلومة ليس بالضرورة ظاهرة صحّية، إذ يعني إقصاء العدد الأكبر من الناس. بالمقابل، ما نشهده حاليّا هو فتح المجال للجميع تقريبا لأخذ الكلمة أو نقل المعلومة إلى العالم، بمجرّد امتلاك هاتف ذكيّ، وهذا أمر مهمّ جدّا، وما يحصل في الحرب الحاليّة في غزّة دليل على ذلك. يبقى أنّ مثال غزّة يرينا أيضا أنّ هذه الإمكانيّة ليست دائما متاحة، فهي مرتبطة ببنية تحتيّة تتحكّم في النفاذ إلى شبكة الإنترنت وتسمح بقطعه في ظروف معيّنة، وهو ما يحصل في الحروب وعمدت له أيضا أنظمة تواجه تحركات شعبيّة. فما يظهر من “دمقرطة” لصنع المعلومة، يصطدم برهانات البنية التحتية سواء لأنترنت بشكل عامّ أو لوسائل التواصل الاجتماعي نفسها، بما يسمح لدول بعينها تسيطر على هذه البنية التحتية، أو حتى للشركات الخاصّة وجميعها تقريبا أمريكيّة، بالتحكّم في حريّة التعبير عبر صلاحيّة الرقابة والصنصرة والخوارزميّات، وهذا يطرح أيضا إشكالا سياديّا حقيقيّا لبقيّة الدول.

المفكّرة: في ظلّ سيطرة رأس المال الخاصّ على قسم كبير من وسائل الإعلام في أوروبا، ومن بينها الصحف والقنوات التلفزيّة، وما شاهدناه مؤخّرا من صنصرة وفرض لخطاب معيّن حول الحرب في غزّة، إلى أيّ مدى يمكن اعتبار الديمقراطيات العريقة مثالا في احترام حريّة الصحافة، وكيف يمكن تنسيب ذلك من دون السقوط في الخطاب العدمي الذي يتفّه ويقلّل من خطورة نكران الحريّات في بلدان الجنوب؟

الصراف: في فرنسا، كثيرا ما يتكرّر التمييز في النقاش العامّ بين تقاليد فرنسيّة أصيلة لحريّة التعبير، وبين مجتمعات عربيّة لا تمتلك هذه التقاليد. لكنّ هذا التمييز يتناسى أنّ حرية التعبير حين تكرّست في فرنسا، كانت حكرًا على الفرنسيّين، ولم تشمل المستعمَرين. قانون 1881 حول حرية الصحافة، الذي لا يزال نافذا اليوم، كان يذكر صراحة أنه ينطبق على المقاطعات الجزائرية، ولكن فقط للفرنسيّين. فالأنظمة القامعة لحريّة الصحافة في الدول المستقلّة هي وريثة للأنظمة الاستعماريّة الأوروبيّة.

ما نراه اليوم في أوروبا من تضييقات على حريّة الصحافة عبر معاقبة صحفيّين من أجل آرائهم مخيف فعلا. خصوصا وأنّه لا يقتصر على الصحفيّين، بل يشمل ما ينشره الناس على وسائل التواصل الإجتماعي حول غزّة، وكذلك حريّة التجمع والتظاهر حيث تُمنع المسيرات. فهناك أطراف عديدة، عموميّة وخاصّة، مستنفرة اليوم لقمع حريّة التعبير في مواضيع بعينها. ولكنّ ذلك يؤدي أحيانا إلى نوع من التنسيب المطلق، وهو أمر خطير لأنّه يُنكر أهمّية معارك الحرّية ويقصي كلّ ما يعتبره آتيا من الغرب. لا شكّ أنّ المعايير والممارسات الفضلى لا تأتي بالضرورة من مكان واحد، وأنا أذكّر طلبتي دوما بأنّ المجتمعات المسلمة طوّرت منذ القرون الأولى للإسلام أساليب معقّدة للتثبّت من الأقوال، سواء في علم الحديث أو في الفقه. هناك رهانات مشتركة بين المجتمعات الإنسانيّة تحتاج إجابات مشتركة، وقصور دول الشمال على حلّ هذه الرهانات بطريقة مثلى وعلى احترام القيم التي وضعتها لنفسها لا يجب أن يجابه بالتخلي عن هذه الأسئلة والقضايا وإنّما بتكثيف البحث عن إجابات أقدر وأفضل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، أوروبا ، الجزائر ، فرنسا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني