القطاع الصحّي يلفظ أنفاسه: تأمين المازوت كلّ يوم بيومه


2021-08-24    |   

القطاع الصحّي يلفظ أنفاسه: تأمين المازوت كلّ يوم بيومه
الوكالة الوطنية

أمور كثيرة باتت مفقودة في لبنان. سلع وخدمات حيوية وحتى الأمان. ولكن أسوأ الشرور حصل، حين مات الناس حرقاً في عكار وهم يحاولون الحصول على المحروقات. أما الجرحى فقد نقلوا إلى مستشفيات تعاني أصلاً من أزمة في تأمين المحروقات تضاف إلى أزماتها الأخرى من نقص في المستلزمات والمعدّات الطبية والأدوية.

فمنذ أيام، تطلق المستشفيات الواحدة تلو الأخرى نداءات استغاثة بسبب اقتراب نفاد مادة المازوت في خزّاناتها، وبعضها كان مهدّداً بالتوقّف عن العمل فعلياً فيما البعض الآخر لديه مخاوف كثيرة لجهة قدرتها على الاستمرار. ولا مازوت، في ظلّ التقنين القاسي للتيار الكهربائي الّذي يتخطّى الـ22 ساعة في اليوم، يعني مستشفيات معطّلة وبالتالي خسارة أرواح المرضى، وبحد أدنى تدهور صحّتهم. هذا السيناريو المخيف جداً، عايشه المرضى مؤخراً، من هم في المستشفيات ومن هم خارجها أيضاً الّذين باتت ترعبهم فكرة حاجتهم للدخول إلى المستشفى. 

ولا يقتصر الأمر على المستشفيات فقط، بل امتدّت أزمة المحروقات، إلى المختبرات ومصانع الأدوية والمستوصفات ملاذ المزيد من اللبنانيين بعد أن نالت الأزمة الاقتصادية منهم، فيما يعيش القطاع ككلّ حالة من القلق والانتظار وسط محاولات الاستمرار في تقديم الخدمات الطبية.

أمام هذا الواقع، نتناول في هذا التحقيق، وهو جزء من سلسلة تحقيقات عن أزمة المازوت وأثرها على القطاعات المختلفة، واقع القطاع الصحّي، من مستشفيات ومختبرات ومستوصفات ومعامل أدوية في ظل أزمة المازوت الراهنة، كون فقدان هذه المادة يعني كارثة صحّية بكلّ ما للكلمة من معنى تتوقّف معها غالبية الخدمات الطبية.

مستشفيات قد تخرج عن الخدمة

إذاً علت في الأيام الماضية، صرخة عدد من المستشفيات، بسبب وصول الكميّة المتوافرة لديها من مادة المازوت إلى نهايتها، وقد دقّت عدّة مستشفيات ناقوس الخطر وأطلقت نداء الاستغاثة الأخير، منها: مستشفى المقاصد والحياة والجامعة الأميركية في بيروت التي حذرت في بيان السبت 14 آب، من موت المرضى بسبب فقدان الطاقة.

وقد أعلن مستشفى المقاصد الخميس 12 آب، عن عدم قدرته على استقبال المرضى ومعالجتهم، لانقطاعه من مادة المازوت التي تكفي ليومين فقط وعدم توافر الأدوية الأساسية لمرضى غسيل الكلى، وأدوية البنج، وغيرها من الأدوية الضرورية لعلاج المرضى داخل المستشفى، وفي قسم الطوارئ.

وكانت مستشفى الجامعة الأميركية قد بدأت بتقنين الكهرباء، إذ أطفأت الأنوار والمكيّفات في المكاتب والأقسام العادية، كي تستمرّ في تقديم الرعاية الصحّية لمرضاها. وكذلك أعلن دكتور فراس الأبيض عبر حسابه في تويتر السبت الماضي 14 آب أنّ “اثنين من أصل سبعة موتورات تعمل في المستشفى، بهدف الحفاظ على كمية المازوت الموجودة” لافتاً الى الظروف الصعبة التي يعمل فيها العاملون هناك.

كما طلب مستشفى شعيب في صيدا، من مرضى غسيل الكلى، البحث عن مستشفى جديد، في الأيام العشرة المقبلة، بسبب فقدان مادة المازوت.

حلول ترقيعية ومؤقّتة!

بعد نداء الاستغاثة الّذي أطلقه مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، أمّنت إحدى محطات المحروقات (كورال) 20 ألف ليتر من المازوت للمستشفى، وكذلك تمّ تأمين كمية موازية لمستشفى المقاصد.

يقول نقيب المستشفيات سليمان هارون لـ”المفكرة” إنّ “ما تم تزويده للمستشفيات ضئيل جداً، لا يكفي لأيام، نعيش قلقاً دائماً، والسؤال الأهم كيف سنعمل!”، ويضيف: “حصلت مأساة عكار، والمستشفيات كانت في الصفوف الأمامية، ورغم أزماتنا نحاول القيام بواجباتنا، وتحويل الضعف إلى قوّة”.

وفي خطوة ملفتة، أصدرت القاضية عبير صفا قراراً الإثنين في 17 آب، بتسليم كمية مازوت محجوزة (عشرة آلاف ليتر) مناصفة لمستشفى رفيق الحريري الحكومي والجامعة الأميركية مقابل تسديد ثمنهما على السعر الرسمي للمازوت.

لكنّ هذه الكميات، مقابل الحاجة الكبيرة للمازوت في ظل انقطاع الكهرباء عن المستشفيات، تعدّ ضئيلة جداً، ولا تؤمن الاستمرارية. والدليل أن مدير مستشفى رفيق الحريري أعلن الجمعة أنّ الكميّات من المازوت التي تصله من جهات مانحة دولية والجيش ومتبرّعين “تنفذ بسرعة، علماً أنّ المولدات ما زالت تعمل لأكثر من 72 ساعة متواصلة”. وأضاف: “كلّ النداءات والمراسلات الرسمية لم يأت عليها أي رد”.

بالأرقام.. ما الذي تحتاجه المستشفيات؟

تطالب المستشفيات المعنيين حلّ هذه المشكلة بشكل جذري لا من خلال خطوة ترقيعية مؤقّتة وذلك تجنّباً لكارثة صحّية محتملة، إذ لن يبقى مستشفيات يلجأ إليها الناس من دون تأمين المازوت، لاسيّما أنّ حاجتها الاستهلاكية من المازوت كبيرة في ظلّ التقنين القاسي للكهرباء، وهي ليست متوفّرة في السوق راهناً.

وبحسب هارون “تحتاج المستشفيات الخاصة في لبنان وحدها حوالي 350 ألف ليتر من المازوت يومياً، أي بين 10 ملايين ونصف و11 مليون ليتر شهرياً”. هذا من دون المستشفيات الحكومية.

ويقول “على السعر الراهن، فإنّ كلفة المازوت على كل مريض يومياً، في المستشفيات، هي 130 ألف ليرة، وفي حال رفع الدعم، واعتمدت أسعار المحروقات على أساس سعر السوق السوداء، فإنّ كلفة المازوت على كلّ مريض عن كلّ يوم في المستشفى ستفوق 600 إلى 700 ألف، وهذا رقم خيالي جداً، وبالتالي لن يكون بمقدور أحد الحصول على الاستشفاء”.

وبرأي هارون، الحلّ الوحيد يكون بتأمين المازوت للمستشفيات وبصورة منتظمة. إذ إنّ المستشفيات تقوم ببرمجة عملياتها وإدخال المرضى وغسل الكلى والعلاج الكيميائي شهرياً، لذا يفترض أن تكون أكيدة من أنّها ستتمكّن من تقديم الاستشفاء للمرضى خلال هذه الفترة، وبالتالي فإنّ المخزون في المستشفيات يجب أن يكفيها لشهر على أقل تقدير، وليس تزويدها به يومياً وبالقطّارة.

ويضيف “خلال الفترة الأخيرة، تواصلت معي مستشفيات مخزونها يكفي لساعات قليلة أو ليوم فقط، وأفضل المستشفيات كان لديها مخزون لخمسة أيام، ولا يمكن المضي والعمل في ظل هذا الواقع!”.

ويتساءل هارون “ماذا لو فعلاً حدث ما نتخوّف منه في المستشفيات؟ ونفذت كمّية المازوت في إحداها، فحتّى خيار إجلاء المرضى الى مستشفى آخر لن يكون متوفّراً أو بهذه السهولة، فجميع المستشفيات تعاني الأزمة نفسها، ويحاول كلّ مستشفى حصر الحالات بالطارئ، وتأجيل كل ما يمكن أن ينتظر خلال الفترة الراهنة”.

ويلفت هارون الى أنّ الإجراءات التي اتخذت في بعض المستشفيات مثل إطفاء المكيّفات، ولو أنّها أقل ضرراً، وتشكل حاجة من أجل الاستمرار، لكنها إجراءات ليست مستحبّة، حيث أنّ المحفاظة على درجة حرارة معيّنة داخل غرف المرضى، ضرورة لمنع انتشار العدوى بينهم، والتكييف ليس ترفاً بالنسبة إلى المستشفيات بل هو ضرورة صحية. 

ويرى هارون أنّ “استمرار الوضع على ما هو عليه، يعني أنّ المستشفيات لن تتمكّن من المضي قدماً في تقديم العلاج من دون دعم خارجي، وهذا مرتبط بمدى سرعة تشكيل الحكومة وإجراء الإصلاحات، من أجل مساعدة لبنان”.

المختبرات أيضاً

وكما المستشفيات، تعاني المختبرات الطبية، من فقدان مادة المازوت، وتقنين الكهرباء القاسي وتراجع ساعات تغذية المولّدات الخاصّة.

تقول نقيبة أصحاب المختبرات د. ميرنا جرمانوس لـ”المفكرة”: “مختبرات طبية كثيرة أقفلت أبوابها، بفعل أزمة المازوت وقبلها أزمة الدولار، وقد علت صرخات أصحاب المختبرات في الأيام القليلة الماضية، بسبب حاجتها الماسّة إلى الكهرباء من أجل حفظ مستلزمات عملها في البرّادات على درجات حرارة معيّنة، مثل الكواشف الطبية”.

والأسوأ من ذلك، بحسب جرمانوس، أنّ المختبرات التي لم تقفل أبوابها بعد، بالكاد تعمل، بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد وتراجع قدرة المواطنين الاستشفائية من جهة، ونتيجة عدم الاتّفاق مع شركات التأمين على تسعيرة الفحوصات راهناً، وبالتالي فإنّ أصحاب هذه المختبرات يراكمون خسارات قد تؤدّي إلى الإقفال في المستقبل.

وتضيف جرمانوس: “نحاول راهناً الاستمرار وتقديم الخدمة الأفضل للمرضى، لكنّنا أصحاب المختبرات، نعاني من أزمة المحروقات كما كلّ لبنان”. 

الأمصال خبز المستشفيات

ضربة أخرى تلقّاها القطاع الطبي، حين أعلن مصنع “ألفا” لتصنيع الأدوية والأمصال في 10 آب عن توقّف الإنتاج بسبب فقدان مادة المازوت، وهو من أكبر المعامل الوطنية ويغطي 70 في المئة من حاجة السوق بالأمصال، وينتج يومياً أكثر من 50 ألف وحدة مصل.

تقول المديرة العامة في المصنع سعاد عقل لـ”المفكرة”: “المعمل عاد للعمل مجدداً بعد أن تمكنّا من تأمين كمية من المازوت تكفي لأسبوع، لكنها انتهت وسط وعود بتسليمنا كميات جديدة”. وتضيف: “يحتاج المصنع إلى 12 ألف ليتر من المازوت يومياً، وهي كمية كبيرة، بسبب طبيعة عملنا إذ نحتاج دائماً الى التعقيم”.

وكما المستشفيات الخاصة والمختبرات، تعيش المعامل قلقاً لتأمين المازوت بشكل يومي، فبحسب سعاد عقل “نعيش قلقاً يومياً حول ما إذا كانت ستتأمن الكميات اللازمة من المازوت لمتابعة العمل أم لا”.

ولكن ما لا يعلمه كثر، هو أنّ أزمة مصنع “ألفا”، وهو واحد من أصل ثلاثة مصانع للأمصال، تمتدّ إلى مصانع الأدوية الأخرى، إذ يوجد في لبنان 12 مصنعاً (9 أدوية و3 أمصال)، جميعها يعاني من نقص في مادة المازوت، وفي أحسن الأحوال يتمّ تأمين كميات ضئيلة تكفي ليوم أو يومين وأحياناً لساعات، فيما البحث المستمر عن مصدر للمازوت سيّد الموقف اليومي، وفق ما تؤكّده نقيبة مصنعي الادوية في لبنان كارول ابي كرم لـ”المفكرة”.

وتوضح: “تحتاج المصانع 100 مليون ليتر شهرياً من المازوت، وتعجز عن تأمين حاجتها الأسبوعية، ما يجعلها غير قادرة على وضع برنامج أسبوعي لإنتاجها. بتنا نعيش على أعصابنا، حتى أنّ بعض شركات المحروقات لا تلتزم بمواعيد تسليمنا، وقد اضطرّت عدّة مصانع ومرّات كثيرة للتوّقف عن العمل إلى حين تأمين المازوت!”.

تشرح كارول أبي كرم لـ”المفكرة” كيف أثرت سلباً أزمة انقطاع المازوت على عدد كبير من المصانع، قائلة: “هذه الأزمة من شأنها إعاقة إنتاجنا للكميّات المطلوبة في السوق، وزيادة الكلفة الإنتاجية، لاسيّما أنّ بعض المصانع اضطرّت لشراء المازوت من السوق السوداء، وهذا ما يرفع الكلفة على المصانع، والجميع يعلم أنّ هناك سقف لسعر الدواء، والأكثر خطراً، أنّ الكلفة ترتفع والخسارة تزيد أيضاً”.

وتشير إلى ضرر انقطاع المازوت على كلّ الصناعات المتصلة، كالتغليف مثلاً التي تحتاجها مصانع الدواء، ولا تتمكّن من تأمينها بسبب الأزمة نفسها، أو ترتفع تكلفتها عليها، نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات في السوق السوداء. 

يحدث ذلك، في وقت يُطلب من الصناعة الوطنية تحمّل مسؤولياتها لتعويض فقدان الأدوية في السوق نتيجة الأزمة النقدية.

ولا تقف أزمة مصانع الدواء عند المازوت، بل تضاعفت أزماتها، بحسب كارول أبي كرم، بعد وقف دعم البنك المركزي منذ مدة للمواد الأوّلية والتي تشكّل بين 25 و30 في المئة من كامل كلفة الإنتاج، في حين، يتمّ دعم الأدوية المستوردة بالكامل.

 المستوصفات ملاذ الفقراء الأخير مأزومة أيضاً!

انتشرت مؤخّراً صورة الطبيب كفاح الكسّار وهو يعاين مرضاه على ضوء الهاتف بسبب انقطاع الكهرباء. الصورة التي التقطت للطبيب كانت في مستوصف “الإيمان” في ببنين-عكار. يقول الكسّار لـ”المفكرة”: “الأزمة كلّ يوم تتفاقم أكثر فأكثر. لا إشتراك موتور ولا كهرباء دولة، أتمكّن أحياناً من تأمين ثمن المازوت لتشغيل الكهرباء كي أعاين المرضى، الذين أعالجهم بالمجّان أصلاً، وعندما تنتهي الكميّة أعود لإضاءة هاتفي”.

ويسأل :”شو ممكن أعمل؟ بترك المرضى يموتوا؟، ما عم نلاقي دوا ولا مازوت، الوضع كارثي”.

يروي الكسّار هذا الواقع بحرقة، وفي صالة الانتظار عشرات المرضى الّذين ينتظرون دورهم لتلقّي العلاج، وهو يخشى أن تنقطع الكهرباء وألّا يتمكّن من تزويد المرضى بالأوكسجين، أو بالعلاج المطلوب كما يروي لـ”المفكرة”.

وبسبب الأزمة المعيشية الخانقة، باتت المستوصفات مقصد الناس من مختلف طبقات المجتمع، لاسيّما أن نسبة الفقراء ارتفعت في لبنان، وهذا ما يلفت إليه الكسار. ويطالب المعنيين بالالتفات أكثر إلى المستوصفات التي باتت ملجأ الناس الّذين لا يمكنهم التوجّه إلى المستشفيات، ولا يجدون فيها ما يناسبهم، وتسليط الضوء على معاناتها كما المستشفيات والمختبرات، فجميعها يعاني من أزمة المحروقات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، قطاع خاص ، الحق في الصحة ، لبنان ، الحق في الصحة والتعليم ، جائحة كورونا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني