الفلسطينيون المسيحيّون في مخيّم ضبيّة: لا احتفالات بالميلاد هنا أيضًا (1)


2023-12-28    |   

الفلسطينيون المسيحيّون في مخيّم ضبيّة: لا احتفالات بالميلاد هنا أيضًا (1)
جلسة سمر لسكان من بيت لحم أمام باب دارهم في عام 1925

“مش معيدين” بهذه العبارة تختصر سعدى غطاس ليلة ميلاد اللاجئين الفلسطينيين في مخيم الضبية، شمال بيروت. جلست سعدى، الجدة الستينية، التي تهجّرت عائلتها من فلسطين على درب جلجلة طويل انتهى إلى ضبية، بثيابها السوداء في دكانها، في زاروب صغير وسط المخيم، فيما تخبر دموعها عن آلام ممتدة لـ 75 عاماً. آلام ورثتها عن أهلها، وتقول إن “طفل العيد، يسوع المسيح” يحملها مثلها اليوم.

وفي ليلة العيد، كان مخيم الضبية هو الوجهة، هنا تشعر أنك أقرب إلى الرواية. صوت مسيحيي فلسطين وقصتهم تروى هنا على لسانهم، حيث يعتبر المكان المخيم الوحيد للفلسطينيين المسيحيين في لبنان. هُجّر هؤلاء من قريتي البصّة وكفر برم بشكل رئيسي، كما من حيفا ويافا وعدد من قرى ومدن الجليل الفلسطيني. وكان المخيم ليلة الميلاد الشاهد الأبرز على الحزن الذي غلب فرحة العيد. حزن على شهداء غزة وأطفالها وأهلها عبّرت عنه كنيسة المهد بالإعلان عن توقف الخدمات الكنسيّة في يوم الميلاد للمرة الأولى منذ 17 قرنًا. وكنيسة المهد مشيّدة في المكان الذي ولد فيه طفل العيد، يسوع المسيح، بناها الإمبراطور قسطنطين بأمر منه ومن والدته الإمبراطورة هيلانة عام 339 م عقب اعتناقه المسيحية، فأصبح إلغاء الاحتفالات الميلادية فيها هذا العام حدثًا عظيمًا في التاريخ المسيحي، الذي هو جزء من تاريخ هذه الأرض وإنسانها.

ليلة 25 كانون الأوّل 2023، لفّ الحزن بيوت سكان مخيم ضبية، وغابت مظاهر الفرح، فازداد ضيق أزقته وعتمة ليله ومعهما برد الهواء الآتي من الغرب، ناحية البحر. وبيت وراء بيت، يحضر ميلاد الطفل يسوع فيما تغيب مظاهر العيد، يتراجع الفرح إلى خارج المخيم، فيستحي أن يخطو فيه خطوة واحدة، وتلك الغمامة من الحزن التي تطفو فوق فلسطين اليوم، نراها هنا، في مخيم الضبية، حاضرة أيضًا.

قرب الكنيسة الوحيدة في المخيّم الصغير في منطقة ضبية، طفل يرتدي سترة سوداء طُبع عليها علم فلسطين. يقول زاهي، طفل التسع سنوات “ما عاملين عيد لأنهم عم يقتلوا الأولاد بغزة”. وفي نهاية الشارع، يقع منزل أسرة حبيب، التي لم تحتفل، وفي منزلها شجرة خجولة تقتصر زينتها على أسماء شهداء. يقول إلياس حبيب، من منزل لجوئه في لبنان، إنّه متيقّن أن “المسيح يتألم اليوم مع كلّ فلسطينيّ”.

مخيم ضبية للاجئين الفلسطينيين في لبنان

الحزن أسلوب مقاومة وتمسّك بالحقّ وبالعودة

وإذ تجول في أزقّة المخيّم، فإنك تشمّ رائحة فلسطين، وتتلمس روح أهلها، يقفون على عتبة أبواب منازلهم المؤلفة من طابق أو طابقين كحدّ أقصى، يدعونك للدخول: “تتفضّل”، ويدعونك إلى عشاء متواضع، ومعه قصّة أو اثنتين عن آلامهم، التي فتحت جروحها حرب الإبادة الجماعيّة الإسرائيلية على غزّة، لا بل عمّقتها وأعادتها للنزف من جديد. جروح لا تحتاج إلى كثير من الوقت لتكتشف أنها لم تلتئم يومًا، إذ حافظ سكّان المخيّم على فلسطينيّتهم وتمسّكهم بجذورهم وقضيّتهم، رغم عقود حُبلى بالمشقّات (دمّر جزء من المخيم خلال الحرب الأهليّة) والإغراءات (لناحية التجنيس).

تؤكّد كريستين، الفلسطينية العشرينية، أنّ الحزن في ليلة الميلاد فعل مقاومة أيضاً، لأنّه يحمي روحك من اعتياد الظلم والخضوع له. كما يساعدك على التمسّك أكثر برواية شعبك فيما يحاول المشروع الصهيونيّ مسحه فيزيائيا ومعنويًّا من الوجود. وفي المخيّم جيل جديد، بينه وبين نكبة شعبه أكثر من نصف قرن، تحسبها بحساب السنوات طويلة، حتى تراها في عيونهم حيّة، وكأنّها حصلت قبل ساعة من الزمن. يقولون إنّهم يستعدّون للعودة إلى الديار التي خرج لهم منها جد وجدة. وتلمس هذه الروح في كلمات إليسا، الشابة اليافعة التي تقاوم على طريقتها ومن مكانها، في سبيل التحرير، من خلال نشاط متواصل على وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة قصص فلسطين وغزة: “أنا قلبي هناك، وعقلي هناك، في عكا (مدينة عائلة والدها) وفي حيفا (مدينة عائلة والدتها) ولكن أيضًا في كل قرية من فلسطين”. باتت إليسا ومنذ 7 تشرين الأوّل، “متفرّغة لنقل صوت غزة وأهلها”، تتابع، وقد رسمت ابتسامة على وجنتيها، رغم الحزن الثقيل في عينيها: “فلسطين كلها قريتي، وحين أعود، سأعود إليها كلها، وسأجولها كلها”.

وفي الكنيسة، شماس، يقترب من الستين، وفي جيبه ورقة لاجئ حتى اليوم، وإيمان عميق بأن “الحق ينتصر”. يقول وسام الديك، شماس كنيسة القديس جاورجيوس للروم الملكيين الكاثوليك في مخيم ضبية، إنه يعرف فلسطين بالنظر إليها من الجنوب اللبناني، ومن قصص والده وذكرياته، فيجد نفسه يسير معه في كل ميلاد طرقات البصّة، قريته، يعبر معه “كعب زيتون” وراء آخر، وصولًا إلى بيت عمته قرب كنيسة الأرثوذوكس. وفي حلم الشماس الذي يبصره نائما ومستيقظا، تنضم العمّة إليه في مسيره مع أبيه، فتنحرف بهم الطريق يمينًا نحو كنيسة الكاثوليك المجاورة لمسجد القرية “كان يحكي لي أبي عن انضمام أهل الببصّة لاحتفالات أخوتهم المسيحيين ليلة الميلاد”.

يقول الشماس وسام “بات عمري 55 سنة اليوم وأنا أحمل بطاقة لاجئ، لكنني أُبصر فلسطين في نومي واستيقاظي، هي الحلم، أعرف كما يعرف أبي الثمانيني، أنه سيتحقق يوما ما”. ويتابع: “مأساة المسلم والمسيحي الفلسطيني هي نفسها، ولو سلبنا المشروع الصهيوني كل ما هو مادي: أرضنا وبيوتنا وشجرنا، فإنه لا يستطيع سلبنا روحنا وعزيمتنا، ونعرف أننا سنستعيد أرضنا رغم اتحاد العالم ضدنا ومحاولته سحقنا”.

بالمثل، تحكي فتن قصة لجوء أسرتها من حيفا إلى مخيم ضبية: “خرجت عائلتي من حيفا بالشختورة، وخرجت عائلة زوجي من البصة على الجِمَال، لكن درب اللجوء هو نفسه، ومره هو نفسه”. تذكر فتن أن أمها عادت بها إلى حيفا، بعد النكبة، من دون أن يُسمح لها البقاء فيها، وأن شوارعها وحاراتها مازالت مطبوعة في ذاكرتها: “أجمل مدن العالم، كلما نزور بيروت، بتذكر حيفا”. وتقول فتن إنها ستعود إلى حيفا في فلسطين حرّة.

جانب من الحارات القديمة في بيت لحم

في ليلة الميلاد: قصة درب جلجلة طويل فشهادة

وبين بيوت مخيم الضبيّة، بيت سعدى، التي زادت نكبتها نكبة باستشهاد سيدتين من أقربائها في غزة. تدعوك سعدى للدخول، ويحمل صوتها شجن كبير يضيق به صدرها حتى الانفجار.

تخبر سعدى قصّة عائلتها وما تسميه “درب جلجلتنا الطويل”. طُرِدت عائلتها عام 1948 من البصّة باتّجاه قرى الجنوب اللبنانيّ، ثمّ رحّلتهم السلطات اللبنانية نحو سوريا بالقطارات لتستقرّ في مخيم النيرب في حلب، وهناك ولدت أمّ سعدى، ولمّا شعر الأهالي أنهم باتوا بعيدين جدا عن فلسطين، عادوا إلى لبنان، بوساطة مع الصليب الأحمر والمراجع الدينية، فاستقبلتهم السلطات اللبنانية في مخيم ضبية. لم تنته رحلة اللجوء والمنافي هنا، تنقلت العائلة خلال الحرب الأهلية بين منازل لجوء عدة، وعام 1982، قُصف مبنى كان يأوي  العائلة خلال الاجتياح الإسرائيلي، فاستشهد 20 فردًا منها، بينهم والد سعدى، ووُضع إسمها حينها بين الوفيات قبل أن تتبين نجاتها. خرجت العائلة إلى اليمن مع من خرجوا برفقة ياسر عرفات، وفيما عادت سعدى وأسرتها إلى لبنان لاحقًا، توجّه خالها، ومعه إبنته سمر أنطون وزوجته ناهدة أنطون إلى غزة، حيث استُشهدت السيدتان في نهاية طريق آلام طويل بدأ في البصة قبل 7 عقود ونصف.

تقول سعدى إنّ قصة الميلاد في بيتها لهذا العام، هي قصّة ينزف فيها دم هو ذاته الذي يجري في عروقها، قصة استشهاد زوجة خالها وابنته. وقبل ساعات، كانت سعدى تقيم مع أهل المخيّم جنّازًا، لراحة نفس الشهيدتين، ولم يكن لسعدى ترف الحداد، أو طمأنينة الخشوع في الصلوات، وقلقها كبير على أسرتها التي لا يزال يحاصرها الاحتلال اليوم في كنيسة العائلة المقدسة في غزة. قُتلت ناهدة وسمر، قريبتا سعدى، برصاص قناص إسرائيلي يوم السبت 16 كانون الأول، داخل الكنيسة عينها. وكانت ناهدة في طريق خروجها من الكنيسة ناحية دير الراهبات، حينما استهدفها قناص إسرائيلي برصاصة في بطنها، فصرخت. وعندما ركضت نحوها ابنتها سمر لتحضنها، استهدفها القناص نفسه برصاصة في رأسها، لتستشهد على الفور في حضن ناهدة، أمها المصابة. ظلت ناهدة تنزف، وجثة ابنتها بين يديها، ولمّا ركض نحوهما إدوارد (ابن ناهدة)، والوالد كمال (زوجها)، وبعض الأهالي في المكان، رماهم القناص الإسرائيلي بمتفجرة خلفت 7 جرحى من بينهم. يعدّ اليوم خالها الشظايا في جسد إبنه إدوارد من دون أن تتوفر له ولسائر الجرحى مستشفى أو أي طريق للخروج والوصول للعلاج. لا يزال أفراد الأسرة وغيرهم من الجرحى عالقين في الكنيسة، فيما عُلّق محلول ملحيّ (مصل) لإدوارد ويعطى بعض المسكّنات باستمرار.

تقول سعدى إن عائلتها في غزة أخبرتها أن زوجة خالها وجارتها سابقًا في مخيم ضبية، ناهدة، شهدت كل هذا، موت ابنتها وإصابة ولدها إدوارد برقبته وسائر أنحاء جسمه، ووقوع زوجها كمال أرضا بعد أن تركزت الإصابات بقدميه، فيما كانت هي تنزف في بطنها، وتزيد إصاباتها مع كل استهداف. ظلت ناهدة تنزف ساعات عدة، وقناصو الجيش الإسرائيلي يتمركزون في المبنى المقابل ويمنعون الوصول إليهم، وحين نجحت وساطات عدة بالسماح للفلسطينيين بالاقتراب منهم، كانت ناهدة قد أسلمت الروح، متأخرة عن ابنتها ساعات فقط.

رغم الألم العظيم، ترفض الجدة سعدى اختصار المأساة الكبيرة، باستشهاد أفراد أسرتها، الذين عاشوا يومًا هنا قربها في مخيم ضبية. لا تزال تذكر أين ضحكوا وأين ناموا: “قررنا عدم الاحتفال بالعيد منذ أسابيع، قبل استشهاد ناهدة وسمر، لأن لا عيد وأرض الميلاد تحترق”. تحكي عن غزة، وعن أهل غزة، وعن الخدّج إذ مُثّل بهم، ثمّ تسأل: “بأيّ حقّ يقف جنديّ إسرائيليّ ليفجّر منزلًا فلسطينيًّا كهديّة عيد ميلاد لابنته؟ بأي حق نموت وتباد منازلنا؟ وكيف نستغرب الحزن في يوم ميلاد الرب ونحن نواجه من يشوّهون حتى ذكرى ميلاد أولادهم، فيحمّلونها معاني حقد ودمار؟”. ولسعدى دموع كثيرة تنزفها على أطفال غزة، طفل وراء طفل، وطفلة وراء طفلة.

سمر ووالدتها ناهدة أنطون

ويخبرنا التاريخ أن المسيح ولد على هذه الأرض وهي تحت الحكم الروماني وتحت سيف قمعهم، ويحمل المسيحيون هنا تاريخ هذه الأرض المتشابك مع هويتهم وإيمانهم، ويحكون لنا عن “مذبحة الأبرياء” التي تكرر ذكرها في كل بيت دخلناه. يستذكرون رواياتهم التقليدية التي تقول إن الملك هيرودوس أمر بذبح كل الأولاد الذكور في بيت لحم عام ميلاد الطفل يسوع، حتى أنهم يسمونه بـ”قاتل الأطفال الرديئ”. وهذه القصة التي تحضر اليوم على موائد الميلاد في بيوت الفلسطينيين المسيحيين، تشاهدها سعدى غطاس من مخيم لجوئها في لبنان، تُبَثُ الشاشة الصغيرة على البث المباشر، حسبما تقول، إذ يقتل الاحتلال الإسرائيلي طفلًا كل 10 دقائق ويجرح اثنين، هم أكثر من 10 آلاف طفل فلسطيني قتلوا وفقدوا منذ 7 تشرين الأول: “بعد 2000 سنة، ذات الشيء”، تقول سعدى، فتسيل دموعها بين تجاعيد خدودها. وبالأصل، قتل أكثر من طفل فلسطينيّ كل أسبوع منذ بداية هذا العام، وكان قتل الأطفال حاضر منذ أوّل مجازر النكبة الفلسطينية.

في ليلة الميلاد هنا بين الفلسطينيين المسيحيين، تصبح حياتهم وآلامهم ساحة إسقاطات لحياة المسيح وآلامه، وفيما تدنو الساعة من ال12:00 ليلًا، موعد القداس الميلادي، تشير سعدى إلى التلفاز وتقول “قبل أيام، نقلت الجزيرة خبر دهس سيدة فلسطينية حامل بدبابة إسرائيلية، طفل آخر لم يكتب له الميلاد”، لكن في النهاية، ورغم الاحتلال والقمع ومذبحة الأبرياء فإن المسيح ولد، وبعد الجلجلة والصلب، كانت القيامة، تؤكد الستينية الفلسطينية لنا. هكذا يصبح إيمان أهل الأرض، وتاريخهم التقليدي كما الموثّق، أداة مقاومة جديدة. تؤكد سعدى أن الصراع في فلسطين “هو بين شعب ومحتل، وليس صراع ديني كما تقول دعايتهم هم (المحتلون)” ثم تضيف: “قُتل عشرات المسيحيين في غزة، وخطر القضاء على وجودهم حقيقي في الإبادة اليوم، لكن الإبادة هناك هي على كل فلسطيني، ومن أجل كل فلسطيني في هذه الإبادة يتألم يسوع، نحن شعب يقاوم محتلا، مهما كان ديننا”.

هؤلاء الذين اقتلعوا من فلسطينهم، لا تزال فلسطين مزروعة فيهم، وقد يقتل الاحتلال، وقد يدمر، وحتى مغارة ميلاد المسيح، تصبح كومة ركام بالنسبة لأتباع الطفل الذي ولد، وتختفي الزينة في بيوتهم، لكن أملهم في عيونهم يبقى، وقضيتهم في قلوبهم وعلى لسانهم تبقى.

بيت لحم استبدلت شجرة الميلاد بعمل فنيّ يجسّد مريم العذراء وهي تحتضن المسيح على هيئة كفن يرمز لشهداء فلسطين
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني