العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في تونس: قراءة نظرية في تفكيك المفاهيم والنتائج


2020-01-11    |   

العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في تونس: قراءة نظرية في تفكيك المفاهيم والنتائج

تبدو العلاقة وثيقة الصلة بين العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي وليس أقلها الاشتراك في براديغم الانتقال نفسه؛ ذلك أن العدالة الانتقالية تقتضي الانتقال من وضع ظالم إلى وضع عادل؛ وهو ما يتطلب اللجوء بالضرورة إلى بعض الإجراءات الاستثنائية لمعالجة أوضاع استثنائية لا تسمح العدالة التقليدية بمعالجتها. أما الانتقال الديمقراطي، فيتحقق عندما تختار الدولة أن تشق طريقها نحو الديمقراطية والقطع مع منظومة الاستبداد والتسلط، إلا أن العلاقة بين العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي تنطوي على عدة أسئلة:

هل يقتضي الانتقال الديمقراطي بالضرورة عدالة انتقالية؟ وماذا لو فشلت العدالة الانتقالية، هل يفشل الانتقال الديمقراطي؟ جذرية الجواب على السؤال تدعونا إلى القول من دون تردّد بأنه لا انتقال ديمقراطي من دون عدالة انتقالية واعتبار فشل العدالة الانتقالية مؤشرا خطيرا على فشل الانتقال الديمقراطي. وهذا موقف نعثر عليه في جلّ أدبيات العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي. وما التجربتان المصرية والجنوب إفريقية الا دليل على هذه الحقيقة. فالأولى انتهى بها الحكم العسكري العائد بقوة للسلطة إلى طيّ صفحة العدالة الانتقالية، والثانية انتهى نجاح مسار عدالتها الانتقالية الى إنجاح انتقالها الديمقراطي. إلا أن تعدد تجارب العدالة الانتقالية وتنوعها جعل من علاقتها بالانتقال الديمقراطي تختلف من تجربة إلى أخرى.

1- في زحمة تجارب العدالة الانتقالية هناك عدالة تبحث عن نمذجة

هل يمكن الاهتداء إلى نموذج واحد للعدالة الانتقالية؟ وكيف يمكن الامتثال إلى شروط العدالة الانتقالية في غياب نمذجة موحدة؟ في الواقع، إن تعدّد مسارات تجارب العدالة الانتقالية جعل علاقتها بالانتقال الديمقراطي متفاوتة من تجربة إلى أخرى: فالتجربة المغربية للعدالة الانتقالية مثلا غلّبت الحقيقة على المحاسبة، بحيث شددت على التعويض وجبر الضرر على حساب الجزاء، مكتفية باعتماد بعض التوصيات ضمن أفق الإصلاحات الدستورية والقانونية[1]. بالمقابل، شددت تجربة جنوب افريقيا على أهمية الانتقال الديمقراطي بفضل العمل الجبار الذي قام به كل من نلسن مانديلا وفريديريك دي كلارك في محاولتهما لتقاسم السلطة؛ فلم تحل أجهزة الدولة الرئيسية ولم يحاكم القائمون على نظرية التمييز العنصري وحراسهاؤمقابل إتاحة المجال لشيء من التنفيس الجماعي الذي كشف بشاعة ما حصل وسمح بمعرفة الحقيقة وسماع أصوات الضحايا ومن ثمة الانخراط في مسار المصالحة[2]. ألم تتميز بدورها التجربة الرواندية للعدالة الانتقالية بأن اختارت محاسبة معظم الجناة الذين شاركوا في الإبادة الجماعية من خلال المحاكم الجنائية الدولية أو المحاكم العادية والعمل في ذات الوقت على إرساء نوع من المصالحة بين الضحية والجلاد، من خلال طلب الصفح والمغفرة واتخاذ خطوات جريئة كإعادة إدماج المقاتلين والمسؤولين الإداريين في الاقتصاد الوطني وإعطاء الأولوية للمصالحة والإصلاح المؤسسي وتعويض الضحايا؛ وهو الأمر الذي أفسح  المجال للاهتمام بتطوير الشأن الاقتصادي وتعزيز الانتقال الديمقراطي والحفاظ على الوحدة الوطنية[3].

نذهب بعيدا لنطل على بعض تجارب دول أمريكا اللاتينية. وفي زحمة التعدد والتنوع نكتشف مسارات أخرى للعدالة الانتقالية. ففي الأرجنتين، تمّ الاكتفاء بمحاكمة بعض القادة العسكريين والعفو عن جلّهم ضمن موازين القوى القائمة آنذاك. وفي التشيلي، تم التوافق على ضمان الحصانة لبعض القادة السياسيين والعسكريين مدى الحياة والتركيز على توفير الشروط اللازمة لإنجاح الانتقال الديمقراطي[4]. أما التجربة الإسبانية، فركزت على ضرورة إنجاح الانتقال الديمقراطي دون النبش في ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضمن التوافق الذي جرى بين مختلف الفرقاء السياسيين. ولم يفتح ماضي الانتهاكات بملفاته الثقيلة إلا بعدما استقرّ التحول الديمقراطي وبدأ الحديث عن الموضوع من زاوية بعده التاريخي والحفاظ على الذاكرة الجماعية[5]. وإذ اتجه تركيز كل هذه التجارب إلى إنجاح الانتقال الديمقراطي والاكتفاء بالعدالة الانتقالية كمدخل لمعالجة جانب من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإن الإشكال يتعلق بكيفية قراءة التجربة التونسية على ضوء كل هذه التجارب. فمن البيّن أن النموذج التونسي للعدالة الانتقالية وضع خلافا لكل التجارب السابقة، السقف عاليا وكان أكثرها طموحا. وقد تجلى هذا الاختلاف من زاويتين اثنتين:

  • أولا، أن تونس انخرطت بداية في إسقاط النظام وصياغة الدستور وتحقيق الإصلاحات الكبرى، لتضع من ثمّ إطارا للعدالة الانتقالية وما برحت تنتظر نتائجها. وبذلك، اختلفت التجربة التونسية عن تجربتي المغرب وجنوب أفريقيا واللتين انطلقتا في وضع إطار العدالة الانتقالية وهو الإطار الذي أفضى لاحقا إلى وضع الدستور والشروع في الإصلاح السياسي.
  • ثانيا، التشديد على ضرورة كشف حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وحفظ الذاكرة الوطنية للأجيال المتعاقبة للتونسيين لاستخلاص العبر وتخليد ذكرى الضحايا، والمساءلة والمحاسبة بوصفها مجموع الآليات التي تحول دون الإفلات من العقاب أو التفصي من المسؤولية (الفصل 7) وجبر الضرر ورد الاعتبار لضحايا الانتهاكات الذين تعرضوا للانتهاكات سواء كانوا أفردا أو جماعة أو شخصا معنويا (الفصل 10)، وإصلاح المؤسسات عبر تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون، وخاصة مراجعة التشريعات وغربلة مؤسسات الدولة ومرافقتها ممن ثبتت مسؤوليته في الفساد والانتهاكات وتحديث مناهجها وإعادة هيكلتها وتأهيل أعوانها. وأخيرا، المصالحة من خلال تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعي وبناء دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة. وهذا يعني أنه خلافا لمجمل تجارب العدالة الانتقالية، شمل التصور التونسي للعدالة الانتقالية كل جوانبها مضيفا إليها ما لم تتضمنه التجارب الأخرى من خلال بسط ولايتها على جرائم الفساد المالي والاقتصادي.

وفيما تبدو محصلة العدالة الإنتقالية في تونس دون الأهداف التي حددها قانون العدالة الانتقالية، كيف نقيم هذه التجربة على ضوء تجارب الدول الأخرى؟ بكلمة أخرى، كيف نقيم فشل أو نجاح التجربة؟ هل ينبغي الالتزام بالضرورة بكل الأهداف التي حددها قانون العدالة الانتقالية أم يكفي تحقيق الأهداف الرئيسية منها، وبخاصة الأهداف التي تضمن نجاح الانتقال الديمقراطي أو التي يكون الانتقال الديمقراطي في غياب تحققها مهددا بالفشل؟ الواقع أن محاولة استقراء مجمل تجارب العدالة الانتقالية تنتهي بنا إلى جملة من الأهداف الأساسية التي لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية ناجحة من دونها. وهذه الأهداف هي كشف الحقيقة وجبر الضرر والمحاسبة. وهذا ما يحملنا على تقييم عمل هيئة الحقيقة والكرامة في هذه المجالات الثلاثة بوصفها شروط الحد الأدنى لتحقيق العدالة الانتقالية.

  • كشف الحقيقة

لعل الشرط الأول للكشف عن الحقيقة هو أن يعترف الجلاد بجرائمه. وهو ما حصل مع لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا مثلا[6]، كما حصل في تيمور الشرقية حيث “ظهر المرتكبون أمام مجتمعاتهم المحلية للإعراب عن ندمهم وإعادة قبولهم كأعضاء في هذه المجتمعات”[7]. إلا أن هذا الاعتراف بوصفه أحد شروط الكشف عن الحقيقة لم يتحقق بعد في التجربة التونسية، بل أن الدولة العميقة بدت رافضة لأي مراجعة للسردية التي روّجتها لعقود حول المنجز البورقيبي والنوفمبري وما انفكت تضع التماثيل في كل مكان لمؤسس دولة الاستبداد (الزعيم الحبيب بورقيبة) فيما يشبه التصريح الضمني بعدم الاعتراف بالعدالة الانتقالية. وعلى الرغم من المجهود الكبير الذي قامت به هيئة الحقيقة والكرامة في كشف الحقائق، فالثابت أنها لم تنجح في النفاذ الى كل الارشيفات لا سيما فيما يتعلق بأرشيف القضاء العسكري والقطب القضائي المالي ورئاسة الجمهورية ولم تطلع على الكمّ الهائل من الوثائق الذي تم إتلافه مباشرة بعد الثورة. وهو ما ترك وسيترك المجال واسعا لعديد الفراغات والثقوب في ذاكرتنا الوطنية التي ستبقى في حاجة باستمرار إلى ترميم وتحيين.

  • جبر الضرر

يبدو من خلال التصريحات المتكررة لرئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السيدة سهام بن سدرين، أن مسألة جبر ضرر المتضررين ما زالت لم تتضح. فجلّ ما انتهت إليه الهيئة هو دفع الحكومة إلى إقرار صندوق الكرامة من جهة ومنح المتضررين مقررات جبر الضرر من جهة أخرى، من دون بيان كيفية حصولهم على هذه التعويضات في ظل محدودية الإمكانيات المادية لصندوق الكرامة. تجدر الإشارة هنا إلى أن عملية جبر الضرر ليست مجرد تعويض عن النضال الذي اختاره أصحابه ولكنه إقرار الدولة بمسؤوليتها  عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها إزاء حقوق الإنسان في التعبير والتنظم السياسي. وبهذا المعنى، يفهم من التعويض على أنه الوسيلة التي تلجأ إليها الحكومات “للتكفير عن خطاياها وتحمل مسؤولياتها عن الآثام التي اقترفتها في الماضي”[8]. وقد عرفه جورج شير على أنه “هو استرداد شيء ما أو مستوى من الرفاهية كان ليتمتع به الفرد لو لم يتأثر سلبا بظلم وقع عليه من قبل فرد آخر”[9]. يلحظ أن بعض الحكومات تجاوزت هذا الإشكال بتعاملها السخي مع الضحايا في عملية التعويض إلى حدّ “إحداث نقلة نوعية في مستوى رفاهية الفرد”[10].

وفي هذا السياق أكدت اللجنة الدولية لحقوق الانسان المكلفة بتقييم احترام الدول لبنود العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي سبق وأن صادقت عليه الدولة التونسية، ضرورة أن تتحمل الدول مسؤولية “التحقيق في حالات الإعدامات الميدانية والتعذيب وحوادث الاختفاء الغامضة، بالإضافة إلى تسليم الجناة للعدالة، والتعويض للضحايا”[11]. كما أشارت في إطار تفاعلها مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (60/147 الفقرة 3) وتطبيقا للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية إلى ضرورة جبر المتضررين (الفقرتان 15 و16([12]. وأنه على الدول ولاسيما في مراحل الانتقال السياسي أن تتحمل “واجباً أخلاقياً وسياسياً لاتخاذ تدابير علاجية شاملة واستحداث برامج مفصلة تتيح جبر الضرر لفئات أوسع من الضحايا المتأثرة بتلك الانتهاكات”. وهو الأمر الذي أكدت عليه لجنة حقوق الإنسان مجددا في عام 2004، عندما ألحت على الدول أن توفر “سبل الجبر للأفراد الذين انتهكت حقوقهم المشمولة بالعهد”[13].

  • المساءلة والمحاسبة

لا شك أن استحداث الدوائر القضائية المتخصصة لمحاسبة الجناة تعد خطوة جريئة في اتجاه تصفية إرث الماضي وتحقيق أهم شروط العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي بوصفها إحدى الآليات الرئيسية “التي تحول دون الإفلات من العقاب أو التفصي من المسؤولية، ومحاسبة المجرمين عن انتهاكات حقوق الانسان الجسيمة المرتكبة أثناء حقبتي النظام السابق وهي القتل العمد والاغتصاب والعنف الجنسي والتعذيب والإخفاء القسري والإعدام.

وفي هذا الإطار شددت اللجنة الدولية لحقوق الانسان المكلفة بتقييم احترام الدول لبنود العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ضرورة أن تتحمل الدول مسؤولية “التحقيق في حالات الإعدامات الميدانية والتعذيب وحوادث الاختفاء الغامضة، بالإضافة إلى تسليم الجناة للعدالة، والتعويض للضحايا”[14].

ولكن المنجز المتحقق على صعيد المحاسبة حتى الآن يغلب فيه الشكل على المضمون. فكل جلسات المحاكمة التي تمت جرت في غياب الجلاد وغالبها بمنأى عن الإعلام. كما أن بعض الملفات المحالة خلت من مؤيدات الإدانة الضرورية؛ مما يبقي العدالة الانتقالية في شروطها الدنيا بعيدة عن تحقيق أهدافها الكبرى.

هذا من زاوية العدالة الانتقالية فماذا عن الانتقال الديمقراطي؟

2- الانتقال الملتبس الذي يبحث عن نفسه

هل نحن سائرون إلى إرساء نظام ديمقراطي حقيقي وفعلي؟

سؤال صعب لأنه يطرح بدوره أسئلة كثيرة: ماذا نعني بالانتقال الديمقراطي؟ ومتى يتوقف هذا الانتقال ونتحول إلى الديمقراطية؟

تبدو المسألة معقدة خصوصا بعد المراجعات الجذرية التي طالت “الانتقال”[15] لشدة غموض مفهومه وإهماله للتعثرات التي يمكن أن تواجهها المسارات الديمقراطية[16]؛ ذلك أن النتائج المترتبة عن الانتقال الديمقراطي ليست دائما مضمونة، وكثيرا ما يتم الانزلاق نحو أنظمة تسلطية. وهو ما دفع الأوساط الأكاديمية، بداية من تسعينات القرن الماضي، لأن يحولوا اهتمامهم من فكرة أو براديغم الانتقال (transition) إلى براديغم الترسيخ (consolidation)[17]، وذلك في محاولة لقراءة الديمقراطية في علاقة بتجذرها الثقافي والأخلاقي والمؤسساتي بما يجعلها بمنأى عن العودة عن النظام الديمقراطي. ولكن سرعان ما طال هذا العلم الجديد -علم الترسيخ الديمقراطي- الانتقادات[18]. والسبب هو عجزه عن الإجابة عن الأسئلة الأكثر إلحاحا ومنها: ماذا يعني ترسيخ الديمقراطية؟ متى يتم الانتقال من مرحلة القطيعة مع النظام القديم إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية؟ ما هي المرحلة التي تسمح لنا بالحكم على القيم السياسية بوصفها ديمقراطية؟[19] ما هو مآل المنظومة القديمة؟ وكيف لديمقراطية ناشئة أن تشتغل فعليا وفق القواعد المتعارف عليها؟

كل هذه الأسئلة وغيرها أفسحت المجال للاستغناء عن مفهوم “الانتقال” واعتماد مفهوم التحول الديمقراطي (transformation démocratique) بوصفه “عملية تراكمية مستمرة تهدف إلى دمج صيرورة المشروع الديمقراطي التحولي في المنظومة المجتمعية السياسية والثقافية والاجتماعية الاقتصادية”، على أمل أن ينعكس “ذلك على سلوك المواطنة الفردي والجمعي”، وهو ما يتجاوز الانتقال الديمقراطي بوصفه مجرد “عملية مؤقتة ترتبط بشروط زمنية ومكانية”[20].

إلا أنه وبفضل جملة من الأعمال التي نشرت في المجلة الأميركية Jornal of democraty))، ستعرف دراسات الانتقال الديمقراطي طورا جديدا من خلال وضع براديم جديد (pathdépendance) الذي يقدم نفسه على أنه الحل الجذري لمشكلات الانتقال الديمقراطي (transitologie). وهو براديغم لا يركز على عملية الانتقال إلى الديمقراطية في حد ذاتها، بقدر ما يركز على قدرة المجتمعات في التحول إلى الديمقراطية انطلاقا من خصوصياتها المحلية وبيئتها الثقافية. وهو ما يعني العدول عن النموذج الغربي للانتقال الديمقراطي بوصفه كونيا وصالحا لكل التجارب[21]؛ الأمر الذي يلقي بظلاله على مفهومنا للعدالة الانتقالية: هل نحتاج إلى عدالة انتقالية نابعة من بيئتنا الثقافية لمجتمعاتنا بديلا عن تلك النماذج المسقطة؟

وعلى أية حال، مهما اختلفت القراءات المتعلقة بالانتقال الديمقراطي ومساراته، فمن المتفق عليه وجود مرحلتين لا بد من المرور بهما: الأولى تتعلق بالتخلص من النظام الاستبدادي القديم والقطيعة معه وتفكيكه. والثانية تتعلق بدعم هذا المسار وترسيخه.

تتضح ملامح المرحلة الأولى عادة من خلال استبدال قواعد اللعبة السياسية القديمة بأخرى جديدة وبروز فاعلين سياسيين جدد ورسم تصورات إستراتيجية جديدة تتوّج بانتخاب حكومة جديدة عبر التصويت الحر والنزيه والشفاف بما يجعلها تمارس سلطتها من دون أي تدخل من العسكر أو اللوبيات أو غيرها. أما المرحلة الثانية فتتعلق بترسيخ الديمقراطية التي تفترض رهانات وتحديات جديدة وتتطلب إرساء قواعد جديدة وتحتاج إلى ثقافة سياسية ومدنية قوية. وعادة ما تكون هذه المرحلة محفوفة بمخاطر العودة إلى الاستبداد أو الحكم التسلطي، فضلا عن ظهور تحركات معادية للديمقراطية ونزوع السلطة التنفيذية إلى التغوّل، فضلا عن الرغبة في إرساء ديمقراطية شكلية.

وفي هذه المرحلة، تجد الحكومة نفسها في مواجهة تحديات عدة ومنها ما يتعلق بكيفية التعاطي مع نخب النظام القديم من موظفين ساميين وأحزاب وأصحاب أعمال ونفوذ ورجال أمن وعسكر وكيفية معالجة الملفات الاقتصادية الشائكة فيما يتعلق بالديون والتضخم الاجتماعي والفقر والبطالة والتفاوت الجهوي، فضلا عن تعزيز القيم والثقافة الديمقراطية والبحث عن الطريق الأسلم لإحلال المؤسسات الجديدة محل المؤسسات القديمة. وهي عملية معقدة لا تتحقق بمجرد إجراء انتخابي. فالمرحلة الموالية للعملية الانتخابية تطرح ثلاث فرضيات:1 إما العودة إلى التسلط أو اختزال العملية الديمقراطية في بعدها الشكلي والإجرائي أو الانخراط الكلي في المسار الديمقراطي. وهنا يبرز الانتقال الديمقراطي بوصفه جملة من المسارات المختلفة والمتعددة.

فهناك النموذج الدائري(le modèle cyclique)  وهو الأكثر بروزا، حيث يتم الانتقال من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي ثم تقع العودة إلى التسلط وبعد ذلك يتم الانتقال مرة أخرى إلى النظام الديمقراطي وهو ما حدث مثلا في الأرجنتين.

وهناك الانتقال النهائي (le modèle linéaire) الذي يتحقق بالانتقال من النظام التسلطي إلى نظام ديمقراطي بشكل نهائي وتام وهو ما حصل في بعض دول أوروبا الشرقية واسبانيا.

وهناك النموذج الديمقراطي المتقطع (le modèle interrompu) الذي يحصل بفعل استفحال الفساد وغياب الاستقرار السياسي كما حصل في الهند وباكستان.

وعادة ما يرتبط نجاح الانتقال الديمقراطي باحترام جملة من الأهداف المتعلقة أساسا:

 بتفكيك المنظومة القديمة وانهيارها والانتقال من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي أو شبه ديمقراطي على أن يتحقق هذا الانتقال من خلال وضع دستور جديد والاعتراف بمبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في الحياة العامة واحترام حقوق الإنسان بما فيها حرية الصحافة واحترام سيادة القانون.

الالتزام بالتداول السلمي على السلطة في أكثر من محطة انتخابية. وقد أشارت الدراسات إلى أن بعض القيادات السياسية التي تصل إلى الحكم عن طريق انتخابات حرة ونزيهة يمكن أن تقوض أسس التحول الديمقراطي إذا ما عمدت إلى التمسك بالسلطة بشتى الطرق.

العمل على تعزيز الثقافة السياسية بوصفها شرطا للانتقال الديمقراطي وإضفاء الشرعية السياسية على النخب الجديدة وتمييزها عن النخب التقليدية المرتبطة بالسلطة لأنها تعجز عن الإتيان بأي جديد، وإرساء منظومة العدالة الانتقالية وتصفية جرائم الماضي في كنف احترام القانون من خلال إرساء هيئة مختصة يعهد إليها كشف الحقيقة وتحقيق المحاسبة والمصالحة الوطنية.

وعلى الرغم من تسجيل تقدّم على صعيد مختلف هذه المسارات، إلا أن الطريق كانت وما زالت معبدة بالأشواك والعراقيل. فالدعوة إلى الانقلاب على الشرعية لم تنقطع يوما والإلحاح على مراجعة النظام السياسي على نحو يجعل منه نظاما تسلطيا أصبح مطلب الكثير من الفاعلين السياسيين، واللوبيات السياسية والاقتصادية ما انفك يتسع نفوذها في الحياة السياسية وبات التدخل الخارجي مكشوفا أكثر من أي وقت مضى، علاوة على استماتة النخب القديمة في الدفاع عن مواقعها، لتبرز بذاك العدالة الانتقالية وكأنها انعكاس أو ضحية كل الصراعات التي يمر بها المسار.

وعلى هذا الأساس يطرح التساؤل التالي كيف يمكن تقييم الحصيلة؟ وهل بات الانتقال الديمقراطي مهددا؟

لا شك أن المسار الانتقالي بوجهيه الديمقراطي والعدلي كان في طريقه إلى التصفية والأفول بسبب السياسية التي انتهجها الراحل القايد السبسي وفريقه السياسي مدعوما من المنظومة القديمة، ولكن التغيرات الأخيرة الجارية في المشهد السياسي قد تفتح آفاقا جديدة لاستئناف ذات المسار وإنجاح العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي معا. فبعدما كان المسار برمته ضحية فرضية واحدة وهي الالتفاف على العدالة الانتقالية والتضحية بالانتقال الديمقراطي، ها نحن أصبحنا أمام فرضيتين: إما الاستمرار بالتضحية بمسار العدالة الانتقالية- ولو جزئياً- على أن يتم كسب رهان الانتقال الديمقراطي. وإما استئناف مسار العدالة الانتقالية بقوة وفي نفس الوقت كسب رهان الانتقال الديمقراطي.

  • نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

الحقيقة والكرامة في أفق جديد


[1]كمال عبد اللطيف ، العدالة الانتقالية والتحولات السياسية في المغرب ، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ،  2014)، ص71.

[2]الحبيب بلكوش ، العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في السياق العربي، سياسات عربية ،  عدد 18، كانون الثاني /يناير 2016 ، ص80.

[3] محمد غسان الشبوط ، “المصالحة بين الدولة والمجتمع في ضوء تجارب العدالة الانتقالية الافريقية ، رواندا نموذجا”، ضمن مؤلف جماعي العدالة الانتقالية في افريقيا مظاهر تفكيك الأنظمة السلطوية -دراسة في تجارب لجان الحقيقة : مكتسبات وتحديات ، المركز الديمقراطي العربي ، برلين- المانيا ، 2018 ،  ص 265-266  وص283.

[4]بلكوش، ص 80.

[5]بلكوش، ص 81.

[6]ادوارد غونزالس. هاورد فارنيالبحث عن الحقيقة: عناصر إنشاء لجنة حقيقة فاعلة، (برازيليا: لجنة العفو التابعة لوزارة العدل البرازيلية؛ نيويورك: المركز الدولي للعدالة الانتقالية 2013)، ص 16

[7]غونزالس، ص 16

[8]Karl Jaspers, The question of German guilt, translated by E.B. Ashton (New York :  the dial press, 1947), p.36 ; p.73.

[9]Georges Sher, « Ancient wrongs and modern Rights », Philosophiy and public affairs, vol.10, n°.1 (winter 1981), p.6.

[10]ريم القنطري، “تونس في مرحلة انتقالية، تقييم التقدم المنجز بعد عام على انشاء هيئة الحقية والكرامة”، المركز الدولي للعدالة الانتقالية،)2015(، ص 10.

[11]نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية. ترجمة ضفاف شربا. ط1. (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2014)، ص 81.

[12]قرار الجمعية العامة 147/60، المرفق، الفقرة 3(د).

[13]مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الانسان،”أدوات سيادة القانون لدول ما بعد الصراع، برامج جبر الضرر”، (نيورك-جنيف: منشورات الأمم المتحدة 2006)، ص28

[14]نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية. ترجمة ضفاف شربا. ط1. (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2014)، ص 81.

[15]RalucaGrosescu, « Une analyse critique de la transitologie, Valeur heuristiques, limites d’interprétation et difficultés méthodologiques », RoomanianPolitical Science Review, vol.XII, n° 3, (2012), p. 485-504.

[16]Larry Diamond, «Towarddemocratic consolidation », Journal of Democracy, vol. 5, n°3, (1994), p. 4-17 ; Nicolas Guilhot et Philippe Schmitter, « De la transition à la consolidation. Une lecture rétrospective des democratizationstudies », Revue française de sciences politiques, vol. 50, n°4-5, (2000), p. 615-631.

[17] Blanquer, p. 37-47.

[18]Steven Friedman,« Beyond Democratic Consolidation : An Alternative Understanding of Democratic Progress », Theoria (2011), p.27-55;GracielaDucatenzeiler, « Nouvelles approches à l’étude de la consolidation démocratique », Revue internationale de politique comparée, vol. 8, (2001), p. 191-198.

[19]Guillermo. O’Donnell, « Illusions about consolidation », JOD, vol. 7, n°2, (1996), p. 41 ; Andreas Schedler, « Whatisdemocratic consolidation ? », JOD, vol. 9, n°2, (1998), p. 91-107 ;  Guénard. J-M., « La promotion de la démocratie : une impasse théorique ? », Esprit, (2008), n° 1,p.121-135.

[20]أبو الحسن بشير عمر، “دراسة حول مستقبل مسار التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي وإشكالياته في ظل المتغيرات الحالية”، الحوار المتمدن، العدد 4564، 4/9/2014  ، على الرابط:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=431302

[21]RalucaGrosescu, « Une analyse critique de la transitologie, Valeur heuristiques, limites d’interprétation et difficultés méthodologiques », RoomanianPolitical Science Review, vol.XII, n° 3, (2012), p.500.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني