الديباجات الانشائية للمحاكم المصرية: هل يسعى القضاة الى مجاملة الثورة؟


2014-08-26    |   

الديباجات الانشائية للمحاكم المصرية: هل يسعى القضاة الى مجاملة الثورة؟

"نحن لا نطالب أن يكون القاضي عديم الاحساس. ليس فقط لأن ذلك يعد طلبا مستحيلا، ولكن لأن ذلك لا يعتبر ميزة بل عيب، لأن عدم الاحساس يؤدي الى اللامبالاة"[1].

بعد ثورة 25 يناير، نلاحظ أن القضاة المصريين أخذوا يعبرون عن مشاعرهم من خلال الأحكام التي يصدرونها.  فنلاحظ عند قراءة الأحكام القضائية أن بعض القضاة يسطرون ديباجات تذكر بثورة 25 يناير ونضال الشعب المصري. بعد تظاهرات 30-6-2014، سطر القضاة ديباجات لتذكر بهذه التظاهرات وتحيي موقف القوات المسلحة منها.

ولكن الى أى مدى تعتبر هذه الديباجات مفيدة ومنسجمة مع أصول الوظيفة القضائية في مصر؟ وهل هي تندرج تحت حق القاضي الطبيعي في أن يشعر بهموم الوطن والمواطن؟ أم تحولت الأحكام القضائية الى ساحة لتعبير القضاة عن آرائهم السياسية وجذب الاعلام والرأى العام؟
 
الديباجات الانشائية للأحكام القضائية: محاولة لاجتذاب الاعلام ومجاملة الرأي العام    
الديباجة الأولى نقرؤها في الحكم الصادر من محكمة جنايات القاهرة برئاسة المستشار أحمد رفعت بخصوص قضية قتل المتظاهرين والتي كان يحاكم فيها الرئيس الأسبق حسني مبارك. فقد ذكرت المحكمة بثورة 25 يناير بطريقة انشائية وعاطفية: "فإذا بزغ صباح يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير 2011 أطلت على مصر شمس فجر جديد لم تره من قبل، أشعته بيضاء حسناء وضاءة تلوح لشعب مصر العظيم بأمل طال انتظاره ليتحقق مع نفاذ أشعتها شعاع وضاح وهواء نقى زالت عنه الشوائب العالقة فتنفس الشعب الذكى الصعداء بعد طول كابوس ليل مظلم لم يدم لنصب يوم كالمعتاد وفق نواميس الحياة، ولكنه أخلد لثلاثين عاما من ظلام دامس حالك أسود أسود أسوداد ليلة شتاء قارص بلا أمل ولا رجاء أن ينقشع عنها إلى صباح مشرق بضياء ونضارة وحياة."[2]

وهنا نتساءل عن أهمية تلك الديباجة. ولماذا اتجه القاضي أحمد رفعت الى صياغتها وقراءتها قبل البدء في حيثيات الحكم؟

هل اعتبرت المحكمة أن هذه الكلمات جزء من وقائع القضية خصوصا وأنها كانت تنظر قضية قتل المتظاهرين في تلك الثورة؟ وإذا اعتبرتها كذلك، لماذا لم تبدأ الجملة ب “حيث" كما هو متعارف عليه في صياغة الأحكام القضائية؟

ونتساءل عن محاولة المحكمة جذب الرأى العام ووسائل الاعلام بهكذا ديباجة تحيي فيها ثورة 25 يناير بتعابير انشائية جميلة. وفي المقابل، تكون حيثيات الحكم متناقضة أو غير مترابطة[3] مما يسمح بقبول الطعن المقدم الى محكمة النقض ضد الحكم واعادة محاكمة المتهمين[4]، وكأنما الهدف وراء تلك الديباجة كان في الحالة تلك صرف نظر الرأى العام عن مضمون الحكم أو اعلان تمجيد الثورة حتى ولو عجز القاضي عن تحقيق أمنياتها بانزال أقسى العقوبات برموز النظام السابق.

وقد شكلت هذه المقدمة مادة لوسائل الاعلام المرئية والمكتوبة، بحيث تردد اسم المستشار أحمد رفعت ومقدمة الحكم "التاريخية" لأيام عدة، علما أن أسماء القضاة غير معروفة اجمالا من الرأى العام ولا يهتم بها وبحيثيات الحكم سوى القانونيين.

هذا وقد تحول الاستشهاد بثورة 25 يناير في بعض الأحكام الى طريقة لاضفاء بعض الشرعية على الأحكام، أو لجذب تأييد الرأى العام للحكم، دون أن تكون للدباجة علاقة بالقضية المنظورة مطلقا.

فعلى سبيل المثال، استشهدت محكمة جنايات القاهرة، بثورة 25 يناير، في الحكم الصادر بقضية التمويل الأجنبي على النحو التالي:"وإزاء تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر وإحساس الشعب بضعف ورخاوة الدولة وتفككها بأنه ترك مصيره في يد جماعات سياسية "عصابة" تحكمها المصالح الخاصة ولا يحكمها الولاء للوطن، اندلعت في 25 يناير 2011 ثورة شعبية حقيقية لإزاحة هذا الركام عن كاهل الشعب المصري وكسر قيود الهيمنة والتبعية والارتهان الإسرائيلي التي أدمت معصم كل مصري، واستعادت الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية التي غابت عن مصر كثيرا.. فأطاحت بالقائمين على السلطة ومهدت الطريق نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة. فأوجس ذلك في نفس الولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة للكهيان الصهيوني خيفةً ورعباً، فكان رد فعل أمريكا أنها رمت بكل ثقلها ضد هذا التغيير الذي لم تعد آلياتها القديمة قادرة على احتوائه، ومن ثم اتخذت مسألة التمويل الأمريكي أبعادا جديدة في محاولة لاحتواء الثورة وتحريف مساراتها وتوجيهها لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل، فكان من مظاهره تأسيس فروع لمنظمات أجنبية تابعة لها داخل مصر، خارج الأطر الشريعية لتقوم بالعديد من الأنشطة ذات الطابع السياسي التي لا يجوز على الإطلاق الترخيص بها للإخلال بمبدأ "السيادة"، وهو المبدأ المتعارف عليه والمستقر في القانون الدولي ويعاقب عليه في كافة دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها."[5]

وقد جاء هذا الاستشهاد بالثورة في غير موضعه، لعدة أسباب منها ظهور فروع المنظمات الأجنبية في مصر قبل الثورة، وكذلك وجود منظمات أجنبية غير أمريكية تعمل في مصر وكانت محل نظر في القضية.

ونستنتج هنا، توظيف المحكمة لثورة 25 يناير لجذب الرأى العام، وترديد ما تتناوله الأوساط الاعلامية من وجود "مؤامرة" دولية ضد مصر. وبذلك التحليل أضفت المحكمة شرعية لتجريمها عمل منظمات المجتمع المدني الأجنبية وتصدير فكرة "انها تعمل ضد صالح مصر، والثورة" للرأى العام ليسهل رفضها منه، وليتم الاستشهاد بحكمها وترديده في وسائل الاعلام.   
 
نحو تغيير منهج صياغة الأحكام؟
ويذهب بعض القضاة الى الاستناد على موقف المدعي أو المدعي عليه في الثورة لإصدار حكمهم بالإدانة أو البراءة، على سبيل المثال حكم رفض محكمة القضاء الاداري غلق قناة الحياة لعرضها فيديو المواطن المسحول في احداث الاتحادية، بحجة وقوف القناة مع الثورة وانه لا يجوز بناء عليه الا "العرفان بالجميل" من الشعب المصري وليس وضعها موضع اتهام[6]. وبالطبع، يطرح هذا التعليل إشكالية أساسية بشأن مدى صلاحيات القاضي لتبرير أحكامه، وهل يجوز له الاستناد على أسباب سياسية لاتخاذ قراره وكيفية تعليله.
 
وفي اتجاه معاكس، ذهبت المحكمة نفسها، في حكمها الصادر بشأن اغلاق الجزيرة مباشر مصر، بالاستناد الى وقوف القناة مع جماعة الاخوان ووصفها بانها " شريك فى مؤامرة دولية تهدف إلى تقسيم الوطن وبث الفرقة بين أبنائه وبينهم وبين الجيش والشرطة وصولاً إلى تمكين جماعة مرفوضة شعبياً من رقاب شعب مصر وحكمه وفقاً لما يرونه، ووفقاً لمخططاتهم التى تباركها وترعاها منظمات عالمية، ودول وقوى أجنبية لا تضمن خيراً للشعوب العربية والإسلامية"[7]، وهنا نتساءل، كيف قررت المحكمة أن جماعة الأخوان مرفوضة شعبيا؟ وكيف كونت عقيدتها حول كون القناة شريك في مؤامرة دولية؟ هل فقط لأنها تنشر أخبارا، من وجهة نظر المحكمة، في صالح جماعة الأخوان المسلمين؟ وهل يجوز ذلك في وقت انقسام الرأى العام حول الأحداث؟

وعلى نفس المنهاج، اصدرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حكمها بشأن حل جماعة الأخوان المسلمين، فذكرت بدور الأزهر وبتاريخ جماعة الأخوان المسلمين، لتردد بعبارات مختلفة الجملة الاعلامية "تاريخ الاخوان ملوث بالدماء"، ولتشيد بدور القوات المسلحة في مظاهرات 30 يونيو[8]. بل وأخذت المحكمة تذكر بتطلعات الشعب بعد ثورة 25 يناير والجرائم التي قام بها جماعة الأخوان المسلمين[9].

نتساءل هنا، كيف للمحكمة أن تذكر بجرائم ارتكبها جماعة من الناس، وتدينهم بها دون أن يكون قد صدر أى حكم من محكمة الجنايات أو غيرها بالادانة؟ وأليس من المفترض أن يكون القضاة من أوائل الملتزمين بمبدأ "المتهم بريء حتى تثبت ادانته"؟ أم أنهم قد تخلوا عن الأعراف القانونية والقضائية وسيطرت عليهم مشاعرهم واتجاهاتهم السياسية؟

وكما ذكرنا في أول المقال، ليس مطلوبا من القاضي أن يكون بلا شعور أو أن ينفصل عن هموم الوطن، ولكن المطلوب منه هوالسيطرة على مشاعره وألا ينساق وراء ردة فعل الرأى العام[10].وذلك، لأن القاضي، وان اختلفنا حول حدود صلاحياته، يصيغ الفقه من خلال أحكامه، فيمكن الاستناد عليه لاحقا في أحكام أخرى كما يعطي صورة عن تطور المجتمع؛ تطور قيمه ومصالحه[11].

نحو تسييس المحاكم المصرية؟
بجانب التساؤلات حول اتخاذ منهج جديد في صياغة الأحكام، والاستناد الى أسباب غير قانونية، يطرح تساؤل مهم جدا هو مدى استقلالية تلك الأحكام عن الصراعات السياسية الحالية في مصر؟ وهل تعتبر تلك الديباجات أو حيثيات الأحكام تعبيرا عن آراء سياسية للمحاكم خلافا للمادة 73 من قانون السلطة القضائية التي تنص على أنه "يحظر على المحاكم ابداء أراء سياسية…ويحظر كذلك على القضاة الاشتغال بالعمل السياسي"؟ وقد نبّه الأستاذ الجامعي د. فتوح الشاذلي الى التمييز الذي اعتمدته المادة 73 بين الحظر المفروض على القضاة داخل المحاكم أو خارجها. فعليهم، وفق الشاذلي، الامتناع عن أي رأي سياسي في إطار أحكامهم، فيما يكون لهم ابداء آرائهم في الأمور السياسية خارج المحكمة فقط، بشرط أن لا يصلوا الى حد الاشتغال بالسياسة[12].

ومن الواضح أن من شأن العبارات التي تضمنتها الحيثيات والديباجيات المشار اليها أعلاه أن تقع تحت إطار هذا الحظر، كما هي حال العبارات الآتية: "الجماعة المرفوضة شعبيا"، "الأزهر الشريف هو منارة العلم ومنبر الوسطية وعليه أن يستمر فى خطابه الدعوي المعتدل، وأن يطور خطابه الديني درءاً للفكر المتطرف الذي ينتهج العنف، حتى ينتشر الإسلام السمح"[13]، "مصر كان يحكمها عصابة مجرمة يتزعمها رئيس الدولة ورئيس ديوانه"[14]. ونلحظ هنا كيف انتقل التجاذب الحاصل بين القضاة ونظام الرئيس السابق محمد مرسي، من داخل نادي القضاة الى المحاكم. وتطرح هنا الأحكام الصادرة مؤخرا بإعدام أعضاء من الاخوان المسلمين دون دلائل قوية تساؤلات حول كونها جزء من انتقال هذا التجاذب الى ساحات المحاكم[15].



[1] Leon Husson, “Les trios dimensions de la motivation judiciaire”, Etude publiee dans « La motivation des decisions des justices » Etudes publiees par Ch.Perelman et P.Foriens, 1978, Etablissements Emile Bruylant.
[2] حسب ما جاء في جريدة الشروق بتاريخ 5 يونيو/حزيران 2012 تحت عنوان "الشروق تنشر حيثيات حكم نهاية عصر الظلام.
[3] راجع"انقسام حول القانونيين حول الحكم في قضية القرن"، نشر في جريدة اليوم السابع بتاريخ 2 يونيو/حزيران 2013.
[4] نشر الخبر في جريدة الشروق بتاريخ 13 يناير/تشرين ثاني 2013.
[5] حسب ما جاء في جريدة الوطن بتاريخ 5-6-2013 تحت عنوان: "الوطن تنشر حيثيات الحكم في قضية التمويل الأجنبي: الثورة أخافت أمريكا والتمويل شكل من أشكال الاستعمار الناعم."
[6] راجع "ننشر حيثيات رفض دعوى غلق قناة الحياة لبثها فيديو مسحول الاتحادية" نشر في جريدة الشروق بتاريخ 2-9-2013.
[7] حسب ما جاء في جريدة الوطن بتاريخ 4 سبتمبر/أيلول 2013 تحت عنوان: "حيثيات غلق الجزيرة مباشر مصر: شيطان سقطت عنه ورقة التوت".
[8] راجع"الجماعة تسترد لقب المحظورة"، نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 24-9-2013.
[9] راجع "حظر الاخوان لتحصين البلاد من خطرهم"، نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25-9-2013.
[10]Leon Husson, “Les trios dimensions de la motivation judiciaire”, Etude publiee dans « La motivation des decisions des justices » Etudes publiees par Ch.Perelman et P.Foriens, 1978, Etablissements Emile Bruylant
[11]Benoit Frydman, “L’evolution des criteres et des modes de controle de la qualite des decisions de justice”, Publie dans “Qualite des decisions de justice”, Colloque organize en 2007 par Faculte de droit et des sciences socials de Poitiers.
[12] راجع فتوح الشاذلي، "التحرك الجماعي للقضاة في مصر"، نشر في حين تجمع القضاة" إعداد نزار صاغية، الصفحات 139 الى 203، الناشر: المنشورات الحقوقية صادر.
[13] الحكم الخاص بحل جماعة الأخوان المسلمين.
[14] راجع "حيثيات حكم البياضة: مصر كان يحكمها عصابة مجرمة يتزعمها رئيس الدولة"، نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12-3-2012.
[15] راجع مقالات منة عمر في هذا الشأن: "أسئلة من وحي قرار جنايات المنيا (2): هل أصبح التعليق على أحكام القضاء حكرا على المؤيدين؟" نشر على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية بتاريخ 6-6-2014، و "المفتي يرفض اعدام 14 اخوانيا في مصر: رسالة قوية ضد الإعدام الجماعي" نشر على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية بتاريخ 8-8-2014. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني