الدولة ضدّ الدولة في قضيّة رياض سلامة: كيف يُعاد وضع التّحقيق على السكّة؟


2023-08-13    |   

الدولة ضدّ الدولة في قضيّة رياض سلامة: كيف يُعاد وضع التّحقيق على السكّة؟

ادّعت الدولة (ممثلة بهيئة القضايا) في تاريخ 10 آب ضدّ الدولة على خلفيّة ما اعتبرتْه أخطاء جسيمة مرتكبة من قاضي التحقيق الأول شربل أبو سمرا في قضية الاختلاس وتبييض الأموال المقامة ضد رياض سلامة ورفاقه. مجرّد تقديم هذه الدعوى أدّى إلى تعليق التحقيق من دون أن يكون للهيئة العامّة لمحكمة التمييز أن تنظر فيها بفعل فقدان نصابها. وقد تمثلت أولى نتائج تعليق التحقيق في عدم انعقاد الجلسة المقررة للاستماع إلى رجا سلامة وماريان الحويك. وكانت هيئة القضايا قد أبدتْ من قبل استياءَها من أداء أبو سمرا حين طعنتْ في قراره بترك سلامة رهن التحقيق خلافا لطلبها أمام الهيئة الاتهامية ومن دون مراعاة أصول المحاكمات الجزائية التي توجب عليه استطلاع رأي النيابة العامة قبل الترك. وقد استجابتْ آنذاك الهيئة الاتهامية وفسخت قرار أبو سمرا ودعتْ سلامة للاستماع إليه في جلسة حدّدتها في 9 آب وأرجأتها لاحقا إلى 28 منه بفعل عدم نجاحها في تبليغه. وقد أكّدت هذه الواقعة أي عدم نجاح التبليغ الخطأ الجسيم المرتكب من قاضي التحقيق بتركه، رغم سوابقه في التهرب من تبليغ الأوراق القضائية ورصيده المثقل في استخدام موقعه ونفوذه الهائل لطمس الحقائق بشأن كيفية هدر ثروات الشعب اللبناني. وقد جاءت نتائج تقرير التدقيق الجنائي لتثبت خطورة استغلال الرجل الذي تم تركه حرّا لنفوذه.

يستدعي ادّعاء هيئة القضايا الملاحظات الآتية:      

انفصام الدولة

أرسى المشرّع آليّة تمكّن المتقاضين من الادعاء ضدّ الدولة على خلفية أعمال قضاتها في حال ارتكابِهم خطأ جسيما. وفي هذه الحالة، يتمّ كفّ يد القاضي الناظر في الدعوى إلى حين النظر في مدى جدّيتها. وفي حال تمّ تقديم الدعوى بعد إنهاء القاضي عمله وإصدار قرار مبرم، يكون بإمكان الهيئة العامة أن تحكم بالتعويض للمتقاضي المتضرر أو أن تبطل القرار الصادر عنه. ولعلّ السؤال الأكبر الذي يطرحه استخدام هيئة القضايا بصفتها ممثلة عن الدولة لهذه الآلية في قضية سلامة: هل يمكن للدولة أن تدّعي ضد الدولة؟ يحتمل هذا السؤال الإجابة بالنفي عملا بالمبدأ الذي لا يسمح لأيّ متقاضٍ الادّعاء على نفسه، طالما أن القضاء ينظر في النزاعات بين أشخاص مختلفين وليس في النزاعات الذاتيّة الحاصلة داخل الفرد أو الكيان نفسه. إلا أنه يحتمل أيضا الإيجاب (وهذا ما انتهت إليه الهيئة العامة في قضية سابقة في تاريخ 9 تموز 2012) طالما أن الهدف من هذه الآلية ليس فقط الحصول على تعويض من الدولة على خلفية أعمال القضاة (وهو أمر لا يمكن طبعا لهيئة القضايا المطالبة به) ولكن أيضا كفّ يد القاضي عن العمل أو إبطال أعماله (وهو أمر يشكل ضمانة للمتقاضين وضمنا الدولة التي يجدر حماية مصالحها من باب أولى).  

أيا تكن الإجابة على هذا السؤال، يبقى أن تقديم الدعوى يؤشّر بحد ذاته إلى الانفصام الحاصل داخل الدولة، بين هيئة القضايا (التي اختارت بشكل شبه احتفالي بمناسبة هذه القضية بالذات الدفاع عن مصالح الدولة من دون انتظار توجيهات الإدارات العامة) والأجهزة الأخرى المخولة إدارة المرفق القضائي والإشراف عليه، والتي ارتضتْ على العكس من ذلك استمرار القاضي أبو سمرا في مركزه رغم انخراطه الواعي والمنتظم والمعلوم في تحصين نظام الإفلات من العقاب؛ وهي الأجهزة التي عمدت تاليا إلى تقويض مصالح الدولة وتعريضها لخطر داهم. ويرجّح (وربما يؤمل) أن نشهد مزيدا من حالات الانفصام بين هيئة القضايا وغيرها من الهيئات المستقلة من جهة وسائر الإدارات العامة التي ما تزال تحكمها قوى السلطة الحاكمة وتستخدمها لقضم حقوق الدولة من جهة أخرى.

ومن المهمّ بمكان أن نذكر هنا أنها ليست المرة الأولى التي خاصمتْ فيها هيئة القضايا الدولة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وقد نجح تدخلها الأول في إبطال قرار قضائي مبرم كاد أن يهدر ملكية الدولة لآلاف الأمتار المربعة على واجهة بيروت على مقربة من الروشة (قضية الدولة اللبنانية ضد ورثة إبراهيم وخليل غزارة). لكن يلحظ أن هيئة القضايا خاصمت الدولة آنذاك بهدف إبطال قرار مبرم، بخلاف الحال في هذه القضية حيث هدف ادّعاؤها إلى كفّ يد القاضي أبو سمرا عنها، بعدما كانت طعنت في قراره بترك سلامة أمام الهيئة الاتهامية ونجحتْ في انتزاع قرار بفسخه.

كيلا يخرج أبو سمرا من القضاء بزفّة

رغم كلّ الأدلّة الفاقعة على انخراط أبو سمرا في تحصين نظام الإفلات من العقاب، لم يجدْ لا وزير العدل ولا هيئة التفتيش القضائي ولا مجلس القضاء الأعلى سببا للتحرّك ضدّه. وعليه بقي في منصبه في رئاسة دائرة قضاء التحقيق في بيروت بالإنابة بعدما شغر هذا المنصب منذ 2019 عند تعيين غسان عويدات نائبا عاما تمييزيا وتقاعد قاضي التحقيق الأعلى درجة جورج رزق. وحين اضطرّت النيابة العامة تحت ضغط التحقيقات الأوروبية على الادّعاء على سلامة في قضية اكتستْ طابعا دوليّا، تمّ التعامل مع استبقاء أبو سمرا (وهو الذي يوزع القضايا على قضاة التحقيق) ملف التحقيق فيها لديه على أنه أمر طبيعي لا يستدعي أي احتجاج أو تحرّك لثنيه عن ذلك من قبل هيئات مسؤولة عن حسن سير المرفق القضائي. وهكذا رأينا قضاة مثل غادة عون تُساق إلى التأديب ويصدر قرار بصرفها من العمل وسط حملات من التنمر الإعلاميّ على خلفية تجرّئها فتح ملفات بحق شخصيات نافذة، فيما يبقى ابو سمرا الذي احترف إغلاق الملفات لمصلحة هؤلاء متربّعا على عرش “التحقيق”.

ويذكر هنا أن ائتلاف استقلال القضاء كان دعا في يوم الادّعاء على سلامة في 24 شباط 2023 في هذه القضية بتكليف قاضي تحقيق آخر غير أبو سمرا ضمانا للتخصّص وزيادة الثقة في جدية التحقيق بعدما ذكّر ببعض من إخلالاته. كما كانت المفكرة القانونية حمّلت المراجع المعنية بحسن سير العدالة مسؤولية تقاعسهما عن اتّخاذ أي إجراء مناسب لتحرير المركز الشاغر في رئاسة قضاة التحقيق من قبضة أبو سمرا، معتبرةً أن هذه المراجع ارتضت بفعل ذلك المجازفة بحقوق الناس والمجتمع والسماح بتعميم إفلات قضايا الفساد من العقاب.

من هذه الزاوية، تكتسي دعوى المخاصمة ضدّ الدولة بُعدا إضافيّا يتمثّل في وضع أبو سمرا في دائرة الاتهام تمهيدا لمساءلته ولو بصورة متأخرة عن أدائه السابق قبل تقاعده في تشرين الأول المقبل. فلا نشهدنّ في ذلك التاريخ كما حصل يوم رحيل سلامة زفّةً أو احتفالًا على نحو يجافي الحدّ الأدنى من العدالة وما تفرضه من ثواب وعقاب. 

أي تأثير لدعوى المخاصمة على مسار التحقيق؟

أخيرا، يجدر التساؤل عن أثر دعوى المخاصمة على مسار التحقيق في قضية سلامة ورفاقه، والتي عبّر البعض عن خشيتهم من توقّفها إلى أمد طويل كما يحصل في مجمل التحقيقات الاجتماعية الهامة بفعل تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز وهي المحكمة المختصّة في دعاوى المخاصمة.

هنا يقتضي لفت النظر إلى سيناريوات عدّة يسمح بها قانون أصول المحاكمات الجزائية وتؤدي إلى ضمان استمرار التحقيق في هذه القضية بعد نقلها إلى قضاة آخرين غير أبو سمرا. وأبرز هذه السيناريوات أن تتّخذ الهيئة الاتّهامية التي فسخت قرار قاضي التحقيق بترك سلامة، قرارا بالتصدّي للقضية مباشرة وتاليا استكمال التحقيقات فيها بنفسها وإلا إعادتها إلى قضاء التحقيق مع اشتراط أن يتولى التحقيق قاضٍ آخر غير أبو سمرا المكفوفة يده، وبخاصة بعدما اسثبتتْ من ارتكابه أخطاء جسيمة فيها (كل ذلك عملا بالمادة 140 من قانون أصول المحاكمات الجزائية). علما أن الذهاب في هذا المنحى قد يولّد أسئلة عن الجهة المخولة تعيين قاضي التحقيق الآخر في ظل كفّ يد أبو سمرا عن اتّخاذ أي إجراء في هذه القضية، الأمر الذي قد يفرض في هذه الحالة في أسوأ الأحوال الانتظار حتى تقاعد أبو سمرا في غضون أقل من شهرين.

بانتظار ما ستقدم عليه الهيئة الاتهامية بعد الاستماع إلى سلامة في 28 آب القادم (هذا في حال نجحت في تبليغه رسميّا)، يجدر التنبيه مجدّدا أنّ استمرارية التحقيق مع سلامة تبقى مهدّدة بخطر لجوئه أو لجوء أي من رفاقه تعسّفا إلى آلية مخاصمة الدولة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز بهدف تعطيلِه، وذلك على غرار ما فعله العديد من المدعى عليهم في قضايا المرفأ والمصارف والفساد سندا للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية على نحو أدّى إلى تعطيل مجمل هذه القضايا. وهذا ما كان حذّر منه ائتلاف استقلال القضاء في بيانه المشار إليه أعلاه قبلما يدعو لإقرار اقتراح القانون الذي أعدّه بالتعاون مع عدد من النواب الديمقراطيين بهدف تعديل هذه المادة على نحو يمنع مفاعيلها التعطيلية التلقائية، وهو اقتراح ما زال رئيس مجلس النواب ومكتبه متلكّئين عن وضعه على جدول أعماله رغم ضرورته وطابعه المعجّل. فلنراقب.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مصارف ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني