الحوكمة السيّئة: الاتفاقيّة مع “ألفاريز ومارسال” نموذجًا


2023-10-18    |   

الحوكمة السيّئة: الاتفاقيّة مع “ألفاريز ومارسال” نموذجًا
رسم رائد شرف

نشر هذا المقال كاملًا على موقع “المفكرة القانونية” في تاريخ 17/12/2021.

أجرى المحامي والأستاذ الجامعي كريم ضاهر قراءة نقديّة للعقد الموقّع مع الشركة المدقّقة تظهر الحوكمة السيّئة المتّصلة بكيفية إبرامه وصياغته في مسألة هي شديدة الحيوية في الظروف التي يعبر فيها لبنان. عرض ضاهر هذه القراءة في مؤتمر نظّمه “بيت المستقبل” و”كونراد أديناور” في بكفيا في 3 كانون الأوّل 2021 وعرّبتها من الفرنسية الصحافية فيفيان عقيقي. نعيد نشر هنا بعض المقاطع بالنظر إلى أهميّتها في فهم ما آل إليه التدقيق الجنائي (المحرّر).        

إنّ قراءة عقد التدقيق الجنائي الجديد الموقّع في 17/09/2021 بين الشركة الإماراتيّة “ألفاريز ومارسال” والجمهوريّة اللبنانيّة مُمثّلة بوزارة الماليّة وتحليله بالمقارنة مع أحكام العقد القديم الذي أنهتْه A&M من طرف واحد في 27 تشرين الثاني 2020، يستدعيان عددًا من المُلاحظات التي تقودنا إلى خلاصة واضحة ومؤسفة وهي أنّ عمليّة التفاوض برمّتها، ومن ثمّ صياغة العقد، وإبرامه، وكذلك تنفيذه، ليست إلّا مثالًا نموذجيًا على سوء الحوكمة وتبديد الأموال العامّة،

إجراءات عقد الصفقة

على الرغم من الإعلان عن طلب تقديم عروض في تموز 2020 استُخدم لتحديد الالتزامات، لا يوجد ما يشير إلى أنّ رسوّ العقد على شركة “ألفاريز ومارسال” حصل وفقًا للقواعد والمعايير المُحدّدة في قانون المحاسبة العموميّة الساري المفعول، في ظلّ عدم نفاذ قانون الشراء العامّ الجديد رقم 244 الصادر في 29/7/2021. تُعدُّ هذه العمليّة مُبهمة للغاية ولم يُعلن عن أي تفاصيل بشأنها.

ففيما يتعلّق بالتدقيق الجنائي، وبالاستناد إلى المقارنة مع عقود دوليّة أخرى، يُطلب، أوّلًا وقبل أي شيء، التثبّت من المؤهّلات التقنية للمشارك (أو العارض) ومن خبراته السابقة في هذا المجال. إذ يُعدُّ التخصّص ضروريًا، سواء في التدقيق المحاسبي بشكل عام أو التدقيق الجنائي بصورة خاصّة الذي يُعرّف بأنّه: “تدقيق تشريحي أكثر تفصيلًا وتركّزًا (مُتخصّصًا)، يهدف إلى اكتشاف حالات الاحتيال أو الخطأ المُتعمّد أو سوء الإدارة، بما في ذلك الاختلاس والجرائم الماليّة الأخرى. عادةً، لا يُطلب إجراء تدقيق مُماثل إلّا بعد تقديم شكاوى خطيرة تدّعي حصول ارتكابات احتياليّة أو مُدانة، أو بعد أن يكشف التدقيق المحاسبي العام عن ظروف تشير إلى وجود خطر حقيقي ناجم عن إجراءات غير اعتياديّة”. كذلك يفترض وجود خبرة في مجالَي التدقيق وفقًا لمعايير معهد تمويل الشركات (يتطلّب التدقيق الجنائي الحصول على تدريب خاصّ في تقنيّات التدقيق الجنائي والجوانب القانونيّة لقضايا المحاسبة). وفي الحالة الراهنة، لا يبدو أنّ شركة “ألفاريز ومارسال” تمتلك، وفقًا لمواقعها الإلكترونيّة، أي خبرة ملحوظة في هذا المضمار سواء في مجال التدقيق المحاسبي أو في حقل التدقيق الجنائي. ولا تندرج هذه المهامّ حتّى ضمن نطاق اختصاصها المُصرّح عنه.

الأطراف المُتعاقدة

يبدو واضحًا في العقد أنّ الدولة اللبنانيّة ملتزمة بتأمين جميع الطلبات وتنفيذ جميع الموجبات المفروضة على مصرف لبنان الذي ليس طرفًا في العقد، الذي يمكنه، بالاستناد إلى أحكام قانون النقد والتسليف (المادة 13) الذي يمنحه الاستقلالية الماليّة التامّة والإداريّة النسبية، أنّ يتذرّع ويتحجّج بأنّ العقد غير نافذ تجاهه وأنّه بالتالي غير مُلزم به. يترتّب على ذلك، أنّه يقتضي توجيه أيّ طلب للحصول على مزيد من المعلومات مباشرة إلى الدولة اللبنانيّة، التي عليها أن تستخدم الوسائل اللازمة لتأمين تعاون مصرف لبنان، على الرغم من عدم وجود أي التزام تعاقدي بالتعاون، على عاتق هذا الأخير. ومن خلال تقييم الأحكام التعاقديّة، يتجلّى بوضوح أنّ جميع أطراف العقد (الدولة ومصرف لبنان وشركة التدقيق) قد رتّبوا الموجبات التعاقدية أو أقلّه تكيّفوا معها بما يتيح عدم تحميلهم أي مسؤولية في حال عدم التعاون أو الحصول على نتائج مُقنعة، من خلال الالتزام بموجبات وسيلة (قيامهم بأفضل المساعي لتنفيذ موجباتهم) ومع الحرص على ربطها بالقوانين اللبنانيّة السارية المفعول (وهي ملتبسة للغاية ومقيّدة لهذه الجهة)، وذلك، كما لو تمّ الاتفاق ضمنيًا ومسبقًا على تقديم تقرير شكلي فقط لن يوصِل إلى توجيه أي اتهام أو تجريم.

مخاطر حجب المعلومات بحجّة السرّية المصرفيّة

رغم صدور قانون بتعليق أحكام السرّية المصرفية لحاجات التدقيق، تعود أحكام العقد لتمنع شركة التدقيق من الوصول المباشر إلى المعلومات، بحيث توجد هناك إشارة واضحة إلى القوانين الإلزاميّة والنظام العامّ، وخصوصًا قانون السرّية المصرفيّة وقانون النقد والتسليف (المادتان 44 و151). كما يعتبر العقد أنّ موجب الالتزام بالقوانين اللبنانيّة هو شرط جوهري لإبرام العقد. بنتيجته، لا تتحمّل “ألفاريز” أي مسؤوليّة إذا شكّلت هذه القوانين عائقًا أمام أداء مهمّتها، وإذا كان الوصول إلى الوثائق والدخول إلى مقرّ مصرف لبنان محظورًا عليها.

هدف المهمّة ونطاقها

ينصّ العقد على أنّ المهمّة الموكلة إلى “ألفاريز” هي مجرّد مهمّة استشاريّة على النحو المفصّل في الملحق رقم 1 المُرفق بالعقد، من دون تحديد الهدف الرئيسي بصورة واضحة وصريحة (والذي يُعدّ جوهر العقد وشرطه الموضوعي) على النحو المُحدّد في طلب تقديم العروض، ألا وهو تحديد ما إذا كانت المعاملات الماليّة التي أجراها مصرف لبنان أو أجريتْ من خلال حساباته، اعتياديّة وأصوليّة، ولا تنطوي على أعمال احتياليّة أو مشبوهة. تظهر المقارنة مع عقود خدمات مُماثلة أبرمت بغرض إجراء تدقيق جنائي أنّ الهدف الرئيسي للعقد ونطاقه يتعلّقان بشكل صريح وواضح بـ “التدقيق الجنائي” (بصريح العبارة) لتحديد ما إذا كانت المعاملات والصفقات قد تمّت فعلًا، وما إذا منحت العقود وصرفت الأموال بشكل صحيح ووفقًا للقوانين والأنظمة السارية والمعايير المعمول بها. وقد وردت اختلافات كبيرة بين العقد وملحقاته لجهة الحقّ في إجراء عمليات تفتيش ميداني في مصرف لبنان ومقابلة المديرين وموظّفين آخرين. كان يفترض أنّ  الهدف هو إجراء تحقيق معمّق من أشخاص مؤهّلين وذوي خبرة، وتحديد أوجه الخلل والمخالفات والجرائم المدانة، وجمعها في تقرير خطي شامل، وليس تقديم نصيحة بسيطة يمكن لأي مستشار أو مدقّق آخر تقديمها.

تقرير أوّلي

ترتكز مهمّة شركة “ألفاريز” بصورة أساسية على تقرير مبدئي تقدّمه عن نتائج التدقيق الجنائي للحسابات لدى مصرف لبنان وأنشطته من دون توضيح ما يقتضي أن يتضمّنه كحدّ أدنى هذا التقرير بصورة جليّة لجهة المخالفات والجرائم المحتملة. وهذا يعني أنّ هذا التقرير من شأنه في حال عدم تعاون المصرف المركزي أو تزويده وزارة المالية ما لا يصلح من مستندات لاكتشاف الجرائم والمخالفات، أن يفي بالغرض (المحدود والمبهم) ويخوّل الشركة تحصيل ما هو متوجّب من أتعاب مع ما يستتبع ذلك من نتائج لجهة إبراء ذمّة المصرف والحسابات والمخالفين المحتملين المتوارين، كما والتضليل والإيحاء بأنّه لا يوجد مخالفات؛ ناهيك عن فتح الباب واسعًا لطلب تقرير إضافي ثانٍ يتمّ إبرام عقد جديد بخصوصه وتحديد مخصّصات إضافية تزيد من أعباء الخزينة ومن دون تحديد ما إذا كان يقتضي عندها العودة إلى مجلس الوزراء للاستحصال على موافقته كما والاستحصال على إذن أو موافقة خاصّة لعقد نفقة غير ملحوظة ومرصودة في الموازنة.

أخيرًا، يحدّ العقد من إمكانيّة طلب توضيحات وأجوبة على أسئلة الجهة الملزمة (الدولة اللبنانيّة) الناتجة عن المعلومات الواردة في التقرير الأوّلي، وذلك لفترة محدودة مدّتها أسبوعين.

يبدو هذا الأمر في تعارض مع الأعراف والأصول العقدية المتّبعة في كافة الحالات المشابهة للتدقيق الجنائي، حيث يتم تحديد مرحلتين للتدقيق ينتج بنتيجتهما تقريران: أي تقرير مرحلي يبيّن مراحل تقدّم الأعمال والمعوّقات التي تواجهها الشركة وتقرير نهائي يبين نتائج التحقيق بصورة واضحة وجلية لا لبس فيها وهما مشمولان بالأتعاب والمخصصات المتوافق عليها أصلاً كما وسائر الأحكام الأخرى.

المسؤولية المحدودة وفريق العمل 

على عكس ما هو متعارف عليه في الممارسة الحالية والعقود المُماثلة الأخرى المذكورة أعلاه، فإنّ العقد يحمّل الدولة اللبنانيّة جميع المسؤوليّات مخاطر الخسارة أو الضرر أو الطعن التي قد تتعرّض لها شركة التدقيق وجميع المُرتبطين بها بسبب أداء مهمّتهم المنصوص عنها في العقد (باستثناء حالات الإهمال أو الخطأ الجسيم المتعمّد)، مع موجب التعويض ودفع بدل العطل والضرر،

يبدو أنّ شركة التدقيق ومعها الدولة اللبنانيّة نسيتا الطبيعة العامّة و”الجنائية” لهذا العقد، أو لا تعرفانها (لا شكّ بسبب الافتقار الصارخ إلى الخبرة وفق ما أشير إليه أعلاه).

سرّية التقرير

يفرض العقد قيودًاعلى إمكانيّة نشر التقرير والكشف عنه، وهما محصوران بحالات مُحدّدة وبالاستخدام الحصري للدولة اللبنانيّة، وفقًا للهدف والغرض المُتفق عليهما. بالمثل، تُعتبر موافقة شركة التدقيق إلزاميّة في بعض الحالات. وتحديدًا، تشترط موافقتها على استخدام التقرير كوسيلة إثبات في الإجراءات القضائية، حذف أي إشارة أو تلميح إليها، وإعفاء أي مسؤولية لها عنها.

هذا مخالف لروحيّة التقرير والغرض منه وكذلك للقوانين المرعية الإجراء، لا سيّما فيما يتعلّق بنشر النتائج وفقًا لمبدأ الشفافيّة وقانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات. وفي هذه الحالة بالذات، يفترض أن تؤدي المهمة إلى رفع تقرير عن الجرائم والاختلاسات المُحتملة التي أدّت إلى الانهياريْن الاقتصادي والمالي الحاليين اللذيْن أغرقا البلاد في أزمة وإفلاس، وأوصلا الشعب إلى حالة من الهشاشة والفقر. لذلك من حقّ كلّ مكلّف ومواطن معرفة الحقيقة التي سوف يكشف عنها التقرير للحكم عليها بشكل أفضل.

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان

للاطلاع على العدد كاملا بنسخة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، مصارف ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني