الجباية غير العادلة


2021-10-06    |   

الجباية غير العادلة

يكتسي ملفّ الجباية أهمّيّة كبرى على مستوى الموازنات العمومية وتعبئة موارد الدولة،. حيث إذ تُمثّل المداخيل الجبائية في تونس أكثر من نصف إيرادات الميزانية. ولكن إنّما السياسات الضريبية هي بدورها مرآة تعكس، في جانب منها، واقع العدالة الجبائية في البلاد وتموقع الدولة في علاقتها مع الكتل الاجتماعية المختلفة عبر قياس حجم العبء الضريبيّ المسلَّط على كلٍّ منها.

ففي تونس، حيث تيُعمَّم اللا عدم المساواة على الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة، وحتّى على الطبقة الوسطى التي تتآكل بشكل متسارع خلال العقد الأخير، لا تبدو الجباية استثناء على صعيد الظلم الاقتصادي والاجتماعي. ومن هذا المنطلق. ، وعلى عكس العقد التقليدي بحسب جون جان جاك روسّو، والذي يفرض على الدولة تقديم خدمات ذات مستوى لائق مقابل الضرائب المقتطعة على مواطنيها، يرتفع العبء الجبائي في تونس ويُثقل كاهل الأُجراء والموظَّفين بالأداءات المباشِرة في مقابل تراجع الخدمات العمومية الرئيسية على غرار الصحّة والتعليم والنقل وتحسين البنى التحتية. 

على هذا الأساس، جاءت فكرة إنجاز عدد حول العدالة الجبائية وواقع المنظومة الضريبية في تونس من زوايا متعدّدة، تُمكِّن القارئ من الاطّلاع على هذا الملّفّ من جوانب عدّة، من دون إهمال جوانبه التاريخية والسياسية والاقتصادية.  

هذا الخلل الواضح في طبيعة هذا العقد وفي فصله الرئيسي المتعلّق بتحقيق عدالة جبائية حقيقية على مستوى التعبئة أو التوزيع، ظلّ حتّى هذه اللحظة مغيَّباً عن ورشات الإصلاح الجدّيّة رغم عشرات المؤتمرات والدعوات التي انطلقت منذ سنة 2012 للمطالبة بتطوير المنظومة الجبائية. تجاهُلٌ يقترن بتفاقم الأزمة الاقتصادية والعجز المالي للدولة وارتفاع المديونيّة وتصاعد الغضب الشعبي من دولة مفلسة وعاجزة. غضب يضرب بجذوره عميقاً في التاريخ التونسي. فقبل أكثر من قرن ونصف، كانت القبائل والمدن التونسية تعيش على وقع انتفاضة مسلَّحة بقيادة علي بن غذاهم ضدّ السياسات المركز الضريبية للمركز. حرب فرضها انتشار القحط والفقر والجوع في مقابل سلطة لم تتردّد في اعتصار جيوب رعاياها لتعبئة خزائن الباي. هُزم بن غذاهم، وأُجهِز على تلك الانتفاضة، وتحوّل عرش الباي بعدها بسنوات إلى عرش من ورق مع دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1881، ليتأجّل النقاش في  عقودا بشأن هذا الملّفّ عقوداً..

لكنّ دولة الاستقلال التي رأت النور في 20 مارس 1956، حاملةً وعوداً كبيرة بالمساواة والعدالة والكرامة لمواطنيها، لم تُعِر اهتماماً في خطواتها الأولى لأهمّيّة إرساء سياسة جبائية تلعب دورها الاقتصادي والمالي المفترَض لتعبئة مواردها وإدارة وتوجيه الاستثمار العمومي والخاصّ، أو دورها الاجتماعي في تحقيق العدالة الاجتماعية عبر تأسيس عدالة جبائية تنحاز للكتل الاجتماعية الأضعف وتحدّ من التفاوت الطبقي. وحتّى في سبعينيات القرن الماضي وما تلاه من عقود، وعندما تفطّن النظام إلى أهمّيّة الضرائب كرافد أساسي للتنمية ووسيلة لتشجيع الاستثمار، فقد تمّ توجيه هذه الأداة لصالح البنى الاجتماعية القريبة من السلطة أو الداعمة لها ولتشجيع القطاع الخاصّ عبر الحوافز الضريبية وسط غياب شبه تامّ للهاجس الاجتماعي، بل بالإضافة إلى استخدامها وأداةً عقابية تُسلَّط على المغضوب عليهم من قِبل السلطة.

السخاء الجبائي الذي ارتكزت عليه فلسفة الوزير الأوّل الأسبق، الهادي نويرة، تجاه المستثمرين الخواصّ،، ووالذي يالمستمرّ حتّى هذه اللحظة، عبر مجلّة التشجيع على الاستثمار وكمّ الحوافز والتشجيعات الضريبيّة التي تقرّها الدولة في كلّ قوانين الماليّة، لم يفلح بدوره في إيجاد حلّ لمعضلة الاختلال الجهوي وتنامي الفقر وتراجع مؤشّرات التنمية الجهوية في ما يمكن تسميته شريط الظلّ على امتداد غرب البلاد. بل خلق نزيفاً جديداً يُعرَف بالنفقات الجبائية والتي بلغت سنة 2019 “5644 مليون دينار أي نحوالي 4.96% من قيمة الناتج المحلّي الخام و13.4% من حجم ميزانيّة الدولة” إضافة إلى بؤر فساد جديدة تتعلّق بأآليّة منح الامتيازات ووجهتها ومدخلاً آخر من مداخل التهرّب الجبائي.

بعد الهزّة الضخمة التي أحدثها خروج زين العابدين بن علي من الحكم، وإن تغيّرت الوجوه والخارطة السياسية في البلاد، إلا أنظلّ توازن القوى الاجتماعية على حاله في علاقة ما يخصّ بالحكم ظلّ على حاله. ويتجلّى ذلك بالخصوص من خلال فشل مساعي تطوير الاستخلاص الجبائي أو المضيّ قدماً في عمليّة إصلاح المنظومة الجبائية. عوائق يستعرضها هذا العدد من خلال بالعودة على واقع مصالح الرقابة الجبائية، التابعة للإدارة العامّة للأداءات والتي ما تزالت تعاني من نقص مزمن في الإمكانيّات المادّية واللوجستية التي تعرقل عمليّة الاستخلاص، أو من خلال تسليط الضوء على المطبخ التشريعي الخاضع لسطوة اللوبيات القطاعية التي وجدت في الانخراط في المشهد البرلماني خطّ دفاع رئيسي عن مصالحها الاقتصادية والمالية. لكنّ تناول المفكّرة القانونية لملفّ الجباية لن يقتصر على اجترار السرديّة التاريخية أو هنّات المنظومة الجبائية المعتمَدة، بل سيطرح بعض التصوّرات الإصلاحية على غرار تناول قضيّة تعديل الشرائح المعنيّة بالضريبة التصاعدية أو الدعوات إلى إقرار ضريبة على الثروة لتمويل إيرادات الدولة.

كما يتطرّق هذا العدد إلى قنوات أخرى للإصلاح الجبائي على غرار مسألة إدماج القطاع الموازي الذي يمثّل أحد أهمّ قنوات التنفيس الاقتصادي والاجتماعي خصوصاً في مناطق الظلّ الحدودية، وهو والذي يستأثر بـ 40% من الاقتصاد التونسي ويشغّل 75% من الشباب الذين تتوارح أعمارهم سنّهم بين 19 و25 سنة. حيث يتمّ استعراض أهمّ أصناف الاقتصاد الموازي وارتداداته على الاقتصاد التونسي إجمالاً وتالياً سبل إدماجه في المنظومة الضريبية والاستفادة من عائداته لإصلاح الموازنات المالية العمومية. كما نتطرّق في هذا العدد إلى دور الجباية في ترسيخ الحقوق الأساسية على غرار الحقّ في السكن، عبر تشريح السياسة الإسكانية للدولة خلال السنوات الماضية وسبل تطويرها عبر تطويع السياسة الضريبية لترسيخ هذا الحقّ الإنساني.

رغم محوريّة قضيّة الإصلاح الضريبي كمدخل لتحقيق العدالة الجبائية، إلا أن تبدو المنظومة الحاكمة، في حقبة ما بعد 14 جانفي 2011، تبدو ماضية في الوفاء لشبكة القوى الاجتماعية الحاضنة لها والتي تُكرِّس الحيف الاجتماعي وتُعطِّل كلّ سبل الإصلاح، وهو ما يتجلّى من خلال طبيعة الإجراءات التي يتمّ إقرارها سنوياً في قوانين الماليّة. ولكن، وإن كان “خزندارات ” العصر الجديد ماضين قدماً في تعسّفهم على ضرورة تحقيق العدالة الجبائية في تونس، فإنّ بن غذاهم ما لا يزال يطلّ بعد قرن ونصف من عيون الغاضبين.

 

نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة المفكرة القانونية، تونس. لقراءة العدد انقروا على الرابط:

الجباية غير العادلة

انشر المقال

متوفر من خلال:

فئات مهمشة ، مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني