التعداد العام للسكان لسنة 2024: هل سيكون مرآة للحقيقة؟


2024-04-06    |   

التعداد العام للسكان لسنة 2024: هل سيكون مرآة للحقيقة؟

بعد أخذ وردّ، وتوقّعات متضاربة حول إمكانيّة تنفيذه من عدمه لأسباب تقنية وقانونية وسياسيّة ومادية، أكّدت رئاسة الحكومة إقرار التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 في موعده. هذا التعداد، وهو السادس في تاريخ المعهد الوطني للإحصاء، بعد التعدادات العشرية خلال سنوات 1975 و1984 و1994 و2004 و2014، سيكون هذه المرّة الأضخم، وقد رُصدت له ميزانيّة تتجاوز بالكاد 141 مليون دينار. ويفترض إنجاز التعداد هذه السنة، الشروع خلال أسرع وقت في عمليات المسح الأوليّ. وقد بدأت الاستعدادات للتعداد بسلسلة من المجالس الوزارية الموسّعة، تناول أحدها في 9 مارس 2024 المصادقة على مشروع الأمر المتعلق بتنظيم التعداد العام للسكان والسكنى، الذي تأخّر إصداره إلى يوم 5 أفريل 2024[1].

إقرار التعداد السكاني في موعده تزامن تقريبا مع إقالة مدير المعهد الوطني للإحصاء عدنان الأسود وتعيين بوزيد النصيري بدلا عنه، في 22 مارس. طرحت الإقالة عديد التساؤلات حول المصداقيّة المرتقبة للأرقام. فقد جاءت الإقالة بعد صدور أرقام اعتبرتْ سلبيّة عن المعهد الوطني للإحصاء حول نسب النمو (0،4%) والبطالة (16،4%)، بما غذّى الشكوك حول مراهنة السلطة السياسية على أن تُرينا “ما تريد لنا أن نراه”. وهي شكوك يعزّزها عدم الوضوح حول نوعية المنهجية المتّبعة وطبيعة الأسئلة المطروحة.

إعفاء المدير العام للمعهد الوطني للإحصاء: الشجرة التي تُخفي الغابة

من بين الفرضيّات التي قدّمت لتفسير الإقالة، رجحت بعض المصادر وجود خلافات جدية بين المدير السابق ووزارة الاقتصاد والتخطيط حول تاريخ تنفيذ التعداد السكاني. فقد اقترح الأسود حسب المصدر تأجيل إنجاز التعداد العامّ للسكّان والسكنى إلى الثلاثي الأول من سنة 2025. ويستند هذا الاقتراح إلى الإشكاليات والصعوبات اللوجستية المحيطة بالعملية ككلّ وعدم تنفيذ عدد من الصفقات العمومية التي يتطلّبها التعداد ونقص الموارد البشريّة في المعهد بفعل سياسات التقشّف ونزيف الكفاءات.

ويشهد المعهد، بالأخصّ منذ 25 جويلية 2021، مشاكل عديدة حول تدخّل السلطة السياسية. وهو ما لمّح إليه المدير العام للمعهد في بعض التصريحات، فضلا عن مشاكل اجتماعيّة تتعلق بظروف العمل التي تزداد تدهورا. وكنتيجة لذلك، خاض أعوان المعهد في بداية سنة 2022 إضرابا دام أسبوعا كاملا كخطوة تصعيدية على إثر فشل الجلسة الصلحية التي انعقدتْ بين الطرف النقابي ووزارة الاقتصاد والتخطيط. فقد صرّح الكاتب العام للنقابة الأساسية لأعوان وموظفي المعهد الوطني للإحصاء حينذاك بأن المطالب التي قُدمت بقيت معلّقة مع مرور خمسة وزراء، بقيت رهينة المماطلة من الطرف الحكومي؛ وهو ما دعا عددا من الأعوان إلى القيام بوقفة احتجاجية أمام رئاسة الحكومة بالقصبة ووزارة الاقتصاد والتخطيط رافقها عدد آخر من الوقفات التي قام بها أعوان المعهد في بعض الولايات. وكانت المطالب حينها تتلخّص في تسوية وضعية الأعوان العرضيين ضمن النظام الأساسي وتوفير المستحقّات الماليّة التي تعطّلت خلال ثلاث سنوات والمطالبة بدمج سنتيْن للمُناظرات التي تأخّر موعدها والمطالبة بتكوين الأعوان.

لم يجد عددٌ مهمّ من هذه المطالب طريقا نحو الحلّ واستمرّ نزيف الإطارات البشرية داخل المعهد. ثم تمت محاولة رأب هذا الصدع مؤخرا عبر فتح مناظرة خارجية بالاختبارات لانتداب مهندسين أُول بالسلك المشترك لسدّ الشغور في عشر خطط، تتعلق 9 منها بالمهندسين الأُول في اختصاص الإحصاء وواحدة في اختصاص الجيوماتيك وقيس الأراضي. ويبدو أن باب هذه الانتدابات كان اضطراريا للغاية بالنسبة للطرف الحكومي، وقد أملته الضغوطات المتعلقة بإنجاز عملية التعداد دون غيرها من العوامل، إذ استمر غضّ الطرف عن سدّ الشغور في بعض الخطط الأخرى التي تتطلبها استمرارية عمل المعهد.

ثغرات وصعوبات عديدة في الإعداد للتعداد

على هامش الإعلان عن إطلاق برنامج الثقافة الإحصائية الذي نظّمه البنك الدولي والمعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء البريطاني في مارس 2024، صرّح المدير العام السابق للمعهد الوطني للإحصاء عدنان الأسود بأنّ التعداد سيعتمد للمرّة الأولى على عدد من التقنيات الحديثة، كتوفير عدد من اللوحات الرقميّة لفائدة الأعوان المكلّفين بالعمل الميداني للإحصاء السّكاني عوضا عن الاستمارات الورقية التي كان يتم العمل بها سابقا، مع مراقبة هذه اللوحات عن بُعد بتقنية GPS عبر الربط بشبكة الإنترنيت، وهو ما يتيح تعزيز شفافية المعطيات المجمّعة والعملية الإحصائيّة ككلّ. إلاّ أنّ “رقمنة” العملية الإحصائية التي يبدو أنه قد تم التخطيط لها بشكل متسرّع جدا ومن دون ترتيب كاف، قد خلق تشويشا إضافيا نظرا لعدم جاهزية الدولة ماديا لتنفيذ بعض الصفقات المتعلقة بها. فبحسب مقالللبورصة عربي، سحب المعهد الوطني للإحصاء طلب عروض مسبوق بانتقاء أولي يتعلق باختيار شركة مختصّة في تسويق صور الأقمار الاصطناعية واقتناء وتركيز تطبيقة مندمجة لإنجاز التعداد، كما أعاد نشر طلبات عروض متعلقة باقتناء تجهيزات ومعدّات إعلامية وصفقة متعلقة باقتناء 35 سيارة، وكلّ ذلك بسبب عدم ملاءمة العروض المقدمة للموارد المالية المتوفّرة.

يُفسّر هذا المُعطى تقديم المدير العامّ السابق للمعهد الوطني للإحصاء مقترحا تأجيل الإحصاء إلى سنة 2025، خصوصا وأن المراحل السابقة للتعداد المباشر قد تمّ تأجيلها بناء على تأخر هذه الصفقات. لذا كان من المُقترح تقديم إجراءات استثنائية لتسهيل تنفيذ الصفقات المعنيّة، وهو الأمر الذي لم يتمّ اتّباعه في الإبان لأسباب ماديّة على الأرجح.

وفي جانب آخر، لم يصدر الأمر المنظّم لعمليّة التعداد سوى بعد شهر من نظر المجلس الوزاري فيه، الذي تأخّر بدوره كثيرا طالما كان القرار إجراء التعداد هذه السنة. . كما لا يزال القانون المنظّم لعملية الإحصاء في حاجة إلى التنقيح. إذ يشكو القانون عدد 32 لسنة 1999 المؤرخ في 13 أفريل 1999 المتعلق بالمنظومة الوطنية للإحصاء من عدد من النواقص ولا يتلاءم مع المعايير العالميّة الحديثة لرقمنة العمليّة الإحصائيّة حسب تصريح المدير السابق للمعهد الوطني للإحصاء. من بين التنقيحات التي يمكن إدخالها على القانون التنصيص على المنع الصارم لاستعمال الوسائل الرقمية الجديدة ضمن عملية التعداد في كل ما من شأنه أن يمسّ بحماية المعطيات الشخصية للمستجوَبين مع إقرار عقوبات لذلك. ومن الناحية الهيكليّة، يمكن إعادة تنظيم العلاقة بين المعهد الوطنيّ للإحصاء والمجلس الوطنيّ للإحصاء بطريقة أوضح وأنجع، وبما يضمن استقلاليّتهما. كما يُمكن أن تُوسّع صفة “هيكل إحصائي عمومي” لكي تشمل الهياكل العمومية التي قد تقوم بمهام إحصائيّة[2]، وإيجاد صيغ تسمح بضمان قيام كلّ الإدارات بواجباتها في المجال الإحصائي بأكبر قدر من الشفافيّة والمصداقيّة. وفي الجانب المتعلق بالإنتاج الإحصائي، ينبغي على التشريع أن يحتوي على جوانب أكثر مرونة في تداول المعلومة الإحصائية وتعزيز البرامج التي تتيح الحصول على المعلومات المحينة الصادرة من المعهد الوطني للإحصاء فضلا عن مواءمة الإنتاج الإحصائي عبر توظيف أكثر ما يمكن من المناهج والتصنيفات وتقييم دوري لجودة المعطيات، وأن يُحدث أيضا تحوّلا في تنظيم عملية رقمنة الإحصاء وتحديث مراحله بناءً على أساليب العمل الجديدة التي سيتمّ اتباعها في عملية معالجة البيانات الضخمة big data. كما يمكن تطوير التشريع في اتجاه تنظيم عمليات المسوحات التي يقوم بها المعهد من حين إلى آخر بطريقة عمل أكثر منهجيّة ونجاعة وتطوير دور المعهد الوطني للإحصاء في الجانب التكويني ونشر الثقافة الإحصائية في وسائل الإعلام.

منهجية التعداد: صعوبات جديدة

حسب البرنامج الأولي الذي سيتم اتّباعه، ستشمل المرحلة التمهيدية من التعداد في الفترة ما بين ماي وسبتمبر 2024 العدّ القبْلي للمباني والمحلات والمساكن بالتزامن مع إنجاز التعداد التجريبي بين جوان وسبتمبر 2024. وقد نصّ الأمر الصادر في 5 أفريل على “انطلاقها” في الثلاثي الثاني من 2024. تطرح التواريخ المعتمدة العديد من الإشكاليات حول دقّة المعلومات التي سيتم استخراجها نظرا لتزامن تلك الفترة مع العطلة الصيفية والتنقلات المرتبطة بها، فضلا عن موسم الانتخابات الرئاسية وما قد يتخللها من انشغال على المستوى الإداري وهياكل الدولة، مما يُعيق التركيز التام على هذه المرحلة الرئيسية في مسار التعداد العام. وفي نفس السياق، ستقتصر الفترة التكوينية للأعوان على شهريْن فقط (سبتمبر وأكتوبر)، وهي فترة قصيرة بالنسبة للتعداد العادي ناهيك عن تعداد يعتمد على وسائل رقمية جديدة تقتضي تكوينا أكثر كفاءة للأعوان المكلفين بالعملية. ليتمّ العدّ الفعلي “خلال الثلاثي الرابع” من السنة، وتحديدا في شهريْ نوفمبر وديسمبر.

ويطرح محتوى الاستمارة التي سيتمّ الاعتماد عليها محاور جديدة  للنقاش كذلك، في انتظار ما ستُحدده اللجنة الوطنية للتعداد العام الثالث عشر للسكان والسكنى واللجان الفنية الاستشارية المنبثقة عنها حول هذا الموضوع حسب ما ضبطه الفصل الثامن من الأمر المتعلق بالتعداد.  وقد سبق للمعهد الوطني للإحصاء أن اقترح تعديل الاستمارة  لكي تصبح بصيغة أكثر اختصارا مع الحفاظ على العناصر الأساسية. وتحتوي الصيغة الحالية المقترحة لتعداد سنة 2024 على خصائص الوحدة السكنية وقائمة أفراد الأسرة والإرشادات الديمغرافية والتحرك والهجرة والإرشادات التربوية والتكوينية والنشاط الاقتصادي إضافة إلى التغطية الصحية والاجتماعية والصعوبات البدنية والذهنية والحسية والتنقل للشغل والدراسة. ويتيح محتوى الاستمارة في صيغته الحالية عديد المعطيات التي يُمكن الاستفادة منها مُستقبلا في عمليات المسح التي يقوم بها المعهد على مستوى دراسة بعض المؤشرات الاجتماعية، إلا أن ذلك لا يُعدّ كافيا لقياس اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية. إذ أنّ الأسئلة تقتصر على التجهيزات المنزلية التي يمتلكها المستجوبون كمؤشر على المستوى الاقتصادي دون توجيه أسئلة شاملة وحصرية حول الدخل والملكية. ومثل هذه المعطيات مطلوبة لدراسة تركز الثروة ومؤشرات الدخل بشكل دقيق خصوصا وأن الفصل 5 من القانون عدد 32 لسنة 1999 ينص على حظر استعمال المعلومات الشخصية ذات الصبغة الاقتصادية أو المالية المدونة باستمارات المسوحات الإحصائية لغايات ذات علاقة بالمراقبة الجبائية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وفي جانب مهم آخر، يمكن تضمين أسئلة حول الاستهلاك والتغذية لتقديم مؤشرات حول التحوّل في العادات الغذائية لدى التونسيين وارتباطها بالتحولات على المستوى الاقتصادي، أو بعض الأسئلة الأخرى حول الاستهلاك الطاقي واستخدام الطاقات المتجددة. ومن الضروري على إثر ذلك تطوير عمل المعهد في اتجاه “بعدي” عبر تقديم بيانات تحليلية تنطلق من المعطيات الموجودة بشكل دقيق للارتكاز عليها في المخططات التنموية في ما بعد، وهو ما يتطلب إمكانيات بشرية وتقنية لا يبدو أنها متوفرة بالشكل الكافي في الوقت الحالي.

عموما، وفي سياق الحكم الفردي وغياب السلط المضادّة، ومنطق “فرض الوصاية” من السلطة التنفيذية على منهجية عمل المعهد الوطني للإحصاء عموما وعلى التعداد السكاني العامّ بوجه خاص، يُمكن مساءلة التعداد القادم على عديد المستويات. من بينها مؤشر قدرة الدولة على ضمان شفافية العملية وسط نزعة متزايدة لتطويع المعلومة خدمة لغايات صانع القرار الذي ارتأى القفز على مختلف العوائق التقنية والتشريعية للقيام بتعداد لم يتسنّ ضبط شروطه وتوفير الإمكانيات له بشكل كافٍ. من بين المؤشرات في هذا الصدد، ما ضبطه الأمر المتعلق بالتعداد حول طريقة اختيار أعضاء المجتمع المدني الممثلين في اللجان الجهوية للتعداد (اقتراح من والي الجهة) وفي اللجنة الوطنية (اقتراح من مدير المعهد الوطني للإحصاء)، مما يطرح السؤال حول استقلالية المجتمع المدني الممثل وجدوى تواجده في اللجان، طالما كان يمرّ عبر تزكية من السلطة التنفيذية. وتزخر الأمثلة المقارنة بمحاولات وضع اليد أو الصنصرة أو التوجيه لعمليات الإحصاء، حتى في دول أكثر ديمقراطيّة مثل الهند، حيث تقرّر السلطة عدم نشر تقارير إحصائيّة لا توافق مُخرجاتها سرديّتها حول النجاح الاقتصادي[3]. وتصور أي شكل من “المرور بقوة” على المعطيات الناتجة عن عمليّة التعداد في المثال التونسي ليست بالأمر المستغرب، في ظل منهجية عبثيّة وانفراديّة في تسيير الدولة، لا تُعير للأرقام أهمية إلا في ما يخدم مصالحها المباشرة.


[1] الأمر عدد 183 لسنة 2024 مؤرخ في 4 أفريل 2024 يتعلق بتنظيم التعداد العام الثالث عشر للسكان والسكنى

[2] Mouna Zgoulli, La réforme juridique de l’activité statistique en Tunisie, Statéco n°113, 2019.

[3] Rukmini S, Whole numbers and half truths, what data cannot tell us about modern India, NTXT, 2021 p. 154.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني