التسويق لاستقرار الأسعار: الدّعاية المُضلِّلَة


2024-04-16    |   

التسويق لاستقرار الأسعار: الدّعاية المُضلِّلَة

حافَظَت نسبة التضخّم عند الاستهلاك العائلي لشهر مارس 2024، على نفس المستوى الذي تمّ تسجيله في شهر فيفري البالغ 7.5%. تبقَى هذه النسبة مرتفعة رغم تباطؤ التضخّم على امتداد سنة منذ تسجيله مستوى قياسي في شهر فيفري من السنة الفائتة بـ 10.4%. يبدو استقرار النسبة بين شهري فيفري ومارس للكثير منّا غير واقعي، باعتبار أنّ شهر فيفري شهدَ موسم التخفيضات بينما يتوافق شهر مارس مع شهر رمضان الذي يتميّز بذروة استهلاك موسميّ في الموادّ الغذائيّة والألعاب والملابس والأحذية والنّقل. يُرِجعُ المعهد الوطني للإحصاء في البيان الذي أصدره في الغرض، هذا الاستقرار إلى النسق المستقرّ لارتفاع أسعار الموادّ الغذائّية بحساب الانزلاق الشهري بـ 10.2%. بالإضافة إلى تراجع وتيرة ارتفاع أسعار الأثاث والتجهيزات والخدمات المنزلية الذي بلغ 6.4% خلال شهر مارس مقابل 6,7% في شهر فيفري.

يتمّ التّرويج لمغالطة مفادها أنّ استقرار نسبة التضخّم يعني استقرار الأسعار، وهو شكل من أشكال التَّضليل، لأنّ التضخّم هو المعدّل العامّ للارتفاع المتواصل للأسعار بين فترات زمنيّة مختلفة وبالتالي فهو مؤشٍّر على نسق الارتفاع. ليس للتضخّم معنى بشكل مجرّد في الواقع المادّي للأفراد من دون ربطه بمؤشّر أسعار الاستهلاك العائلي. شهدَ مؤشّر الأسعار بحساب الانزلاق الشهري ارتفاعا ملحوظا بنسبة 0.7% بعد الارتفاع على التوالي بنسبة 0.2% في شهر فيفري و0.6 % في شهر جانفي. وفق البيان المذكور للمعهد الوطني للإحصاء، يُعزَى الارتفاع أساسًا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة بـ 1.2% والملابس والأحذية بنسبة 1.1% والسّكن والطّاقة المنزليّة 0.7%. وقع إرجاع التطوّر الشهري الكبير في أثمان سلّة المواد الغذائية إلى ارتفاع الطّلب في شهر رمضان، لكنّه لا يمثّل السّبب الأصلي وراء تقلّب أسعار هذه السلّة، فبالعودة إلى بيانات المرصد الشهريّة في السّنتين الأخيرتين نلاحظ المنحى التّصاعدي المُلفِت لأسعار المواد الغذائيّة التي ارتفعت في الثلاثيّة الأولى للسّنة الحالية بـ 10.8% مقارنة بالثلاثيّة الأولى من السنة الفارطة على غرار جميع الموادّ الأساسيّة الأخرى مثل الملابس والأحذية والصحّة والتّعليم التي فاقت نسبة ارتفاعها معدّل التضخّم.

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

ورغم الارتفاع المستمر في حركة الأسعار وفق المؤشّرات الرسميّة، فإنّها لا تعكس فعليّا مستوى التضخّم الحقيقي. يقوم تحديد مؤشّر أسعار الاستهلاك العائلي على تصنيف سلّة من مختلف المنتوجات في إطار مجموعات (مثل ما هو مبيّن في الجدول السّابق) وفق عمليّة ترجيح ( الأوزان/  Les pondérations) أي إسناد نسبة مئويّة لنصيب كلّ مجموعة من مجمل الإنفاق الأسري بناءً على المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر الذي يقوم به المعهد الوطني للإحصاء كلّ 5 سنوات. يعتمد المعهد حاليا على نتائج المسح لسنة 2023، ويبدو أنّ منهجيّة المسح لا تأخذ بعين الاعتبار التّحوّلات المستمرّة والمُتسارعة لنمط الاستهلاك جرّاء هيمنة النزعة الاستهلاكيّة بشكل عامّ وتأثير مستوى الدّخل ومستوى الأسعار على الإنفاق وندرة السّلع بشكل خاصّ. على سبيل المثال، تنفق الأسر التونسيّة 45.2% من مداخيلها في الموادّ الغذائيّة والسّكن (بنسبة 26.2% للغذاء و19% للسّكن) والماء والطّاقة المنزليّة والتي تُعتبر مصاريف إجباريّة. تبدو هذه النسبة غير واقعيّة بالنّظر إلى أنّ نسق تطوّر الأجور أدنى من نسق الارتفاع العام للأسعار ما يؤدّي ضرورة إلى ارتفاع الإنفاق ماليّا وليس كميّا على الأساسيّات كالغذاء والسّكن والماء والطاقة المنزليّة مقابل التخلّي عن عادات استهلاكيّة أخرى، ما يجعلها تستحوذ في الواقع على نسب أعلى من النسب الرسميّة المعتمدة. وللإشارة، كانت مسألة الترجيحات خاضعة للتوظيف السّياسي في نظام بن علي نظرا للرّهان السّياسي-الاجتماعي لموضوع الأسعار، لأنّ الحفاظ على نسب منخفضة في الإنفاق على مجموعات المواد الأساسيّة يؤدّي إلى الحصول على نسب تضخّم منخفضة مقارنة بالواقع، وبالنّظر إلى الأرقام والمنهجيّات المعتمدة لا نعتقد في انتهاء زمن التوظيف السّياسي.

مؤشّر التضخم كمدخل لتهميش المضمون الاجتماعي

يَصلُح قيس مؤشّر التضخّم -وفق الفكرة الشائعة ضمن المنظومة الرأسماليّة- في تحديد السّياسة النقديّة التي ستؤثّر على سعر صرف العملة مقابل العملات الأجنبيّة. وهكذا يتمّ تهميش مضمونه الاجتماعي، لأن تتبّع حركة الأسعار يُمكّن من معرفة قيمة العملة أو قوّتها الشّرائيّة عند الإنفاق الأسري، أي يرصد كلفة العيش. فالتضخّم ليس لديه تأثير على كلفة عيش الأغنياء لأنّه لا يؤثّر على عاداتها الاستهلاكيّة لأنّ حجم مواردها لا يضطرّها للقيام بعمليّة اختيار استهلاكي حسب الأهميّة الحياتيّة للسّلع، بينما يُجبر أصحاب الدّخل المحدود على تغيير نمط استهلاكهم ابتداءً من الموادّ الأساسيّة وفق ترتيب الأولويّات لمجابهة الزّيادة في الأسعار، وينعكس ذلك سلبًا على جودة وكميّة المنتجات التي يستهلكونها. 

هنا لا بد من الإشارة إلى أنّ التضخّم ليس هو نفسه القدرة الشّرائّية عكس الاعتقاد الشّائع. إذ تمثّل القدرة الشرائية كميّة السّلع والخدمات التي يمكن شراؤها بدخل محدّد حسب مستوى الأسعار. في هذا السّياق، لا يؤدّي ارتفاع الأسعار ضرورة إلى تراجع القدرة الشرائيّة إذا كان نسق تطوّر المداخيل يتجاوز نسق تطوّر التضخّم. يسري ذلك على أصحاب الأعمال في القطاعات التي ما انفكّت تُسجّل فائض ربح عالٍ على غرار الكارتيل البنكي. فقد حقّق 12 بنكا في السّداسي الأوّل من السّنة الفائتة زيادة سنويّة في المرابيح قدّرت بـ 18.5% وهو ضِعف معدّل التضخّم. 

هذه الصّورة تَنعكس بالنّسبة لطبقة الأجراء، فحسب الاتّفاق الثنائي بين الحكومة والاتحاد العامّ التونسي للشغل -تمّ توقيعه في سبتمبر 2022- حُدّدَت نسبة الزّيادة العامّة في الأجور بالنسبة للقطاع العام 5% سنويّا من أكتوبر 2022 إلى غاية أكتوبر 2025. بينمَا أقرَّ الإتّفاق المتعلّق بالقطاع الخاصّ الممضَى بين اتّحاد الشّغل والاتّحاد التونسي للصّناعة والتجارة والصناعات التقليدية -تمّ توقيه في جانفي 2022- زيادة عامّة في الأجور الأساسيّة (لا تشمل المنح) في القطاعات الخاضعة لاتفاقات مشتركة فقط تقدّر بـ 6.5% بعنوان 2022 وبـ 6.75% بعنوان 2023 و2024. في المقابل كان معدّل نسبة التضخّم لسنة 2023 في حدود 9.3% و8.3% سنة 2022، وحَسب توقّعات صندوق النقد الدولي سيكون معدّله السّنوي في حدود 8% بالنسبة للسّنة الجارية. يعكس الفارق بين تطوّر الأجور ومعدّلات التضخّم التّراجع المتواصل للقدرة الشّرائيّة للأجراء، لكنّ هذه الأخيرة تشهد تقهقرا يتجاوز بكثير الفارق الحسابي بسبب عوامل أخرى لا يتمّ أخذها بعين الاعتبار، على غرار أنّ الزّيادة العامّة في الأجور ليست صافية (خاضعة للاقتطاعات الإجباريّة)، والتّفاوت الكبير في سلّم الأجور بين القطاعين العام والخاصّ وداخلهما، علما وأنّ جزءًا كبيرا من أصحاب الأعمال في القطاع الخاصّ لا يَحترم اتفاقات الزيادة في الأجور. وبشكل عامّ يمثّل مؤشّر القدرة الشّرائّية معدّلا عامّا يهمّش فاقدي الدّخل والشّريحة الواسعة التي تعيش على المساعدات الاجتماعيّة الزّهيدة والبالغة قرابة المليون عائلة.

البنك المركزي وتهافت أطروحة التضخم النقدي

في آخر اجتماع له، بتاريخ 2 فيفري 2024، قرّرَ مجلس إدارة البنك المركزي الإبقاء على نسبة الفائدة المديرية في حدود 8% لاعتباره أنّ المسار المستقبلي للتضخّم لا يزال محاطا بمخاطر تصاعدية. ومنذ تكريس استقلاليّة البنك المركزي سنة 2016، قفزتْ نسبة الفائدة المديريّة إلى حوالي الضّعف (ارتفعت من 4.25% إلى 8%) بتوصيات من صندوق النّقد الدّولي. ما زال البنك المركزي متشبّثا بأطروحة الصّندوق التي تعتبر التضخّم نقديّا بالأساس، وأنّ معالجته لا تكون إلاّ عبر آليّة نسبة الفائدة المديريّة. فقد ذكر في البلاغ الذي أصدره في الغرض أنّ تباطؤ التضخّم يعود إلى التّراجع التّدريجي للطّلب الدّاخلي، والذي أدّى بدوره إلى تراجع نسق نموّ الواردات. وكأنّ مجلس البنك المركزي لا يشاطرنا نفس الواقع في معاينة ندرة العديد من المنتوجات في السّوق التّونسيّة، وبالأساس الموادّ التي تحتكر الدّولة توريدها مثل القهوة والسّكر والحبوب والأرز والتي أصبح المستهلك يتزوّد بها من السّوق الموازية بأضعاف أسعارها الأصليّة. فالبنك المركزي الذي ترتكز سياسته النقديّة على هدف وحيد يتمثّل في مكافحة التضخّم، لم ينجح في كبح التضخّم في الخدمات الماليّة التي ارتفعت بـ13.8% باحتساب الانزلاق السّنوي، أي في القطاع المالي الذي يشرف عليه بشكل حصري. ويعود ذلك بالخصوص إلى أنّ المؤسّسات الماليّة أثقلتْ الإتاوة الظرفية بـ 4% على مرابيحها -التي تضمّنها قانون المالية بغرض دعم ميزانية الدولة- على كاهل حرفائها.

يشهَد الاقتصاد الحقيقي حالة إهمال متواصلة من السّلطة السّياسيّة والبنك المركزي على حدّ سّواء. إذ أن الطّرَفَين لا يعترفان بحالة اختلال الأسواق نتيجة نقص العرض بسبب تراجع التّوريد وضعف الإنتاج المحلّي خاصّة في الموادّ الفلاحيّة، بالإضافة إلى ارتفاع الضّغط الجبائي الذي يُمثّل أحد الأسباب المساهمة في الترفيع في الأسعار. علاوة على ظاهرة الاحتكار والتهريب وضعف الرّقابة وتنظيم الأسواق. فاستقرار الأسعار مهمة مشتركة بين الطّرفين بعيدا عن حصر التضخّم في الجانب المالي من البنك المركزي وفي الاحتكار من جانب السّلطة السّياسيّة.

يُمثّل التضخّم المرتفع خطرا على الاقتصاد لأنّه يضرب منظومة الإنتاج المحلّي ويوسّع قاعدة الفقر. في هذا الصّدد اتّخذت دول عدّة إجراءات عاجلة لتخفيض الضّغوط التضخميّة التي تلت جائحة الكوفيد-19 والحرب الأوكرانيّة الرّوسيّة على غرار خفض الضّرائب والتحويلات المباشرة للأفراد والشركات الصّغرى ودعم القطاع الفلاحي وتسقيف أو تجميد بعض الزّيادات في أسعار بعض المنتوجات الأساسيّة كالمحروقات والموادّ الغذائيّة. في المقابل، تتصرّف الحكومة التّونسيّة بشكل اعتباطي يضرّ بالإنتاج الوطني. إذ بحجّة تعديل السّوق، قامت مؤخّرا وزارة التّجارة باستيراد كميّات من لحوم الأبقار المجمّدة لم يكن لها أيّ تأثير في كبح الارتفاع المشطّ للحوم الحمراء (ارتفاع سعر لحم الضأن بـ 22% ولحم البقر بـ 13.6% حسب الانزلاق السّنوي). وكان الأجدى بالحكومة إيجاد حلول حقيقيّة تنقذ الإنتاج الحيواني من الانهيار. وضمن نفس الحجّة قامت الوزارة بتوريد كميّة من الموز رغم أنّه لا يمثّل مادّة أساسيّة ويمكن الاستغناء عنه. كَلَّفت هذه السّياسة العشوائيّة خسارة البلاد العملة الصّعبة من دون مردوديّة تُذكر، سوى مزيد من الأرباح للمورّدين الذي تحصّلوا على الصّفقات.

في ظلّ الارتفاع العام والشّهري للأسعار وضعف الأجور، يَتخبّط التّونسيّون في مجاراة المصاريف اليوميّة وهو ما يجعلهم غارقين في دوّامة السَّحب على المكشوف أو ما يعرف بــ”rouge” وهي الحسابات البنكيّة الجارية المدينة للبنوك على المدى القصير والتي بلغت قيمتها الجمليّة (أفرادًا وشركات) 9.336 مليار دينار إلى آخر شهر نوفمبر 2023، حسب معطيات البنك المركزي. زيادة على السّحب على المكشوف، تُعاني الأسر التّونسيّة من مديونيّة مجحفة، إذ أنّ نسبة القروض البنكيّة على المدييْن المتوسّط والطّويل، والتي تمسّ 43% من الأسر التونسيّة، تضاعفت بين 2015 و2022 من 26.3 مليار دينار إلى 55.3 مليار دينار بسبب القروض الاستهلاكيّة وفق المعهد الوطني للإحصاء. وبذلك تَدور الأسر التّونسّية في فلك التّداين الذي يُرافقها إلى سنّ التّقاعد أو ما بعده، ما يجعل من الاقتراض أحد أشكال العبوديّة الحديثة المنمّقة بشعارات الحريّة الاقتصاديّة والتي وفّرت للبنوك سنة 2022 فقط، عائدات بقيمة 4365 مليون دينار نتيجة الفوائض والعمولات التي تُوظفها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حقوق المستهلك ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني