البلديات في أفق التصحيح: طبق يُلتهم على مهل


2022-05-04    |   

البلديات في أفق التصحيح: طبق يُلتهم على مهل

بتاريخ 22-04-2022، عمّم وزير الداخلية توفيق شرف الدين برقية بشأن “تنظيم التراسل بين الهياكل المحلية والجهوية والمركزية”. استنادا إلى هذه البرقية، أصدر الولاة كل في إطار مرجع نظره الترابي برقيات للبلديات تطالبها باعتماد التسلسل الإداري في كل تراسل لها مع المصالح الحكومية ومنها وزارة الداخلية مع التلويح بأن عدم احترام تلك الشكلية ينجر عنه عدم الاعتداد بها واعتبارها في حكم المعدوم. بعد أيام، ردّت الجامعة الوطنية للبلديات في بيان صدر عنها بتاريخ 29-04-2022 أن البلديات ليست من قبيل المصالح الإدارية الجهوية والمحلية التي تخضع للسلطة الإدارية للولاة وأنها مؤسسات تتمتع بالاستقلال الإداري ولذلك فهي لن تطبّق ما طلب منها لمخالفته للدستور ومجلة الجماعات المحلية. وكشفت البلديّات عن نيّتها الطعن في برقية الوزير أمام القضاء الإداريّ. ومن البيّن لمن يتابع تطوّرات الوضع السياسي التونسي أن الإشكال القائم ليس مجرّد نقاش بيروقراطي موضوعه شكليات التراسل الإداري، إنما هو محطة جديدة في إطار صراع يخوضه نظام الرئيس سعيّد مع البلديات التي لا مكان لها في نظامه البديل الذي يخطّط لإرسائه. وهذا ما يفسّر تجنّد الولاة للفتك بها.

السلطة المحلية: المكسب الديموقراطي الذي لا يوافق هوى “صاحب البناء القاعدي”

خصّص الدستور التونسي بابه السابع للسلطة المحلية التي عرّفها بأنّها “تقوم على أساس اللامركزية وتتجسد في جماعات محلية، تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون.”[1] وقد جعل من الانتخاب قاعدة اختيار مجالسها التي أسند لها صلاحيات واسعة في ممارسة صلاحياتها قوامها “قاعدة التدبير الحرّ”، ملزما إياها بممارسة الديموقراطية التشاركية. ويجدر التشديد هنا بأن السلطة التأسيسية أبدتْ في هذا الشأن حرصا على بناء المجتمع الديموقراطي حين أقرت بما سمّاه مجلس الدولة الفرنسي الحريات الأساسية للجماعات المحلية[2]، وقطعت على مستوى المبادئ مع ما كان من وصاية للسلطة المركزية وامتدادها الجهوي أي سامي الإطارات الجهوية من ولاة ومعتمدين على الإدارة اللامركزية تحت مسمى سلطة الاشراف.

خلال مدة العهدة التشريعية الأولى، أثرى الحديث عن هذا المكسب الفضاء الحقوقي. لكن في المقابل، لم تبرز في جانب السلطة السياسية أيّة حماسة لفكرة إرسائه بداعي الخوف على وحدة الدولة. وحينها كان لضغط المجتمع المدني المناصر للديموقراطية المحلية دور بارز في إنهاء ما ظهر من تردد وفي فرض الإصلاح والذي كان في جانب منه وفق شروط المركز والتي من أهمها اعتماد سياسية المراحل في تركيز مؤسساته. وقد عكست الانتخابات البلدية لسنة 2018 ومجلة الجماعات المحلية التي صدرت في ذات السنة 2018 هذه الروحية التي زاوجت بين المضي في المسار والتدرج في ذلك. فقد تمّ في إطارهما تحقيق ما هو مطلوب من تغطية كاملة للتراب الوطني بالبلديات وإجراء انتخابات بلدية وفق نصّ قانونيّ يعترف باستقلالية البلدية ويكرّس قيمة التدبير الحر في ذات الحين الذي تمّ فيه إرجاء بقية مراحل بناء السلطة المحلية لمواعيد لاحقة كان ينتظر أن يكون في طليعتها تركيز المجلس الجهوية خلال فترة العهدة النيابية الثانية. وهو الأمر الذي أنهت إجراءات 25 جويلية كلّ امل في حصوله لما تبين من رفض في جانب من بات الحاكم المطلق لتونس بعدها لفكرة التدبير الحرّ وربما لمبدأ اللامركزية مرده إصراره على تركيز نظام حكمه البديل الذي لا مكان فيه لغير مجالسه.

سعيّد يرفض التدبير الحر..

بداية عهده الذي اختار له اسم تصحيح المسار، بشّرت مواقع التواصل الاجتماعي التي يديرها أشخاص يعرفون أنفسهم بأنهم مناصرون، بقرب صدور مقرّر يحلّ المجالس البلدية. وبدا الأمر حينها غير مستبعد لتزامنه مع حديث من الرئيس سعيد بعبارات تدلّ عن عدم الرضاء عنها. ومن الأدلة على ذلك التصريح الذي أدلى به بتاريخ 26 -07-2021 في لقاء جمعه بممثلي أهمّ المنظمات الوطنيّة[3] حيث جاء حرفيا: “إن الخطر داهم بالنسبة للمرافق العمومية يتصرفون فيها كما يشاؤون. الدولة غائبة في بعض المناطق. بعض رؤساء البلديات وضعوا الحجارة في الطريق باسم التدبير الحر.. بالنسبة لبعض المناطق الأخرى هذا تابع لهذا الحزب والآخر لهذا اللوبي.. ” .

في مرحلة ثانية، أسند الرئيس لذاته بموجب الأمر عدد 117 صلاحيّة التدخّل بالمراسيم في “السلطة المحلية”[4]. ولكن لم تسجّل أيّ مبادرة منه في هذا الاتجاه. بل على نقيض ذلك أصدر نهاية 2021 وبداية 2022 أوامر بإجراء انتخابات بلدية جزئية[5] بما دلّ عن عدم استعجاله إعادة النظر بالتصور الدستوري لتنظيم البلديات. لكن يبقى أن هذا التصور يتعارض تماما مع مشروعه حول نظام الحكم البديل والذي أطلق خريطة طريق ارسائه لاعتبارات متعددة من أهمها:

  • أنه يستعيض عنها على المستوى المحلي بمجالس محلية وعلى المستوى الجهوي بمجالس جهوية وجميعها تندرج في إطار ما يقول أنه مسار التصعيد لبناء المجلس التشريعي الوطني،
  • أنه يعتزم إرساء نظام رئاسي قوي لا مجال فيه لتفتيت السلطة الذي يعتبره عنوان عبث بالدولة،
  • أنه يعادي الأحزاب ويعتبرها عنوان فساد يجب التخلّص منه. وبالتالي فلا يتوقع منه أن يترك البلديات والمجالس الجهوية لتكون مجالا لصناعة كوادرها والوصول لقواعدها عبر خدماتها.

وقد يكون مردّ عدم استعجاله في تقويض التصور الدستوري لتنظيم البلديات هو تجنّب ما قد ينجرّ عن ذلك من ردود أفعال على الصعيد المحلي والحاجة لعمل يعتمد قاعدة القرب من الجهة. وهو ما تشي به برقية وزير الداخلية وقرائن أخرى سبقتها بأن الولاة من سيتكفلون بإرساء التصوّر الجديد.

معركة البلديات: مهمة ولاة الرئيس وهدف عملهم

في سياق أكد الالتزام بتكريس الحكم المحلي، استحدثت سنة 2016[6] وزارة الشؤون المحلية التي حُدد هدف لعملها قوامه “إعداد وتنفيذ مسار إرساء نظام اللامركزية بكامل تراب الجمهورية وفقا للدستور والتشريع النافذ بالتنسيق مع كافة الهيئات والهياكل العمومية ذات العلاقة وتعمل على تطوير قدرات الجماعات المحلية وتأهيلها للاندماج في هذا المسار”[7]. وفي إطار القطع معه، لم يعيّن الرئيس سعيّد في مرحلة أولى من بين أعضاء حكومته وزيرا لها وأصدر في مرحلة ثانية أمرا يحذفها وأحال مصالحها لوزارة الداخلية[8] بما كان يعني توفير الإطار المؤسساتي الملائم لاستعادة وصاية تلك الوزارة على البلديات. وهو الأمر الذي تكفّل في مرحلة أولى ولاة الرئيس بتحقيقه بمبادرات خاصة منهم وانتهى مؤخرا ليكون موضوع سياسة عامة ضبطها الوزير..إذ يذكر أن “سمير عبد اللاوي” والي بنزرت والذي يعتبر أول الولاة الذين عيّنهم سعيد من بين أنصاره وممن عرفوا بمساندتهم لمشروعه كان أول من بادر لمحاولة فرض سلطة له على البلديات. وهذا ما نستشفه بشكل خاصّ من المراسلات التي وجهها بتاريخ 20-01-2022 لرؤساء بلديات والتي طالبهم فيها بأن يذكروا في كل وثائقها وزارة الداخلية كسلطة إشراف وأن يعتمدوا في كل مراسلاتهم التسلسل الإداري. وقد واجه حينها تصدّيا من رئيس بلدية بنزرت الذي ردّ عليه بمراسلة مماثلة ذكّره فيها بضرورة احترام استقلالية البلديات. في الاتجاه نفسه، اتّهم رئيس جامعة البلديات عدنان بوعصيدة بداية ففري 2022 والي بن عروس “عز الدين شلبي” المعروف أيضا بقربه من الرئيس بكونه يسعى لتأليب أعضاء مجالس بلدية لغاية خلق أزمات تسيير داخلي بها. كما يجدر التذكير بمحاولة المعتمد الأول لولاية قابس المكلف من الرئيس سعيد بتسييرها الاستحواذ على إدارة بلدية قابس على خلفية  إشكاليات في تسييرها. وهنا كان لغياب الإطار القانوني ومقاومة بلديات ذات ثقل سكاني هامّ دور في احباط المحاولات غير المؤطرة من الولاة.

وربما كان ذلك ما استدعى تدخل الوزير المتحدث عنه أعلاه  والذي استحدث إطارا قانونيا لفرض تبعية البلديات للولاة يكون منطلق منعهم من التواصل مع مؤسسات الدولة من دون رقابته وإذنه. وهو أمر يستدعي السؤال عن مشروعيته بالتالي عن قدرة القضاء الاداري على الاضطلاع بدوره في حماية السلطة المحلية.

سؤال المشروعية: أي موقف للمحكمة الإدارية؟

في استحواذه على السلطة السياسية ومسار حله لمؤسسات الدولة خارج كل تخويل دستوري، استفاد الرئيس سعيّد من مقولة أنه رئيس الدولة وصاحب صلاحية تأويل دستورها في غياب المحكمة الدستورية. أمر لم يتوفر لمعتمد أول قابس الذي صدّت المحكمة الإدارية في فرعها الجهوي بقابس تعسفه على التشريع. وتكشف هذه المقارنة عن كون المسار الناعم للاستيلاء على البلديات قد يصطدم بقضاء المشروعية الذي يبدو اليوم في مركزه وعلى مستوى رئيسه الأول مطالبا بإبداء موقفه من السؤال حول استقلالية البلديات وضمانات تحقيقها والذي كان قد قال فيه رأيه في الجهات.


[1]  فصل 131 من الدستور.
[2]  للتعمق في الموضوع يراجع ” التدبير الحر والانتقال الديموقراطي في تونس : قراءة نظرية في المفاهيم والتقاطعات ” شاكر الحوكي – اعمال ملتقى التدبير الحر للجماعات المحلية الذي انتظم بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس 28 و29 نوفمبر 2019 .
[3] وهم  نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، وسمير ماجول، رئيس الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة والصناعات التقليدية، وإبراهيم بودربالة، رئيس الهيئة الوطنية للمحامين، و عبد المجيد الزار، رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، و راضية الجربي، رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، و نائلة الزغلامي، رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.
[4] أمر رئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرخ في 22 سبتمبر 2021 يتعلق بتدابير استثنائية
[5]   تخص بلديات طبرقة (ولاية جندوبة) وأزمور (ولاية نابل) والقلعة الكبرى (ولاية سوسة) وساقية الزيت والشيحية (ولاية صفاقس)
[6]  بموجب أمر حكومي عدد 365 لسنة 2016 مؤرخ في 18 مارس 2016 يتعلق بإحداث وضبط مشمولات وزارة الشؤون المحلية
[7]  الفصل 3 من الامر المذكور أعلاه
[8] أمر رئاسي عدد 197 لسنة 2021 مؤرخ في 23 نوفمبر 2021 يتعلق بحذف وزارة الشؤون المحلية وإحالة مشمولاتها وإلحاق هياكلها المركزية والجهوية بوزارة الداخلية
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني