اللامركزية في الدستور التونسي لسنة 2014: الوعود والحدود


2015-08-11    |   

اللامركزية في الدستور التونسي لسنة 2014: الوعود والحدود

جاء دستور 27 جانفي 2014 بأربعة عشر فصلا حول اللامركزية. وكان دستور غرة جوان 1959 تضمن فصلا “يتيما” بشأن التنظيم الترابي للدولة التونسية وهو الفصل 71 الذي جاء فيه: «تمارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية المصالح المحلية حسب ما يضبطه القانون.»

ويدعو هذا الأمر إلى التساؤل عمّا إذا كان الفارق بين الدستورين كمّيا محض أم أنه يعكس تغيّراً نوعياً في مقاربة اللامركزية؟ والإجابة على هذا السؤال ترتبط بسؤال آخر لا يقلّ أهمية ويتعلّق بمدى توفّر الإمكانيات المالية والمؤسساتية الضرورية لتجسيد هذه اللامركزية في تونس. فهل يدرك المواطنون التونسيون مقوماتها؟ وهل هم مستعدّون ثقافيا لقبول وإنجاح مثل هذا المشروع حتى يكون فعلا آلية لتجسيد ديمقراطية محلية قادرة على تحقيق آمالها وليس وسيلة لتصفية حسابات بين جهات معينة أو بين بعض الجهات والمركز ولتفكيك أوصال الدولة؟

وقبل الشروع في الإجابة على هذين السؤالين، يجدر بنا التعرّض ولو بإيجاز إلى خصوصيّات التنظيم الإداري لتونس منذ الاستقلال وإلى طبيعة العلاقة التي كانت تربط السلطة المركزية ببقية أطراف الدولة.

وبالعودة إلى مناقشات المجلس القومي التأسيسي[1]، يمكن أن تلاحظ الحضور المبكّر والمتواتر في تونس لفكرة “الدولة القوية والنظام السياسي المستقرّ”. وهذا الأمر يفسّر تمسّك الدولة الفتيّة بنمط التنظيم الإداري الذي تركته الحماية الفرنسية.وهو تنظيم شديد المركزية تميّز باحتكار السلطة القائمة في العاصمة للقرار السياسيّ والاقتصاديّ، ذلك القرار الذي كانت تمرّره لأذرعتها المنتصبة في الجهات والبلديات والمتمثلة بالأساس في مؤسستي الوالي والمعتد واللتين اقترنتا في المخيال الجمعي بالفساد والمحسوبية والاستبداد.

وباعتبار الغياب التام طوال هذه المدة لحق البلديات أو غيرها من الجماعات المحلية في إدارة شؤونها واختيار أنماط تنميتها أو على الأقل المشاركة في ضبطها بسبب احتكارها من قبل السلطة المركزية، ترتّب على ذلك أمران:

أولهما اعتماد السلطة الحاكمة سياسة تميّزت بالتنكّر لخصوصيات الجهات ولحاجياتها التنموية بل انتهاج التمييز بينها سواء في توزيع الثروات أو في مجهود التنمية والبنى التحتية مما تسبّب في إيجاد شرخ بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية وبين الشمال والجنوب، وثانيها شعور أهالي هذه الجهات باغتراب تجاه العاصمة ومتساكنيها أو المحسوبين عليها بل بعداء تجاههم واعتبارهم جميعا رموزاً للاستبداد والظّلم والتمييز.
وهذا الشعور الذي امتدّ على عقود وتوارثته الأجيال هو الذي يفسّر المطالبة بإقرار التنظيم اللامركزي على النحو الذي سنعرضه وهو الذي يفسّر كذلك التمسّك بضرورة إقحام مبدأ التوازن بين الجهات ضمن المبادئ العامة[2]. كما سيكون له وقع على حظوظ نجاح مشروع اللامركزية الجديد كما سنحاول بيانه لاحقاً.

وعود الدستور: تدبير حرّ، ديمقراطية تشاركية وتضامن وتوازن بين الجهات

بقطع النظر عن حجم الفصول المخصّصة للامركزية في الدستور الجديد، يمكن الإقرار بأن هنالك إرادة للتحوّل بها في تونس. ونلمس ذلك أوّلا من خلال إيجاد ثلاثة مستويات لهذه اللامركزية والتي قدّمها الدستور على أنها دعم لهذا التنظيم الترابي. وهذا ما جاء في الفصل 14 منه والذي يتحدّث عن التزام الدولة بدعم اللامركزية وباعتمادها بكامل التراب الوطني. وتتمثل هذه المستويات الثلاثة في البلديات والجهات والأقاليم والتي يجب أن تغطّي كل واحدة منها كامل تراب الجمهورية.[3]

كما نلمس ذلك ثانياً من خلال بعض المفاهيم المستعملة، والتي لم يكرّسها دستور 1959 وأوّلها عنوان الباب المخصّص للامركزية وهو «السلطة المحلية» الذي يترتّب عليه الاعتراف للهياكل التي تدير الشؤون المحلية باستقلالية عضوية ووظيفية عن المركز. ويدعم مبدأ الاستقلالية هذا استعمال مفهوم “التدبير الحرّ” الذي ورد في الفصل 132 من الدستور[4].

وإن كانت عبارة “التدبير الحرّ” عامة ومن شأنها أن تؤوّل بطرق مختلفة لجهة سقف الاستقلالية المتاحة للجماعات المحلية في إدارة شؤونها والتصرّف فيها إلا أن الدستور أورد بعض مقوّماتها وآلياتها. ومن هذه المقومات والآليات، مبدأ إدارة الجماعات المحلية من قبل مجالس منتخبة إما انتخابا عاما حرّا سرّيا مباشرا نزيها وشفافا، بالنسبة للمجالس البلدية والجهوية، أو انتخابا غير مباشر، بالنسبة لمجالس الأقاليم[5] (الفصل 133). كما أسند الدستور للجماعات المحلية الشخصية القانونية[6] وهي ضرورية لاستقلالها الوظيفي الذي من خلاله يمكن لها التعاقد مثلا أو انتداب ما تحتاجه من أعوان وموظفين ضروريين لتسيير الشؤون المحلية أو الاقتراض واعترف لها بسلطة ترتيبية خاصة بها تمارس من خلالها صلاحياتها[7].

إلا أنه في هذا المستوى بالذات، يمكن أن ندرك بسرعة حدود هذا الإقرار لأن مداه وفاعليته سيبقيانرهن النصوص القانونية التي ستجسّده. فالدستور يحيل إلى المشرّع مهمة ضبط هذه الاختصاصات وتحديد النظام المالي للجماعات المحلية. إضافة إلى كون الدستور يتحدّث عن تمتّع الجماعات المحلية بصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية وصلاحيات منقولة إليها من قبل هذه الأخيرة وفق مبدأ التفريع تقترن بما يناسبها من موارد.

في ما يخصّ الصلاحيات التي ستؤثّث مبدأ الاستقلالية الوظيفية للجماعات المحلية، فإن مقاربة الدستور لها تترك المجال لقراءتين مختلفتين وبالتالي تسمح بإمكانية إنفاذها في اتجاهين مختلفين: إما استقلالية عريضة قد تسمح بإقلاع الجماعات المحلية نحو تنمية ذاتية مستدامة لكن قد تؤول كذلك إلى إغراقها بما لا تتحمّله امكانياتها، أو الإبقاء على نفس النزعة المركزية التي سيزيد في ثقلها تعقيد سلسلة القرار السياسيّ والاقتصاديّ وكثرة المتدخّلين فيه.

وبالفعل أقرّ الدستور في فصله 134 أن الجماعات المحلية تتمتّع بثلاثة أصناف من الصلاحيات أولها ذاتية وأخرى مشتركة وثالثة منقولة إليها من السلطة المركزية[8]. وأضاف في الفصل 135 أن للجماعات المحلية موارد ذاتية وموارد محالة إليها من السلطة المركزية ليضيف أن كل إحداث لصلاحيات للجماعات المحلية أو نقل لها من السلطة المركزية ينبغي اشفاعه بما يناسبه من موارد[9].

ويعني هذا أنّ حيّز الاختصاصات التي ستعود للجماعات المحلية بأصنافها الثلاث سيكون رهن السلطة المركزية بما أنه سيتمّ بقانون. وإذا كان حجم الاختصاصات المسندة لها هو الذي سيعكس مدى استقلاليتها، فإن هذه الأخيرة مرتبطة بالإمكانيات المالية الضرورية لممارستها الأمر الذي يتطلّب تقدير حجم الموارد المالية للجماعات المحلية لضبط ما سيسند لها من اختصاصات والذي يثير بدوره إشكالية تباين هذه الموارد من جهة إلى أخرى.

وهذا يعني أيضا أنه يمكن للسلطة المركزية أن تنتهج سياسة شحيحة بشأن ما سيحال إلى الجماعات المحلية من صلاحيات سواء بعنوان الاختصاصات الذاتية أو المنقولة وذلك بحجة أن ليس لهذه الجماعات الموارد المالية الكافية لممارسة أكثر من ذلك وأنه ليس للسلطة المركزية من الموارد ما يسمح لها بانتهاج سياسة سخية تجاهها. فيبقى الوضع على حاله ولا تحصل النقلة النوعية بخصوص اللامركزية فيضيق مجال التدبير الحرّ.

لكن يمكن للسلطة المركزية أن تجد بالعكس مصلحة في التخلّص من صلاحيات ترى فيها عبءاً عليها فتتركها للبلديات والجهات حتى يخفّ عنها ضغط المطلبية والاحتجاج. وتبعا لذلك يجب أن تفكّر الجماعات المحلية والمواطنون والمواطنات الراجعون إليها بالنظر مليّا قبل المطالبة بمزيد من الاختصاصات ومزيد من الاستقلالية. فلهذه الأخيرة ثمنٌ قد لا تقدر الجماعات المحلية على تحمّله. وبالتحديد قد لا تتكافأ كل الجماعات المحلية في قدراتها المالية والبشرية على تحمّلها بما قد يزيد في حدّة اختلال التوازن بين الجهات عوضا عن معالجته.

لكل هذه الأسباب ينبغي الوعي بأن اللامركزية تفترض قبل حزمة الاختصاصات التي تستقلّ بمقتضاها الجماعات المحلية، موارد مالية تفترضها استقلالية جبائية تقتضي هي بدورها قاعدة جبائية عريضة صلب الجهات والبلديات، أي وجود أنشطة ونسيج سكاني يمكن جبايته.

لكن السلطة التأسيسية عند وضعها الدستور توقّعت هذه الاشكاليات فكرّست لمعالجتها آلية التسوية والتعديل والمتمثلة في تحويل فائض الموارد المالية، إمّا من الميزانية العامة للدولة إلى الجهات والبلديات أو من الجهات والبلديات الغنية إلى الضعيفة منها بناء على مبدأ التضامن[10].
على أن تكريس هذا المشروع الطموح والموسّع والمعقّد للامركزية يتطلّب الوقتالطويللإنجازه.بل من الضروري تجنّب التسرّع في إنفاذه، لأنه يتطلّب تهيئة مناخ سياسي واجتماعي مؤات، ورصد الموارد البشرية والمالية وخصوصيات الجهات المعنية.

كما أن مشروع اللامركزية هذا يستدعي العمل على مجموعة متلازمة من القوانين الضرورية لإنفاذه والتي تتجاوز مجرّد قانون الانتخابات المحلية (البلدية والجهوية) الذي يشكّل المسألة التي استقطبت إلى حدّ الآن أكثر اهتمام السلطة القائمة والمنظمات غير الحكومية. فعلى خلاف هذا التوجه، القانون المحوري في هذا الخصوص هو دون شكّ ذاك الذي يتعلّق بالجماعات المحلية أي القانون الذي سيحدّد اختصاصات هذه الأخيرة سواء الذاتية منها أو المشتركة أو المنقولة وهو الذي سيضبط طبيعة العلاقة بين مختلف مستويات التنظيم اللامركزي أي من الأقاليم إلى الجهات إلى البلديات ثم مجالات تدخّل كل منها، كما سيرسم الحدود الجغرافية لهذه الجماعات المحلية. وعلى هذا الأساس، لا يعقل أن تنظم الانتخابات المحلية دون أن يعرف الناخبون ما هي بالتحديد السلطات الموكلة للأطراف التي سينتخبونها وما هي الجماعة المحلية التي سيرجعون إليها بالنظر.

وأخيراً وليس آخراً، ينبغي إعداد قانون الجباية المحلية التي يجب إعادة النظر فيها بشكل جذري بما تقتضيه اللامركزية الجديدة التي كما رأينا لا جدوى منها دون الموارد المالية الضرورية لتحقيق نتائجها ومقاصدها وهي التنمية والديمقراطية المحليتين.

مشروع محفوف بألغام

علينا الآن أن نتساءل هل أعددنا العدّة الضرورية لإنجاح هذا المشروع الجديد للتنظيم الترابي للجمهورية؟

ما يمكن ملاحظته إلى حدّ الآن هو التركيز على الجانب القانوني للامركزية والانكباب على إعداد النصوص المتصلة بها من خلال اللجوء إلى خبراء في القانون لكن بمقاربة تفتقر إلى الشفافية بل تعكس ضرباً من التكتّم من قبل السلطة السياسية[11] ويستدعي هذا الأمر ملاحظتين:

أوّلا: يتطلّب نجاح المشروع اللامركزي استبطان المواطنين المعنيين به له. وبالتالي، فإن الاستماع إلى انتظاراتهم أو توجّساتهم بهذا الشأن ضروري وإلا ستتمّ إعادة إنتاج نفس الرّفض لهذا التنظيم وللقائمين عليه.

ثانيا: اللامركزية ليست شأنا قانونيا صرفا. بل بالعكس، تمثل المهارات القانونية آخر المتدخّلين لإنجازه بعد جمع كل المعطيات الميدانية والقيام بتشخيص الواقع الاجتماعي والديمغرافي والعمراني والاقتصادي. ولهذا السبب، من الضروري تجنيد كل الخبرات في الاقتصاد وفي التهيئة العمرانية وفي العمران البشري وفي علم الاجتماع والاقتصاد وغيرها من الاختصاصات لجمع المعطيات الضرورية لاستراتيجية جادة لإنجاز المشروع اللامركزي. فاللامركزية تتجاوز بكثير مجرّد تنظيم إداري بأدوات قانونية إذ هي تنظيم يقوم على توفير ظروف وعناصر ديناميّة تنموية تستدعي فضاء ونسيجا اجتماعيا متكاملا وقيم تكفل الترابط بين مكوناته وموارد. وبالتالي، ينبغي إدراك أن نجاح اللامركزية لا يمكن أن تؤمّنه توافقات سياسية تكون في قطيعة مع الميدان ومع شروط الحدّ الأدنى من الاكتفاء الذاتي للوحدات اللامركزية. فمن دون هذه العناصر، لن تتمكّن هذه الوحدات من إدارة شؤونها وفق مبدأ التدبير الحرّ، إنما ستبقى رهن المساعدات التي سيمدّها بها المركز أو الجماعات العمومية المحلية الأخرى الأكثر ثراء.

وإلى جانب هذه الإشكالية المتعلقة بمنهجية العمل لإنجاز المشروع اللامركزي، هنالك سلسلة من المخاطر تحفّ به من بينها:

–         الإشكال الذي يطرحه التقسيم الترابي الجديد الذي يفرضه إقرار الفصل 131 بأن اللامركزية “تتجسّد في جماعات محلية تتكوّن من بلديات وجهات وأقاليم يغطّي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون”. وتشكّل عملية رسم حدود الجماعات المحلية عملية جدّ دقيقة، لما ستثيره من إشكاليات بين الجهات التي سيتمّ إدراجها في نفس الإقليم أو بالعكس توزيعها على أقاليم مختلفة والبلديات التي سيتمّ إحداثها أو تلك التي سيتمّ توسيعها. ويضاف الى هذه الاشكاليات، الإشكال الذي سيطرحه اختيار عاصمة الإقليم والذي بدأنا نشهد بوادره التي تنبئ بعودة الصراعات والعداءات القديمة بين الجهات بقوة.

–         الاشكال الذي ستطرحه العلاقة بين السلطة اللامحورية أي بين ممثل السلطة المركزية بالمنطقة البلدية أو الجهة وهي سلطة معينة غير منتخبة من قبل مواطني البلديات أو الجهات وهياكل الجماعات المحلية. وما يزيد هذا الإشكال حضورا هو تاريخ هذه العلاقة في العهد السابق والتي غالبا ما تميّزت بالتوتّر بل بتهميش السلطة المحلية وابتلاعها تقريبا من قبل السلطة اللامحورية. وقد دفعت هذه العوامل السلبية عديد المواطنين الى المطالبة بحذف خطط الوالي والمعتمد[12] الذين اقترنا إلى حدّ الآن في المخيال الجماعي بالدكتاتورية والزبونية السياسية والفساد.

–         الاشكال المتعلّق بمفهوم اللامركزية الذي يقع التسويق له إلى حدّ الآن من قبل جانب من الطبقة السياسية، وقوامه استقلالية القرار وتحويل الموارد الضرورية لإنفاذه من المركز إلى الأطراف. ويتعزز هذا المفهموم -التصوّر بعنوان الباب المخصّص للامركزية وهو “السلطة المحلّية”. فهذا العنوان يوحي بإمكانية انتصاب الجماعات المحلية كسلطات مجانبة للسلطة المركزية لا متفرّعة عنها. ويغفل هذا التصور الى حدّ ما مسألة جوهرية بخصوص فلسفة اللامركزية، وقوامها السقف الذي وضعه الفصل 14 منه للاستقلالية المنشودة للأطراف عن المركز والمتمثل في الحفاظ على وحدة الدولة. وبالفعل جاء بهذا الفصل أن الدولة “تلتزم بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة”. وإدراج هذا الفصل بباب المبادئ العامة له دلالة كبرى. فوحدة الدولة لا تعني فقط وحدتها الترابية بل كذلك وبالأخص وحدتها القانونية أي ضرورة إدراك جميع القائمين على الجماعات المحلية والرّاجعين إليها أن دستور الدولة والمبادئ العامة التي كرّسها نافذ على كامل ترابها وملزم لكلّ من يرجع إليها بالنظر ويسيّر شؤونها. وهذه الوحدة القانونية تتمّ على غرار وحدة الراية ومدنية الدولة وسيادة الشعب وعلوية القانون وحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية وقيامها على مبدأ المساواة في تنظيمها وفي إسدائها الخدمات وواجب الحفاظ على وحدة الوطن وحرمته وحياد الإدارة.

–         الاشكال الذي يطرحه الخطاب الذي باسم الحق في التنمية يدعم الفرقة والنعرات الجهوية التي لا تنتج إلا الفتن ويرجع هذا أساسا إلى ما خلّفته عقود من الاستبداد من غياب للشعور بالانتماء للوطن وبالوحدة بين كل جهاته والتضامن بين كل مواطنيه ومواطناته.

–         الإشكال الذي يطرحه الانفاذ الفوري للمشروع اللامركزي في ظرف تمرّ فيه الدولة التونسية بأزمة مالية واقتصادية حادة لما يمثّله من تهديد بتفكّك الدولة وإضعافها. وهذا ما قد يحصل من خلال تشتيت مواردها المالية باعتبار ضرورة تحويل اعتمادات السلطة المركزية إلى الأقاليم ثم الجهات ثم البلديات ولما يمثّله من فرصة لرفع سقف المطلبية وإضعاف مجهود التنمية الشاملة.

–         إشكالية الديمقراطية التشاركية والحوكمة المفتوحة[13] وكان الدستور أقرّها في فصله 139. ونلحظ هنا أنّ الدستور لزم الصّمت بشأن آليّات تحقيق هذه الأهداف، وهي أهداف ينبغي ضبطها بقانون حتى لا تتحوّل من أداة دعم للديمقراطية إلى وسيلة لتصفية حسابات سياسية وتعطيل سياسات التنمية. وهذا ما يحصل بشكل خاص إذا أدت إلى إضعاف مشروعية الهياكل المحلية المنتخبة بحجة أفضلية الديمقراطية التشاركية على الديمقراطية التمثيلية.

أمام كل هذه الإشكاليات، يمكن اعتبار أن مشروع اللامركزية الجديد على رغم طابعه الطموح وما يحمله من نفس ديمقراطي، فإن نجاحه يبقى رهن قيام السلطة السياسية مشفوعة بالمجتمع المدني بعمل توعوي وتثقيفي هائل. ومن الملائم أن يتمحور هذا العمل على التوفيق بين تمكين المواطن في الجهة من تسيير شؤونه بما تقتضيه خصوصياته وحاجياته وطموحاته من جهة ووحدة الدولة والعمل كذلك على مصالحة جميع التونسيين والتونسيات بالدولة وبمؤسساتها لكن كذلك ببعضهم البعض من جهة أخرى. فبذلك، نضع حدّا لمنطق الجهويات وللتهديد باحتجاز الثروات الطبيعية.

وتبعا لذلك فإن انتهاج مقاربة تشاركية واحترام الشفافية في الحسم السياسي في كل القرارات التي يتطلّبها إنفاذ هذا المشروع يصبح شرطا ضروريا لنجاحه

نشر في العدد 2 من مجلة المفكرة القانونية في تونس 



[1] ينبغي الانتباه إلى عدم الخلط بين المجلس القومي التأسيسي وهو أول سلطة تأسيسية عرفتها تونس قبل الاستقلال قد اشتغل بين سنة 1956 و1959 على إعداد وإقرار أول دستور للجمهورية التونسية أي دستور غرة جوان 1959 وبين المجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب في 23 أكتوبر 2011 لإعداد دستور جديد للجمهورية وصادق عليه في 26 جانفي 2014
[2] الفصل 12 من الدستور: تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي كما تعمل على الاستغلال الرّشيد للثروات
[3] تشكّل البلديات الجماعات المحلية الأصغر وهي موجودة منذ الاستقلال إلا أنها لا تغطي كامل تراب الجمهورية وهي مسيّرة فعلا بمجالس منتخبة ثم نجد الجهات وهي موجودة كذلك لكنها لا تمثل هياكل لامركزية لأنها مدارة من قبل مجالس غير منتخبة مباشرة من قبل متساكني الجهة لكن خاصة لأن هذا المجالس يترأسها ممثل عن السلطة المركزية معيّن من قبلها وهو الوالي وليس ممثلا عن الجهة ومنتخب من طرفها  أما الأقاليم فهي المجال الأوسع للتنظيم اللامركزي وهو المستوى المستحث لأنه لم يكن معتمدا في ضلّ دستور 1959 وليس هنالك تصوّر واضح حول ملامح هذه الأقاليم ولا حول انتشارها وحدودها.
[4] الفصل 132: “تتمتّع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفق التدبير الحرّ”
[5] الفصل 133 : “تدير الجماعات المحلية مجالس منتخبة.
تنتخب المجالس البلدية والجهوية انتخابا عاما حرّا مباشرا سرّيا نزيها وشفافا.
تنتخب مجالس الأقاليم من قبل أعضاء المجالس البلدية والجهوية.
يضمن القانون الانتخابي تمثيلية الشباب في مجالس الجماعات المحلية.”
[6] الفصل 132 المذكور آنفا.
[7] الفصل 134 فقرة 3: “تتمتع الجماعات المحلية بسلطة ترتيبية في مجال ممارسة صلاحياتها …”
[8] الفصل  134  فقرة 1 و 2 : “تتمتع الجماعات المحلية بصلاحيات ذاتية وصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية وصلاحيات منقولة منها.
توزع الصلاحيات المشتركة والصلاحيات المنقولة استنادا إلى مبدأ التفريع …”
[9] الفصل 135: ” للجماعات المحلية موارد ذاتية وموارد محالة إليها من السلطة المركزية وتكون هذه الموارد ملائمة للصلاحيات المسندة إليها قانونا.
كل إحداث لصلاحيات أو نقل لها من السلطة المركزية إلى الجماعات المحلية يكون مقترنا بما يناسبه من موارد…”
[10] الفصل 136 : “تتكفّل السلطة المركزية بتوفير موارد إضافية للجماعات المحلية تكريسا لمبدا  التضامن وباعتماد آلية التسوية والتعديل
تعمل السلطة المركزية على بلوغ التكافؤ بين الموارد والأعباء المحلية”
[11] إلى حدّ تاريخ إنجاز هذه الورقة علمنا أن هنالك مشروع حول قانون البلديات (وهي تشكّل إحدى الأصناف الثلاث للجماعات المحلية التي كرّسها الدستور) أعدّته وزارة الداخلية لم يقع الكشف عنه إلى حدّ الآن.
[12] تشكّل مؤسستي الوالي والمعتمد سلطتان محوريتان تمثلان السلطة المركزية بالجهة أو بالمناطق البلدية أو الرّيفية وتميّزت مؤسسة الوالي بازدواجيتها وبالتالي بغموض طبيعتها القانونية فالوالي الذي يمثّل رئيس الجمهورية في الجهة والذي يعيّن من المركز يتراس المجلس الجهوي الذي يشكّل هيكلا لامركزي مما حال دون انتصاب هذا المجلس كسلطة لامركزية فعلية مع كل ما يفترض ذلك من استقلالية ومن تعبير عن إرادة متساكني الجهة.
[13] الفصل 139: “تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية ومبادئ الحوكمة المفتوحة لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها طبقا لما يضبطه القانون3
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني