الاقتصاد الريعي شعار رنّان وإيديولوجيا قديمة


2022-02-01    |   

الاقتصاد الريعي شعار رنّان وإيديولوجيا قديمة

صارت مناهضة الاقتصاد الريعي موضوعاً مهمّاً في الخطاب الاقتصادي والسياسي السائد. وإن لم يصبح هذا الشعار بالضرورة مهيمناً، فهو في صعود. انطلق ذلك من تقرير البنك الدولي “الثورة غير المكتملة” حيث ورد جذر “ريع” 145 مرّة في 336 صفحة وأكثر من 20 مرّة في 30 صفحة من صيغته التأليفية. لكنّ طبيعة هذا التقرير الذي صدر سنة 2013 جعلتْ الاهتمام به ينحصر داخل النخب الاقتصادية التكنوقراطية. بدأ الإشعاع الفعلي لهذا الشعار في إثر ندوة نظّمتْها مجموعات تفكير تونسية. وقد قدّم خلالها الاقتصادي والإحصائي والموظّف السامي في وزارة المالية الفرنسية أنيس المراكشي مداخلة حول هذا الموضوع، مداخلة لقيَتْ صدىً كبيراً لدى قطاعات اجتماعية معيّنة. أدّت النقاشات ضمنها والحماس الذي ولّدته إلى تشكيل جمعيّة “آلارت” Alert لمناهضة الاقتصاد الريعي. وقد أدّى عملها الدعائي إلى نشر هذا المفهوم على نطاق أوسع كما نعرفه اليوم.

الخطاب السياسي

ظهر هذا المفهوم في سبعينيّات القرن الماضي عبر أقلام بعض أعلام التيّار الليبرالي المحافظ الأميركي والمديرة الاقتصادية في البنك الدولي ونائبة رئيسة صندوق النقد الدولي سابقاً آن كروجر . وقد استُعمل لمهاجمة الديمقراطية الاجتماعية والكينزية والتأسيس الأيديولوجي لهيمنة النيوليبرالية. صدّرت المؤسّسات المالية الدولية نفسها هذا المفهوم إلى بلدان الجنوب حيث وظّفته لنقد السياسات الصناعية، مثل تعويض الواردات بصناعات محلّية وتوجيه الاستثمار إلى قطاعات استراتيجية غير مربحة على المدى القصير. الريع بالمعنى الذي نتحدّث عنه اليوم في تونس، وكما عرّفته هذه الأدبيّات، هو فائض الربح الناتج عن تشوُّش أو اختلال السوق التنافسية المفتوح. يكون ذلك مثلاً بسبب قوانين أو مؤسّسات تنظّمه فتحدّ من التنافس، أو بتفاهم الفاعلين على الأسعار أو الجودة أو الكمّيّات التي تُعرَض في السوق، وغير ذلك. إذا تفاهم مثلاً الفاعلون الثلاثة الوحيدون في سوق معينّة على سعر موحّد فسيحقّقون ربحاً أكبر ممّا قد يحقّقون لو كانوا يتنافسون، فيخفّض كلٌّ منهم أسعاره لافتكاك حرفاء منافسيه. فضلاً عن تاريخه، مفهوم الريع إذاً ليبرالي في جوهره، فهو المشكل الناتج عن تشوُّش السوق التنافسية المفتوحة، أي المؤسّسة المثالية لليبرالية.

ورغم معرفة الجميع اليوم أنّ مفهوم الريع متعلّق بضعف التنافس و”غلق” الأسواق وبالتفاهمات والكارتيلات والاحتكارات (بمعنى تركُّز المداخيل في سوق ما عند قلّة من الفاعلين وتحكُّمهم فيه، لا بمعنى المضاربة)، فإنّ الخلط المفهومي حوله متواصل. إذ إنّ مصطلح الريع ليس جديداً في المعجم الاقتصادي، لكنّ مفاهيمه التقليدية مختلفة عمّا نتحدث عنه اليوم. فالريع بمفهومه الكلاسيكي هو المدخول المتأتّي من الملكيّة العقارية ثمّ من ملكيّة الموارد النادرة عموماً. وهو بصفة عامّة المدخول المتأتّي من الملكيّة على عكس الربح المتأتّي من الاستثمار في الإنتاج. تُوصَف عادةً اقتصادات الدول النفطية بالريعية. بمعنى أوسع تُعتبَر مداخيل المالية والتأمين والمضاربة وغيرها من القطاعات الطفيلية وغير المنتجة ريعاً. بسبب هذا الخلط بين مفهومه الكلاسيكي ومفهومه النيوليبرالي المستجدّ، ينادي الليبيراليون وأعداؤهم في الوقت نفسه بمناهضة الريع. وباسمها، يدعو البعض إلى الحدّ من التوريد وفرض قيود عليه، وآخرون إلى فتح أسواقه لمزيد من المورّدين.

بعيداً عن إزعاجها، تساهم جمعيّة “آلارت” وأبرز وجوهها الإعلامية بشكل نشيط في هذا الخلط. فيتهرّبون بتعثّر من ربط شعارهم بالليبرالية. يجب الاعتراف للصغيّر الصالحي وهو من أهمّ دعاة مناهضة الريع والقريبين من “آلارت” وتصوّراتها بنزاهته الفكرية: “الريع هو غياب المنافسة… والمنافسة مرتبطة بالليبرالية”. لا يرتبط هذا الخطاب الجديد في تونس مباشرة بتيّار سياسي أو فكري واضح. إذ إنّ التونسيين لم يعتادوا سماع الليبراليين يهاجمون “العائلات” و”اللوبيات” والكارتيلات والمحتكرين، وإلى غير ذلك من تمظهرات الرأسمالية والبرجوازية. لكنّ هذا الخطاب، بمهاجمته بعض أشكالها السطحية، لا يهاجم الرأسمالية في ذاتها. إنّما يطرح إصلاحها بتخليصها ممّا يُوهِم ويتوهّم أنّها مشاكل عرضية. يذهب البعض حتّى إلى القول إنّ النظام الاقتصادي القائم في تونس ليس الرأسمالية. لكنّ هذا الوهم الأيديولوجي ليس خصوصيّة تونسية. فأبناء العائلة الفكرية نفسها في الولايات المتّحدة يقولون الشيء نفسه عن بلادهم في كتاب تلقّى مديح اثنين من المتحصّلين على جائزة نوبل للاقتصاد.

هذا وقد تغيّر موقف النيوليبرالية من السوق والدولة وعلاقتهما بعد الأزمة المالية في شرق آسيا في أواخر تسعينيّات القرن الماضي، وخصوصاً بعد الأزمة العالمية سنة 2008، ردّاً على تصاعد نقد الرأسمالية والحركات المناهضة لها. لذا وجب على الليبراليين الدفاع عنها وتوجيه أصابع الاتّهام في ناحية أخرى. وعليه، تصاعد حديثهم عن المحسوبية والمفاهمات والاحتكارات والريع واللوبيات كظواهر خارجية عن الرأسمالية، أو حتّى مناقضة لها. ادّعت النيوليبرالية في فترة صعودها أنّ السوق مؤسّسة اقتصادية طبيعية وأنّها تنظّم نفسها بنفسها وأنّ الدولة تشوّشها بتدخّلاتها، فيكفي أن تتراجع حتّى يعمّ الازدهار. هذا هو الخطاب الذي اعتاده التونسيون من ممثّلي الليبرالية. لكنّ نتائج ثلاثين سنة من سياسات تقليم دور الدولة لا يمكن وصفها بمسار ازدهار هزّت هذه القناعة. الموقف السائد اليوم في الأوساط الليبرالية هو ما سمّاه البعض بالمنعرج الأردوليبرالي: السوق مؤسّسة اقتصادية مبنية سياسياً بقوانين وآليّات تكرّس التنافس وتمنع الاحتكارات والمفاهمات وتسهر على مراقبتها لضمان اشتغالها بحرّيّة. ينبع مثلاً تأكيد أهمّيّة مجلس المنافسة والمطالبة بتعزيز دوره مباشرة من هذا التصوّر.

بين انتهازية ونفاق تستثمر “آلارت” في الضبابيّة والخلط المفهومي الحاصل لتجمّع أوسع ما يمكن من القطاعات الاجتماعية والسياسية حول شعارها. يدّعي هذا اللوبي ويتوهّم أنّه محايد أيديولوجياً وسياسياً وأنّه يدافع عن “الصالح العامّ” – أنّه “لوبي الشعب”. لكن لدى التمعّن في خطابه، يتبيّن أنّه يطرح الأمور من وجهة نظر خصوصية ومن وجهة نظر فئة اجتماعية واقتصادية محدَّدة ومن وجهة نظر “رائد الأعمال” أو “باعث المشاريع”، أو ببديهية أكثر الرأسمالي الصغير، الذي يندّد بسحق البرجوازية الكبيرة للصغيرة وبالحواجز الموضوعة أمام دخوله إلى السوق. لا يمكن تجاهل تأثير ثقافة “السيليكون فالي” و”الستارت-آب” المهيمنة ضمن البرجوازية-الصغيرة الجديدة. لا يمكن أيضاً تجاهل أنّ جلّ منتسبي جمعيّة “آلارت” من هذه الشريحة: طلبة وناشطون عديدهم درس في الخارج في مجالات متعلّقة بالتصرّف والماليّة وإدارة وريادة الأعمال. من الواضح تأثّرهم بأيديولوجيا “القيادة” (شعار حملتهم الجديدة: “الشعب you lead”) والإثراء والارتقاء الاجتماعي عن طريق بعْث شركات صغيرة “مبدعة”. أيديولوجيا تُرَوَّج بكثافة في الجامعات داخل قاعات الدرس أو في مختلف الأندية الليبرالية التي استعمرتْها. لكنّ خطاب مناهَضة الريع في هذا السياق التاريخي الجغرافي إنّما هو تمظهر خصوصي لأيديولوجيا طبقة اجتماعية. من المعلوم تاريخياً ونظرياً أنّ البرجوازية-الصغيرة تصطفّ مع البرجوازية في فترات نموّ الرأسمالية. ثمّ في فترات التأزّم، عندما يتبخّر حلم الانضمام إليها تنقلب وتهاجمها. لكنّ هذا الهجوم يبقى ذا أفق ضيّق فلا يُسائل النظام القائم بل يدعو إلى عقْلنته من الفساد والاحتكار والريع. هذا لأن البرجوازية-الصغيرة حريصة في الوقت نفسه على الحفاظ على الامتيازات والممتلكات التي تمكّنها منها الرأسمالية.

في تونس، تعطّل “المصعد الاجتماعي” الذي كان التعليم واستثمار الدولة (في الوظيفة العمومية والشركات المنتجة التي كانت تملكها وتُحْدِّثُها) ركيزتيْه بعد هجمة التعديلات الهيكلية النيوليبرالية. في الوقت نفسه، وعلى الصعيد الثقافي بثّت هذه الهجمة أيديولوجيا الخلاص الفردي عن طريق بعث شركات خاصّة وعدم التعويل على الدولة. لكنّ هذه الأوهام والسرديّات البطولية سرعان ما ارتطمت بالواقع الاقتصادي البنيوي. إنّ شعار مناهضة الريع لا يطرح مشروعاً جماعياً لتطوير الإنتاج الاقتصادي استجابة لحاجيّات عموم الشعب التونسي بهدف تحسين ظروف عيشه وخصوصاً طبقاته الأكثر فقراً. إنّما هو مشروع فرداني يحمله مَن يرون أنهم يحظون بكلّ المؤهّلات وقاموا بكلّ ما يجب للالتحاق بصفوف البرجوازية الحاكمة ومُنعوا من ذلك.

الأبعاد الاقتصادية

يتبيّن الطابع الأيديولوجي الصرف لخطاب مناهضة الريع بوضوح أكبر من خلال طريقة تناوله أو بالأحرى عدم تناوله للمشاكل الاقتصادية. لا تكتفي جمعيّة “آلارت” بالاهتمام بالريع كمسألة خصوصية. إنّما تدّعي أنّ الريع هو المشكلة الأساسية والمركزية للبلاد، وحتّى مبدأ اشتغالها ومنه الحديث عن “اقتصاد ريعي” وحتّى “منظومة ريعية”. رغم ترعرع جلّ أعضائها الشباب في ثقافة “العولمة”، فمن المستغرب أنّها تتجاهل علاقات تونس الاقتصادية بالخارج في زمن يكثر فيه الحديث عن تقسيم عالمي للعمل وتجتاح فيه حياتنا شتّى المنتوجات المعولمة. يوحي خطاب مناهضة الريع أنّ الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها البلاد التونسية ذات طابع داخلي بحت. وتزيد غرابة الأمر عندما نتذكّر أنّ الأزمة الاقتصادية الحارقة تتعلّق بالديون الخارجية وأنّ أزمة المديونية الخارجية هي نتيجة عجز مزمن في الميزان التجاري، من دون أن يكون للوبي رأي في هذا الموضوع.  فكأنّما مناهضة الريع من قِبل هذا اللوبي لا تنطلق من الواقع ومعطياته بحثاً عن حلّ مشاكله بل، ككلّ حملة أيديولوجية صرفة، هي مجموعة من الأسئلة والأجوبة الجاهزة المُسقَطة على الواقع. لذلك تجانب مقترحات اللوبي المشاكل الاقتصادية البنيوية، وفي عديد الحالات ستزيد من تعكيرها إن طُبِّقَت.

تستهدف حركة مناهضة الريع مثلاً كارتيلات التوريد، وخصوصاً توريد السيّارات كمسبّب أساسي لارتفاع ثمنها. وهي تدعو ردّاً على ذلك إلى فتح التنافس في هذا القطاع، علماً أنّ دخول مزيد من المورّدين للمنافسة وانخفاض سعر توريد السيّارات أي ارتفاع الطلب عليها يعني إغراق الميزان التجاري أكثر وإهدار العملة الخارجية الشحيحة. ينطبق هذا التفكير على الواردات الاستهلاكية الكمالية وغير الضرورية. يجب على العكس الترحيب بارتفاع أسعارها والدفع نحوه أو حتّى فرض قيود مباشرة على توريدها، متى تطلّب الأمر بهدف الحدّ من اختلال الميزان التجاري وتوجيه العملة الصلبة للأولويّات. لكنّ مثال السيّارات مهمّ لأنّه يشير في الوقت نفسه مجدّداً إلى البعد الطبقي. فإلى جانب رأس المال الصغير يتحدّث اللوبي أيضاً باسم “المستهلك”. لكن أيّ مستهلك؟ مستهلك السيّارات لا مستهلك النقل العمومي. لا يخطر في باله أنّ العملة التي يمكن ادّخارها من انخفاض توريد السيّارات يمكن توجيهها مثلاً إلى توريد وسائل نقل عمومية تخدم فعلياً “الصالح العامّ”. فإلى جانب أثرها الإيجابي على البيئة والاكتِظاظ في الطرقات، تُمكِّن هذه السياسة في الوقت نفسه من الاقتصاد في الطاقة والتخفيض في العجز الطاقي. بنفس المنطق، يؤدّي فتح التنافس في التصدير إلى انخفاض عائداته من العملة الخارجية واختلال الميزان التجاري أكثر. ذلك أنّ المصدّرين التونسيين سيخفّضون أسعارهم ليفتكّوا لأنفسهم حصصاً في الأسواق الخارجية. بينما يمكّن تفاهمهم على الأسعار (بإشراف خفيّ من الدولة في أفضل الحالات) من بيع الكميّات نفسها بأسعار أعلى ما يجعل البلاد تجني كمّيّة أكبر من العملة الصعبة. لكن يبدو أنّ مبدأ التنافس الذي أصبح هدفاً في حدّ ذاته أهمّ من كلّ ذلك. إنّ مَن يدّعي الاهتمام بالفلّاحين من منتجي التمور والزيتون ومستهلكي الأعلاف، يمكن أن يطرح تحديداً حكومياً ديمقراطياً للأسعار بعد حوار مع ممثّلي المتدخّلين في هذه القطاعات أو ضمان الدولة لشراء المحاصيل (هذان الحلّان هما اللذان يريدهما الفلّاحون، بخاصّة صغارهم لأنّهم يعرفون أنّهم سيكونون حتماً الخاسرين في لعبة السوق) أو (إعادة) تأميم الاحتكارات. لكن، بعيداً عن الحياد الذي يتظاهر به، يطرح اللوبي دائماً السوق والتنافس كحلّ لكلّ المشاكل.

التمشّي الأيديولوجي نفسه الذي يجعله يتجاهل العلاقات الاقتصادية الخارجية يجعله يهمل المشاكل البنيوية والأولوية للاقتصاد التونسي. نلاحظ أنّ لوبي “آلارت” يهتمّ عموماً بقطاعات غير منتجة، أو ليست ذات أولويّة وغير محدِّدة في بنية الإنتاج. يكفي مثلاً النظر إلى النقاط التي طرحتها حملة “وقيّت للقيد أن ينكسر”. إنّ توظيف القطاعات الطفيلية وغير المنتجة مثل المالية والتجارة لجزء كبير من الموارد والعمل وتركيزها لجزء كبير من الدخل الوطني، مقارنة بالقطاعات المنتجة والحيوية، من أهمّ المشاكل الاقتصادية التي تعانيها البلاد. لكن، بدل التفكير في فرض ضرائب عالية عليها للحدّ من الاستثمار فيها وتوجيه مداخيلها إلى قطاعات أخرى، يندّد اللوبي بغلقها واحتكارها ويدعو إلى فتحها للمنافسة، أي إلى دخول مزيد من الفاعلين وتوظيف مزيد من الموارد والعمّال فيها. فاللوبي لا يهتمّ بتطوير بنية الاقتصاد ككلّ. ما يهمّه فقط هو الحقّ في الإثراء، سواء حصل ذلك عن طريق أنشطة طفيلية أو بالوساطة للخارج وإغراق البلاد بالواردات. يمكن أن نتساءل لماذا لا ينادي بفتح المنافسة في صناعة وسائل النقل أو المعدّات الفلّاحية أو الآلات الصناعية؟ ببساطة لأنّ هذه القطاعات شبه غائبة عن الإنتاج التونسي، أي لا يوجد أحد فيها ليحتكرها. رغم ذلك، لا نرى حماساً كبيراً من رأس المال لدخولها. فخلافاً لما تدّعيه الأساطير الأيديولوجية، رأس المال لا يحبّ المغامرة ويفضّل الاستثمار في قطاعات معهودة (نعرف استشراء المقاهي والمطاعم والمضاربة العقارية والمحلّات والمركبات التجارية والتوريد العشوائي والوكالات والوساطات الطفيلية) تضمن ربحاً سهلاً وسريعاً. على العكس من ذلك، تحتاج القطاعات المنتجة إلى موارد مهمّة وجهد كبير للتمكّن من التكنولوجيا وتطوير عمليّات الإنتاج لتصبح مربحة، فلا يُقْدِم عليها عادة حتّى مَن يملكون الإمكانيات المالية بدون تشجيعات وضمانات من الدولة. لكن ما يمكن أن تقدّمه الدولة من تسهيلات مالية وامتيازات جبائية ومِنَح ودعم وحماية من المنافسة هو تحديداً الريع الذي ينتفض ضدّه اللوبي. في غياب هذه السياسات “الريعية”، بقيت البنية الاقتصادية التونسية على ما هي عليه ولم تتوسّع إلى قطاعات جديدة. بل أتعس من ذلك، فمنذ مرور التعديلات الهيكلية والاتّفاقات التجارية التي أرغمت تونس على التخلّي عن هذه السياسات الصناعية، انهارت قطاعات منتجة عديدة. هذا أنّ مناهضة الريع مجرّد شعار رنّان للترويج لنفس أيديولوجيا الأفضليات المقارنة التي تستند إليها “توصيات” المؤسّسات المالية الدولية. هذه العلاقة جلية مثلاً في تقرير البنك الدولي سابق الذكر. الهدف من القضاء على الريع هو إظهار أسعار العرض والطلب التي يشوّشها. يمكّن ذلك السوق الحرّ من إسناد الموارد والعمل حسب الأفضليات المقارنة أي إلى القطاعات المربحة. على هذا الأساس، يدعو التقرير تونس مثلاً إلى التخلّي عن دعم زراعة الحبوب والتخصّص في المنتجات الفلّاحية “المتوسّطية”. لكنّنا لا نعرف عن بلد كانت فيه صناعة البواخر والمحرّكات أو المعدّات الطبية المتطوّرة مربحة منذ البداية. فقد بُنِيَت هذه الأفضليات المقارنة في الدول المتطوّرة اقتصادياً (غرباً وشرقاً، من الولايات المتّحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا إلى اليابان وكوريا الجنوبية) بسياسات صناعية نشيطة وسياسات تجارية عنيفة.

ليس أغلب المنتسبين إلى حركة مناهضة الريع بالضرورة واعين بالإطار النظري الذي يندرج ضمنه هذا المفهوم وتداعياته. معظمهم يدافعون عن “التنافس النزيه” كغاية أخلاقية في حدّ ذاتها. فقيادة الحركة المتمثّلة في لوبي “آلارت” لا تحمل أيّ تصوّر أو مشروع اقتصادي معيّن ترغب في تكريسه، وهي قابلة مبدئياً بالنتائج التي ستؤدّي إليها السوق والتنافس وتعتقد بدوغمائية (بدون حتّى التساؤل حولها أو دراستها) أنّها ستكون أفضل. أمّا البنك الدولي فيحمل تصوّراً واضحاً عبّر عنه في تقريره (الذي يتضمّنه موقع “آلارت” من بين مراجعه). يرتبط فيه “تفكيك المنظومة الريعية” بفتح قطاعات الخدمات بصفة أحادية للمنافسة الأجنبية (حتّى قبل إبرام اتّفاقيّة الآليكا مع الاتّحاد الأوروبي) و”رفع القيود” عن قطاعَيْ الصحّة والتعليم والمرور إلى قطاعات خدمات ذات قيمة مضافة عالية (حسب كلام البنك الدولي)، مثل المالية وإدارة الأعمال. فهذه بعض الأفضليات المقارنة التي ستوجَّه إليها السوق الاقتصادية التونسية بعد تخليصها من الريع.

لا نعرف كيف يمكن أن تحلّ مناهضة الريع المشاكل الاقتصادية البنيوية بتركيزها على قطاعات خدمات غير أساسية، لا يمكن تطوير إنتاجيّتها ولا تعوِّض الواردات ولا يمكن تصدير منتوجاتها. الشيء نفسه بالنسبة إلى البطالة، فإنّ تشغيلية الشركات الصغيرة التي يكاد يقدّسها مناهضو الريع ضعيفة جدّاً مقارنة بالشركات الكبيرة. تشغل الأخيرة أكثر من ثلث العمّال وهي لا تكاد تمثّل حتّى 1% من مجمل الشركات. إنّ الشركات الكبيرة ليست مشكلة في حدّ ذاتها (ولا الصغيرة خيّرة بطبعها). المشاكل الحقيقية تتمثّل في الملكيّة الأجنبية وانتهاك حقوق العمّال واستبداد الأعراف ودكتاتوريّة البيروقراطيّة وغياب الديمقراطيّة في إدارتها وتوزيع مداخيلها واستعمالها. الأرباح الكبيرة مثلاً ليست مشكلة في حدّ ذاتها. الأسئلة الوجيهة هي: هل يتمّ تبذيرها في استهلاك استعراضي أم استثمارها؟ وهل يتمّ استثمارها في قطاعات منتجة وذات أولويّة أم لا؟

في الحقيقة عادة ما توفّر الشركات الكبيرة ظروفاً ومداخيل أفضل للعمّال (لأنّها تملك الإمكانيّات) وتكون أكثر قدرة على التطوّر التكنولوجي. إضافة إلى ذلك، تتجاهل رومنسيّة الشركات الصغيرة عقلانيّة اقتصادات الحجم والعائدات (انخفاض التكلفة بارتفاع حجم الإنتاج) التي تحقّقها وحدات الإنتاج الكبرى. إنّ العديد من الحواجز التي يحاربها لوبي مناهضة الريع هي في الحقيقة سياسات (تعود عموما إلى السبعينيّات من القرن الماضي) تدفع في هذا الاتجّاه. لعلّ أشهرها أصبح شرط 18 شاحنة لتكوين شركة نقل بضائع الذي يتندّر به البعض. هذا الشرط وغيره موجود للدفع نحو أكثر ما يمكن من النجاعة الاقتصادية في بلد يعاني شحّاً في وسائل الإنتاج (رأس المال). هذا يجعل تواجد عديد المتنافسين في القطاع نفسه إهداراً للموارد، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية والاضطرابات المالية التي يتسبّب بها إفلاس شركات صغيرة هشّة في بيئة تنافسية.

في الخلاصة، إنّ خطاب مناهضة الريع خطاب أيديولوجي يعبّر عن مصالح طبقة اجتماعية محدَّدة. وهو في الوقت نفسه شعار جديد للترويج للبرنامج النيوليبرالي نفسه الذي تدعو إليه المؤسّسات المالية الدولية. ورغم ادّعاءاته الكبيرة والهلامية حول التنمية وتطرّقه إلى الشأن الاقتصادي فهو يفتقد عقلانيّة اقتصادية جدّية ولا يتجاوز حدود خطاب أخلاقي حول المنافسة النزيهة والحقّ في الإثراء.

نشرت هذه المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم

انشر المقال

متوفر من خلال:

قطاع خاص ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني