الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان: ميكنة القضاء في سبيل العدالة الناجزة


2021-12-13    |   

الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان: ميكنة القضاء في سبيل العدالة الناجزة

من خلال “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” تهدف الدولة إلى “التوسّع في أعمال ميكنة إجراءات التقاضي في المحاكم والجهات المعاونة لها؛ تعزيزاً لتحقيق العدالة الناجزة”، في السنوات الخمس القادمة.

ويمكن تعريف الميكنة، أو الرقمنة، بأنّها عمليّة تحويل كافّة الإجراءات الورقية اللازمة إلى إجراءات إلكترونية، بدءاً من تحرير التوكيلات، واستخراج المستندات الرسمية المطلوبة، وصولاً إلى الاطّلاع على تفاصيل الجلسات. وهو ما يمكن أن يوفّر الكثير من الوقت على المواطنين من جهة، في استخراج الوثائق اللازمة، ومن جهة أخرى على المحامين الذين قد يقطعون مسافات طويلة لمجرّد الاطّلاع على موعد جلسة أو تقديم مستند[1].

ويُعدّ قانون التوقيع الإلكتروني رقم 15 لسنة 2004 أولى الخطوات التي اتُّخذت في هذا الطريق حيث أسبغ الحجّيّة على المحرَّرات والكتابات الإلكترونية، فصار يمكن الاعتداد بها كأدلّة أمام القضاء، مثلها مثل المحرَّرات الورقية[2].

وتُعدّ الميكنة خطوة في سبيل هدف أشمل، الوصول إلى تعميم نظام التقاضي الإلكتروني (أو التقاضي عن بُعد)، كي تتجرّد العمليّة القضائية من كافّة العراقيل المادّية أمام سرعة الفصل في النزاع، فيحلّ البريد الإلكتروني والملفات الممسوحة ضوئياً (scanned) محلّ المذكّرات والخطابات المطبوعة، وتُعقد الجلسات عبر اتّصالات مرئية (video-conference calls) بدلًا من الحضور الفعلي للخصوم.

ومع استمرار المشاكل التي طالما عانى منها مرفق القضاء، بدءاً من قِدَم المباني إلى بطء التقاضي، نظراً إلى عدد القضايا الضخم والحاجة الدائمة إلى مزيد من القضاة، ناهيك بإمكانيّة تلف الوثائق وبيروقراطيّة التقاضي[3]، ظهرت الرقمنة كأنّها الحلّ السحري لجميع هذه المشاكل، تغنّياً بساحات المحاكم الفارغة والقاضي الذي يسير بالـ “لابتوب” بدلاً من أكوام الوثائق والأوراق في الدول التي تطبّق هذا النظام. حتّى وصل الأمر بالقضاء الإداري، في عام 2014، إلى دعوة مجلس النوّاب، الذي لم يكن انعقد بعد حينها، إلى مناقشة نظام التقاضي الإلكتروني بحيث تُتَّخذ الخطوات التشريعية اللازمة للأخذ به في النظام القضائي المصري، وذلك للقضاء على ظاهرة بطء التقاضي والتيسير على المتقاضين.[4]

وتركّز هذه المقالة على خطوات “الرقمنة” أو “الميكنة” التي قامت بها الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة، والتي سيُبنى عليها لتحقيق هدف الاستراتيجيّة المذكور أعلاه، مع التساؤل حول ما يعكسه ذلك من تطوّر المؤسّسة القضائية، وما يمثّله لحقوق المتقاضين.

 

رقمنة المحاكم المصرية العليا

في 31 ديسمبر 2012، رأت النور أولى الخطوات الجادّة في سبيل ميكنة مرفق القضاء، تقودها وزارة الاتّصالات وتكنولوجيا المعلومات التي وقّعت مع وزارة العدل بروتوكول تعاون لتطوير منظومة العمل القضائي والإداري بوزارة العدل، لتقديم خدمات قضائية عديدة عبر الإنترنت، كتقديم الدعوى إلكترونياً ومتابعتها، وخدمات المحمول، واستخدام أحدث الأساليب التكنولوجية كالحوسبة السحابية ونظم التوقيع الإلكتروني.

وتلا هذا البروتوكول بروتوكولان آخران، أوّلهما مع المحكمة الدستورية العليا في 2013، بغرض تحويلها إلى أوّل محكمة “لا ورقية في مصر” حيث تضمّن بروتوكول العمل مشروعاً للإدارة الإلكترونية للدعاوى، ومشروع تطوير بوّابة لخدمات المحكمة الدستورية العليا، ومشروع ميكنة مكتبة المحكمة الدستورية العليا، ومشروع ميكنة الموارد المؤسّسية،[5] وثانيهما مع محكمة النقض في 2015. والجدير بالذكر أنّ موقعَيْ المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض قد جُدِّدا فعلاً وصارا أيسر في الاستخدام، إلى جانب توفيرهما العديد من الخدمات والمعلومات للمستخدمين، مع نشر آخر المستجدّات القضائية والتشريعية.

ورغم التأكيد في مناسبات عديدة وعبر الحكومات المتعاقبة[6] على أهمّيّة التحوّل الرقمي لمرفق القضاء كان التقدّم في هذا الملفّ بطيئاً للغاية، ما أثّر على سرعة ميكنة المحاكم المصرية، وبوجه خاصّ المحاكم الإدارية، وذلك رغم توافر الدراسات والحلول التقنية. كما لم تتخطَّ الجهود المنفّذة مرحلة ميكنة الوثائق والشهر العقاري، وظلّ الحلم “الإلكتروني” في تقديم دعوى إلى المحكمة عبر الإنترنت وصولاً إلى تلقّي الحكم بـ “الإيميل” حلماً بعيد المنال[7].

ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى الصعوبات الجمَّة التي تواجه الباحثين القانونيين إلى يومنا هذا. فحتّى مع بدء توافر كمٍّ لا بأس به من الأحكام القضائية للنقض والدستورية العليا على المواقع الإلكترونية لهذه المحاكم، لا يزال الباحثون يراوحون مكانهم في سبيل البحث عن أحكام المحاكم من الدرجات الأدنى، كالاستئناف والابتدائية، وكذلك أحكام المحاكم الإدارية، ما يمثّل عقبة حقيقية أمام مجالات البحث الأكاديمية والمحامين وجميع المهتمّين بالشأن القانوني والقضائي بشكل عامّ.

 

كوفيد-19 وانطلاقة جديدة للتقاضي الإلكتروني

رغم الصعاب والمآسي التي تسبّب بها فيروس كوفيد-19  فإنّه أتاح فرصة قيِّمة للتعجيل بخطط ميكنة القضاء، تنفيذاً للتوجيهات الصحّية المتعلّقة بالتجمّعات. فجاءت خطّة جديدة لميكنة المنظومة القضائية، وضعتها وزارة الاتّصالات مع وزارة العدل والهيئات القضائية، بأبعاد أكثر طموحاً وجسارة، متضمّنةً وضع نظام إلكتروني لتجديد حبس المتّهمين، وعقد جلسات المحاكم “عن بُعد”، وميكنة المحاكم الابتدائية والجزئية، وربط القضاء بمكاتب الشهر العقاري والتوثيق والوزارات المختلفة والنيابة، ورقمنة كافّة مسائل الأسرة كمعاملات الزواج والطلاق[8].

وتجدر الإشارة إلى أنّ المُشَرِّع المصري يسعى منذ ما قبل تفشّي وباء كورونا إلى إدخال نظام التقاضي الإلكتروني. ففي عام 2018، في مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية، للمرّة الأولى في التاريخ التشريعي المصري تمّ اقتراح نظام متكامل لإجراءات التحقيق والمحاكمات عن بُعد في 7 موادّ. إلّا أنّ هذا المشروع لم يرَ النور حتّى الآن. وفي 2019، تمّ تبنّي أوّل تعديل تشريعي لإدخال الوسائط التكنولوجية بشكل رسمي في مرفق القضاء، من خلال القانون رقم (146) لسنة 2019[9]، الذي قدّم حزمة تعديلات من ضمنها إتاحة خيار جديد للمتقاضين أمام المحاكم الاقتصادية بتقديم دعواهم من خلال موقع مخصّص لهذا الأمر. ونرى أنّ استهلال الدعاوى الإلكترونية من خلال المحاكم الاقتصادية كان اختياراً موفّقاً من قِبل المشرّع المصري، نظراً إلى أنّ معظم القضايا التي تنظرها قضايا مالية وتجارية تتعلّق أغلبها بأشخاص اعتبارية (شركات وخلافه)، ما يوفّر بنية جيّدة لتقديم الدعاوى الإلكترونية، كما نرى أنّ المشرّع قد وُفِّق في إتاحته كخيار بدون التنازل كلّياً عن الجوانب المادّية لعمليّة التقاضي[10].

ومنذ 2020، أعلنت وزارة العدل استكمال ميكنة كافّة المحاكم على مستوى الجمهوريّة بنهاية عام 2021، والبالغ عددها 392 محكمة، من خلال ميكنة التقاضي وجعله إلكترونياً منذ تحرير الدعوى في قسم الشرطة وحتى صدور الحكم، مع تعميم تجديد الحبس الاحتياطي عن بُعد[11]، وكذلك عن سعيها إلى التخلّي الكامل عن “الورقة والقلم” في المحاكم بمشروع ميكنة محاضر الجلسات وتحويل الصوت إلى نص مكتوب. وأيضًا توقيع بروتوكول تعاون جديد بين المحكمة الدستورية العليا ووزارة الاتّصالات بغرض استكمال مشروع الإدارة الإلكترونية للدعاوى.

كما دشّنت وزارة العدل بوّابة مصر الرقمية، التي تقدّم خدمة إقامة دعوى مدنية عن بعد لعدد من المحاكم، وذلك بدون الحاجة إلى الذهاب إليها، كما تتيح هذه البوّابة خدمات أخرى كثيرة، مثل إجراء التوكيلات واستخراج الوثائق الرسمية.

ولكن ماذا عن المنظومة القضائية والمتقاضين؟

 كما أشرنا في المقدّمة، وضعت الاستراتيجيّة الوطنية لحقوق الإنسان ميكنة القضاء ضمن أهدافها. وعند قراءة هذا الجزء من الاستراتيجية، نلاحظ أنّه رُبِط بتحقيق العدالة الناجزة. بالتالي ليست الميكنة وفق هذه الاستراتيجيّة إلّا أداة لتحقيق العدالة الناجزة التي كثر الحديث عنها على مدار السنين السابقة، مع غياب ذكر “العدالة المنصفة” في المقابل. ففي خضمّ الإسراع في تبنّي الوسائل التكنولوجية واللوجستية المتعدّدة “لإنجاز” العدالة، وهو ما نشجّعه حتماً ونؤمن بضرورة تحقيقه، إنّ أيّاً من الخطط، ومن ضمنها استراتيجيّة حقوق الإنسان، والتصريحات لم تتناول أيّ حديث عن كيفيّة ضمان الحقّ الدستوري في عدالة وعلنيّة المحاكمة في ظلّ التوسّع في استخدام هذه الوسائل.

والجانب الأبرز لضمانات المحاكمة العادلة يتمثّل في القضاء الجنائي، الذي يُعتدى فيه على حقّ الإنسان الطبيعي في الحرية. ومع غياب المعايير الدولية وتوسّع الدول في اللجوء إلى التكنولوجيا في عقد الجلسات عن بُعد لتجديد الحبس أو للاستماع إلى الشهود، ومصر ليست استثناءً، ظهر العديد من الأبحاث التي تتساءل إلى أيّ مدى يمكن تبنّي مثل هذه الوسائط بدون الإخلال بضمانات العدالة.

فعلى سبيل المثال، توسّع القضاء المصري في الآونة الأخيرة في تجديد الحبس الاحتياطي عن بُعد، مع غياب إطار تشريعي حاكم لهذا الإجراء، واستعاض به عن نقل المتّهم إلى قاعة المحكمة، تذرّعاً بالتحدّيات الأمنية واللوجستية لهذا الإجراء. إلّا أنّ ضمانات أساسية للمتّهم غابت عن سياق هذا الإجراء، مثل التحدّث بانفراد مع محاميه، والتقاء القاضي بشخصه.[12]

وعلى وجه آخر، لم تتحدّث أيّ من هذه الخطط عمّا سيحدث إذا كان “السيستم واقعاً” في إحدى مراحل التقاضي، ولا عن السبل التقنية للحفاظ على بيانات المستخدِمين، أو طمأنة المتقاضين ضدّ إمكانية التلاعب بالوثائق التي يقدّمونها (رغم أنّ هذه الاحتماليّة أعلى بكثير في الإجراءات الورقية)، وإذا كان سيُسمح لأحد طرفَيْ الخصومة باستكمال الإجراءات ورقياً، مع لجوء الطرف الآخر إلى إجراءات إلكترونية بالكامل. وحتّى إذا كنّا نثق بلجوء الجهات المسؤولة إلى أعلى مستويات التأمين والميكنة، هذا لا يعفي المشرّع من تغطية مثل هذه الاحتمالات التي قد تؤدّي إلى ضياع حقوق المتقاضين، وكذلك القيام بحملات توعية تتناسب مع جسارة الخطط التي تضعها الدولة.

وعليه، فإنّ الميكنة لا بدّ أن تتحقّق مع وجود خطّة شاملة تضمن عدالة المحكمة أوّلاً، وثانياً تكون مرتبطة بتطوير نظم المعلومات والإنترنت في مصر، مع تدريب العاملين في المحاكم والقضاة والمحامين على استخدام الأدوات المستحدَثة. ذلك كلّه مع فتح حوار مجتمعي لإطلاع المواطنين والمتقاضين عن هذه التطوّرات وأهدافها وأهمّيّتها وكيفيّة حماية معلوماتهم الشخصية القانونية، التي تُعدّ ضمن المعلومات الأكثر حساسية.


[1] هذا النهج الرقمي، وإن اتّسع استخدامه طردياً مع تصاعد فيروس كوفيد-19، تمتدّ أصوله إلى بدايات الألفية الثالثة في دول الغرب، حيث بدأ استخدام هذه الوسائل، على استحياء، جنباً إلى جنب التداعي التقليدي أمام المحاكم. وقد تبنّى عدد من الدول العربية هذه التقنيات، مثل السعودية والإمارات والأردن.

[2] مادّة 15 من قانون التوقيع الإلكتروني رقم 15 لسنة 2020: “للكتابة الإلكترونية وللمحرَّرات الإلكترونية، في نطاق المعاملات المدنية والتجارية والإدارية، ذات الحجّيّة المقرّرة للكتابة والمحرَّرات الرسمية والعرفية في أحكام قانون الإثبات في الموادّ المدنية والتجارية، متى استوفت الشروط المنصوص عليها في هذا القانون وفقاً للضوابط الفنية والتقنية التي تحدّدها اللائحة التنفيذية لهذا القانون”.

[3] صبري الجندي، “العدالة الناجزة… على قائمة الانتظار“، الأهرام.

[4]القضاء الإداري يدعو مجلس النواب المقبل بالأخذ بنظام التقاضي الإلكتروني“، المصري اليوم، 26 مارس 2014.

[5] نشر الموقع التجريبي للمحكمة الدستورية العليا دليلاً مفصّلاً لكيفيّة البحث عن الموارد المتاحة عبر الموقع.

[6]الحكومة تدرس 4 خطوات عاجلة لتنفيذ تكليفات السيسي بشأن ’العدالة الناجزة‘”، مصراوي، 7 يوليو 2015.

[7] أحمد ربيع، “’التقاضي الإلكتروني‘.. الخطوة المؤجّلة لإقامة ’الدعاوى‘ بدون تدخّل بشري“، الوطن، 3 نوفمبر 2016.

[8] للاطّلاع على تفاصيل هذه الخطّة، يُرجى الاطّلاع على تقرير الصحافي محمّد فرج المنشور في جريدة الشروق بين 24-26 يونيو 2020: الجزء الأوّل، الجزء الثاني، الجزء الثالث.

[9] قانون رقم 146 لسنة 2019 بتعديل بعض أحكام قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية الصادر بالقانون رقم 120 لسنة 2008.

[10] خالد علي، “التقاضي إلكترونياً أمام المحاكم الاقتصادية المصرية طبقاً للقانون (146) لسنة 2019 – ورقة بحثية“، دفاع للقانون وأعمال المحاماة – مكتب خالد علي للمحاماة (يناير 2021)، صـ 38.

[11] إبراهيم قاسم، “وزارة العدل تعلن الانتهاء من ميكنة جميع محاكم مصر بنهاية 2021“، اليوم السابع، 30 يناير 2021.

[12]التقاضي عن بُعد وضمانات المحاكمة العادلة – قراءة للتجربة المصرية في ضوء المعايير الدولية والتجارب المقارنة – ورقة بحثية“، الوحدة البحثية في مكتب خالد علي للمحاماة (دفاع)، بالتعاون مع مركز التنمية والدعم والإعلام، 7 أبريل 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة ، قضاء ، محاكم إدارية ، محاكم مدنية ، محاكم جزائية ، محاكم دستورية ، البرلمان ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني