الاتّحاد العامّ التونسي للشغل: هل حانَ وقت المعارك المؤجّلة؟


2024-02-29    |   

الاتّحاد العامّ التونسي للشغل: هل حانَ وقت المعارك المؤجّلة؟

نُشر بتاريخ 29 فيفري 2024
تمّ تحيينه في 28 مارس 2024

يَبدو بعيدًا جدّا ذاك الزمن الذي قبِلَت فيه حكومة تونسية بالتضحية بأكثر وزرائها شعبية وإقالته ليلة عيد العمال، إرضاءً لقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. نتحدث هنا عن حكومة يوسف الشاهد التي أقالَت مساء 30 أفريل 2017 وزير التربية ناجي جلول بعد أزمة حادة مع نقابات التعليم. بعيد جدا كذلك زمن “الرباعي الراعي للحوار” و”نوبل للسلام” و”الاتحاد أقوى قُوة في البلاد”، واللاعب الأساسي في المشهد السياسي الذي يأخذ الجميع ردّات فعله المُحتملة بعين الاعتبار، عند الزيادة في الأسعار والتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية وتشكيل الحكومات وسنّ التشريعات ذات العلاقة بالحقوق الاقتصادية الاجتماعية. تجد قيادة الاتحاد اليوم نفسها على رأس دفّة “شقف”[1] تتهدده الثقوب الداخلية وأمواج السلطة، في لحظة مهامّ وخيارات صعبة: إنقاذ نفسها وإنقاذ المنظمة من المساعي السلطويّة التدجينيّة، والقيام بدورها كمنظمة وطنية جماهيرية لها واجبات تجاه البلاد في ظلّ الانغلاق السياسي واحتدام الأزمة الاقتصادية وتبعاتها. ووسط كل هذا، تُلاقي المركزية النقابية صعوبة في إيجاد حلفاء أقوياء، في ظلّ تراجع مكانتها شعبيا وحالة الحصار التي تَعيشها الأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني المستقلة.

من المساندة النقدية لمسار 25 جويلية إلى القطيعة معه

بعد إعلان “التدابير الاستثنائية” في 25 جويلية 2021، ظلّت قيادة اتحاد الشغل على موقف “المساندة النقدية” لمدة أشهر، مع التذكير المستمرّ لرئيس الجمهورية بضرورة الخروج سريعًا من المرحلة الاستثنائية وإشراك المنظمات والأحزاب في تصور الخطوات المقبلة. لكن منذ أواخر 2021 بدأت العلاقة مع قصر قرطاج تتوتّر تدريجيا لثلاثة أسباب رئيسيّة: وضوح نوايا رئيس الجمهورية في تنفيذ مشروعه السياسيّ من دون إشراك الطيف السياسي والمجتمع المدني، إعلان حكومة نجلاء بودن عن استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وما تسرب آنذاك عن الشروط التي قد تُوافق عليها الدولة، وإصدار المنشور الحكومي عدد 20 في 9 ديسمبر 2021 والمتعلق بمنع المؤسسات والمنشآت التابعة للدولة من التفاوض المباشر مع النقابات قبل الرجوع إلى رئاسة الحكومة أو الكتابة العامة للحكومة والتنسيق مع وزارة المالية. وهو ما اعتبرته قيادة اتحاد الشغل تضييقا على العمل النقابي.

وشهِدَ ديسمبر 2021 أول مواجهة حادّة بين “بطحاء محمد علي”[2] وقصر قرطاج، عندما أعلنالأمين العامّ لاتّحاد الشغل نور الدين الطبوبي أن الاتحاد مُستعد لخوض “معركة كسر عظام” مع السلطة، إذا ما أجبِر على ذلك. وحتى استقبال الرئيس سعيّد للأمين العام لاتحاد الشغل في جانفي 2022 والثناء على المنظمة ودورها التاريخي وإرسال التطمينات بعدم وجود نية في تلبية كامل شروط صندوق النقد الدولي، لم تكن مبادرات كافية لعودة المركزية النقابية إلى موقع “المساندة النقدية”. وتعددت مظاهر الجفاء خلال سنة 2022. أبرز مثال على ذلك بلاغ الهيئة الإدارية لاتحاد الشّغل التي انعقدت في 23 ماي 2022، إذ أعلنتْ فيه امتناعها عن المشاركة في “أيّ حوار شكليّ متأخّر متعجّل تُحَدَّد فيه الأدوار من جانب واحد وتُفرض فرضا، ويقصي القوى المدنية والسياسية الوطنية”، في إشارة إلى الحوار الوطني الذي أعلن عنه قيس سعيّد في ربيع 2022 قبيل صياغة نصّ دستور جديد. في البلاغ نفسه، أعلنت الهيئة الإدارية نيّتها تنظيم إضرابا عامّا في القطاع العامّ والوظيفة العمومية، احتجاجا على المنشور عدد 20 وتباطؤ السلطة التنفيذية في تطبيق الاتفاقيات القطاعية والشروع في مفاوضات اجتماعية لتعديل الأجور.

بعد الاستفتاء على الدستور، استُأنِفَت المفاوضات الاجتماعية وتوصّل الاتحاد والحكومة في 14 سبتمبر 2022 إلى توقيع اتفاقية تقضي بزيادة أجور منتسبي القطاع العام، في 14 سبتمبر 2022، لسنوات 2023 و2024 و2025. كما أصدرت رئيسة الحكومة المنشور عدد 21 في نوفمبر 2022 لتعديل مقتضيات المنشور عدد 20 موضع الخلاف مع اتحاد الشغل. لكن هذا السعي لتهدئة الأمور مع المنظمة النقابية من قبل السلطة لم يكن كافيا مرة أخرى. فمن جهة، تدهورتْ الأحوال المعيشية لأغلب التونسييّن بسبب غلاء الأسعار والارتفاع غير المسبوق لنسب التضخّم والنقص الحادّ في عدة مواد غذائية أساسية، ومن جهة أخرى لم يقبل اتحاد الشغل الذي كان لسنوات طويلة فاعلا أساسيا في الشأن العام تهميش السلطة له والاكتفاء بإعطائه صفة ملاحظ.

2023: عام القطيعة

المُنعَرج الحقيقي في علاقة اتحاد الشغل والسلطة سيأتي يوم 31 جانفي 2023، إثر خطاب رئيس الجمهورية –ألقاه في ثكنة الحرس الوطني بالعوينة- حيث أكّد فيه رفضه أن يكون العمل النقابيّ “غطاءً لمطامح سياسية أو قطع الطريق” في إشارة إلى إضراب عمال وموظفي محطات الاستخلاص في الطرق السريعة يومي 30 و31 جانفي، وأوصى كذلك بـ”ضرورة اتخاذ إجراءات ضدّ من يتآمرون على الأمن القومي أو ضدّ الشركات العامة”. بعد ساعاتٍ قليلة من الخطاب، تمّ إلقاء القبض على الكاتب العام لنقابة شركة تونس للطرقات السيارة، أنيس الكعبي، وصدَرَت بحقّه بطاقة إيداع في السجن. أنيس الكعبي سيُصبح الحلقة الأولى في سلسلة من الإيقافات والمحاكمات والإجراءات الإدارية التأديبية التي شملتْ عشرات النقابيين في مؤسسات وقطاعات متعددة بتهم متنوعة، وهي متواصلة إلى حدّ كتابة هذه الأسطر. في فيفري 2023 بدأت التتبعات في حقّ 16 نقابيا من قطاع النقل من بينهم الكاتب العام للجامعة العامة للنقل، على خلفية شكايات رفعَهَا ضدّهم وزير النقل بتهمة تعطيل حرية العمل وتهم أخرى على أساس المرسوم 54. في الشهر نفسه، قرّرَ وزير الشؤون الدينية إعفاء أئمّة نقابيين من بينهم كاتب عام الجامعة العامة للشؤون الدينية. وزارة الثقافة تَشهد هي الأخرى منذ أكثر من سنة صراعا حادّا بين الوزيرة وعدد من الموظفين، من بينهم نقابيين صدَرَت في حقّهم إجراءات تأديبيّة مثل النقلة أو العزل، وبعضهم تم تتبّعه عدليا ومحاكمته.

في 26 أفريل 2023، أصدر الاتّحاد بيانا، هو الأشدّ حدّة منذ 25 جويلية، يُفهَم منه أن القطيعة قد حَصلَت مع السلطة وأن العلاقة بين الطرفين دخلتْ منطقة الصدام. من بين ما ورد في البيان: “لقد خلُص النقابيون إلى أنّ نظام الحكم، ومهما تغلّف بالشعارات التي يُروّجها من أجل تبرير فشله الاقتصادي والاجتماعي والتغطية على الانتهاكات التي تطال الحرّيات […] جَابهت السلطة القائمة الاتحاد بسياسة مُعادية للحوار الاجتماعي تلتفّ على الاتفاقيات وتخرق القوانين وتنتَهك الحقّ النقابي وتزجّ بالعمّال والنقابيين في السجون وتجعلهم عرضة للطّرد التعسّفي وتُخضِعَهم للتضييقات ولا تتردّد في استخدام أجهزة الدولة لنسف أيّ مكسب اجتماعي أو مهني”.

لكن هذه البيانات -الحادّة في لغتها- لم تؤثّر كثيرا في توجّه السلطة. فقد استمرّت التتبّعات ضدّ النقابيين، بل شملت “رؤوسا” أكبر وحتى معاقل للمنظمة. ففي نوفمبر 2023، تمّ إيقاف يوسف العوادني الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل في صفاقس، الولاية ذات التاريخ والوزن النقابي الكبيرين. تم الاحتفاظ بالعوادني لمدة يومين على خلفية شكاية من موظف في “الشركة الجديدة للنقل بقرقنة” اتّهمه فيها بالاعتداء عليه. أخلِيَ سبيل الكاتب العام بعد يومين من الحكم بعدم سماع الدعوى من قبل المحكمة الابتدائية صفاقس 1، لكن الرسالة كانت واضحة. وتكرّرَ الأمر منذ أسابيع قليلة عندما تمّ في 6 فيفري إلقاء القبض على الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بالقصرين، الصنكي الأسودي، بتُهمة تدليس شهادة علمية، وتم إيداعه السجن بمقتضى ذلك في انتظار محاكمته. وكتطوّر “طبيعي” لهذا المنحى الصدامي، وصلت عصا التتبّعات إلى رأس المنظمة أيْ مكتبها التنفيذي، بعد إيقاف الطاهر المزي الأمين العام المساعد المسؤول عن القطاع الخاص في 29 فيفري. إيقافٌ جاء قبل يوميْن من تجمّع عماليّ في العاصمة أعلن اتحاد الشغل عن تنظيمه منذ أسابيع، وهو ما رأتْ فيه قيادة المنظّمة تصعيدا من طرف السلطة وقرارًا سياسيّا عقابيّا للنقابيين. وُجّهت للمزي الذي عمل سابقا موظفا في شركة “الفولاذ” العمومية تهمة “استغلال موظف عمومي لصفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره والإضرار بالإدارة وتصرّف موظف عمومي دون وجه حقّ في أموال عمومية”. هذه التهمة التي توحي للسامع بشبهات فساد واختلاس تتعلق في الحقيقة بمسألة ما يسمّى “التفرغ النقابي”، وهي آلية “عُرفية” تسمح للنقابيين بالتفرغ لمناصبهم ومهامّهم النقابية مع استمرار تمتّعهم بالأجور والحقوق التي كانوا يتمتعون بها في المؤسسات التي كانوا يعملون بها. وفي إطار علاقتها المتوترة مع اتحاد الشغل، جعلت الحكومة من رُخَصِ التفرغ النقابي وسيلة ضغط جديدة، إذ هي ترفض منذ شهر ديسمبر الفائت تجديد هذه الرّخَص أو الموافقة على طلبات تفرّغ جديدة لأعضاء في الجامعتيْن العامتين للتعليم الثانوي والأساسي وحتى لنقابيّين يتبعون أسلاكا ووزارات أخرى. وإذ تطالب المؤسسة العمومية الطاهر المزي بإرجاع مئات آلاف الدينارات التي نالها كأجور في السنوات الأخيرة على الرغم من عدم مزاولته للعمل، تردّ المنظمة النقابية بأنّ أمينها العام المساعد كان يتمتّع برخصة تفرّغ نقابي نظرًا لتحمّله مسؤوليات نقابية. لم يطلْ مكوث المزي في الإيقاف إذ تمّ إطلاق سراحه في 1 مارس مع إصدار قرار بتحجير السفر في انتظار استكمال التحقيقات وربما المحاكمة. ويذكر هنا أنّ كلاّ من الأسودي الصنكي والطاهر المزي موظفان كبيران في منشأتيْن عموميتين كبيرتين. وربما تكون هذه مقدمة لتقليص نفوذ اتّحاد الشغل في المؤسسات الاقتصادية العمومية الكبرى. ويصعب التكهن حاليا إن كان هذا “التوغّل” الأول في صفوف المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل فركة إذن صغيرة أم تمهيدا لتتبّعات وإيقافات قد لا تكتفي بأمناء عامّين مساعدين.

المُنعَرج الحقيقي في علاقة اتحاد الشغل والسلطة كان خطاب الرئيس من ثكنة العوينة

تصدّعات وثقوب في “الشْقَف”

طبيعة المنظمة كجسم يَحتكر بشكل شبه كامل التمثيل النقابي في تونس جعلت منها ملتقى لمختلف الخطوط الأيديولوجية والحساسيات السياسية، ومنَحَتها هوية فريدة. إذ لا يُمكن القول أن اتحاد الشغل نقابة ثورية أو إصلاحية أو علمانية أو محافظة أو يسارية أو عروبية، هو مزيج من كل هذا وعموده الفقري هو ما يسميه عدة نقابيين بـ”الخط العاشوري” نسبة إلى الحبيب عاشور أحد الزعماء التاريخيين للمنظمة. الخطّ العاشوري هو الخطّ البراغماتي الذي يَميل في أغلب الأحيان إلى سياسة التفاوض الاجتماعي، لكنه لا يتردّد في التصعيد عند تعثر الحوار وحتى الدخول في صدام محسوب الخطوات. وهو أيضا الخطّ الذي يؤمن أن كل “الخطوط” لها مكان في “الماكينة”، أي هياكل المنظمة وآليات تصعيد النقابيين إلى المراكز القيادية وفق توافقات وحسابات يتداخل فيها الأيديولوجي مع القطاعي والمناطقي والعشائري. ومهما كانت الاحتقانات داخل “الماكينة”، لا يجب أن تتسبّب في تصدع أو غَرق “الشقف” ويَجب أن تُعالَج داخليا بترضيات وإعادة صياغة للتوافقات. طبعا لم تَسِر الأمور بهدوء في كل الفترات وكثيرا ما برزَت معارضات نقابية داخلية تقودها بالأساس مجموعات يسارية وأحيانا عروبية تتركز خاصة في قطاعات “الياقات البيضاء” وأبرزها نقابات التعليم. لكنها لم تستطع تغيير الكثير أمام صلابة “الماكينة” ونفوذ البيروقراطية التي تَقودها.

تَجد قيادة الاتحاد نفسها اليوم في مواجهة حالة من المعارضة المتنامية صلب المنظمة، في السنوات الأخيرة. هي في الواقع حالتان من المعارضة بينهما اختلافات وتقاطعات وربما ترابطات. الحالة الأولى من المعارضة غير مُهيكلة لكنها محسوسة، وهي مرتبطة بعلاقة قيادة المنظمة مع السلطة. تطوّر هذه العلاقة منذ 25 جويلية 2021 إلى اليوم لا يحظى بالإجماع داخل المنظمة. فالتيارات العروبية الناشطة صلب المنظمة أغلبها مساند بشكل واضح ومعلن لقيس سعيّد و”مسار 25 جويلية”. أما التيارات اليسارية فتشهد انقسامات في الموقف من السلطة حتى داخل العائلة السياسية ذاتها، ما بين معارض لسلطة قيس سعيد ومطالب برحيلها، ومُساند لرئيس الجمهورية. المكوّنات النقابية المُساندة لـ “مسار 25 جويلية” هي بكل تأكيد غير راضية على توتّر الوضع بين قيادة المنظمة ورئاسة الجمهورية، وربما تسعَى إلى تنظيم صفوفها حتى تستطيع الحصول على وزن أقوى في قلب “الماكينة” بشكل يُعدل أوتار سياسة المنظمة، لتصبح أكثر تلاؤما مع “الجمهورية الجديدة”.

أما الحالة الثانية من المعارضة فهي أقدم قليلًا، وأكثر علانيّة في وجودها ومطالبها. نتحدّث عن النقابييّن الذين عارضوا منذ سنة 2020 نوايا “البيروقراطية النقابية” في تعديل الفصل 20 من القانون الداخلي للاتّحاد العامّ التونسي للشغل، والذي حدّدَ مدة عضوية المكتب التنفيذي بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مما يعني أن نور الدين الطبوبي وبعض القيادات الأخرى ممّن كانوا أعضاء في المكاتب التنفيذية المنبثقة عن مؤتمر 2011 و2017 لم يكن لهم الحق في الترشح لعهدة ثالثة. وعلى الرغم من رفض عدد هام من النقابيين للتعديل، استطاعت القيادة عقد اجتماعين مهمين للتمهيد للتعديل، الأول في الحمامات في أوت 2020 والثاني في سوسة في جويلية 2021. انعقد الاجتماعان في أوجّ الأزمة الوبائية كوفيد 19، وسهّلَت السلطة التنفيذية تنظِيمهما على الرغم من الموانع القانونية المرتبطة بإجراءات احتواء الوباء والتباعد. حاولت هذه المعارضة بشتى الطرق منع انعقاد المؤتمر الانتخابي الذي انعقد في صفاقس في فيفري 2022، لكن لم تُفلح الاحتجاجات والشعارات ولا حتى الدعاوى القضائية في وقف “الماكينة”. ومن أبرز وجوه هذه المعارضة آنذاك، نجد الأمين العام المساعد السابق ووزير التربية والتعليم الحالي محمد علي البوغديري. بعد تمرير التعديل وإعادة انتخاب نور الدين الطبوبي أمينا عاما للمنظمة، خَفتَ صوت المعارضة المطالبة بدَمقرَطة الاتحاد العام التونسي للشغل، لكنه عاد ليعلو من جديد في الأشهر الأخيرة.

في 27 جانفي 2024 نظّمَت المعارضة النقابية تحت يافطة “اتّحادنا للمعارضة النقابية” وَقفة احتجاجية أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل ورفعَت شعارات تُطالب صراحة برحيل المكتب التنفيذي للمنظمة وإعادة القرار إلى القواعد حتى تنتخب قيادة جديدة. واقترحَت التنسيقية المعارضة التي يقودها الطيب بوعايشة، وهو كاتب عام سابق لنقابة التعليم الثانوي، تَشكيل هيئة تسييرية تقودها شخصيات نقابية موثوق بها إلى حين انعقاد المؤتمر الانتخابي للمنظمة. وبرّرَت مطالبها بأن القيادة الحاليّة فقدَت ثقة التونسيين، وصارت عاجزة عن التعبئة وضمان لعب الاتحاد دوره الوطني التاريخيّ. وإن كانت هذه التنسيقية المعارضة قد نَفَت سابقا أيّ صلة لها بالسلطة السياسية الحاكمة مؤكّدة أنّ انتماءها للمنظمة فقط، فهذا لا يُلغي إمكانية استغلالها من أطراف داخل الاتّحاد أو خارجه للضغط على القيادة الحاليّة لاتحاد الشّغل. وتَزامنَت التحرّكات الأخيرة للمعارضة النقابيّة مع إصدار عدد من الاتحادات المحلية والنقابات الأساسية بيانات تتبنى تقريبا نفس مطالب “اتحادنا للمعارضة النقابية” وتُهاجم قيادة المنظمة بشكل علني. من الملاحظ أن التوزع الجغرافي للاتحادات المحلية “المتمردة” محدود جدا، إذ انطلقت “الظاهرة” من مدينة منزل بوزيان التابع لولاية سيدي بوزيد، لكنه قد يتوسّع في الأشهر القادمة. أما النقابات الأساسية المعارضة، فأغلبها ينتمي إلى قطاع التعليم الثانوي ويتركّز في ولاية صفاقس، مما يدفع للتساؤل إن كان لهذا الأمر علاقة بنتائج انتخابات الجامعة العامة للتعليم الثانوي التي فشل خلالها أغلب المترشحين في القائمة المقربة من الكاتب العام المتخلي الأسعد اليعقوبي –المقرب بدوره من وزير التربية ومسار 25 جويلية- في الحصول على عضوية المكتب الجديد. ويبدو أنّ مدينة صفاقس ستكون إحدى الساحات الأساسية في “الحرب الباردة” بين الطرفين الحكومي والنقابي، إذ تشهد في الأسابيع الأخيرة توافدا لأعضاء من المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل وعدة تحركات واجتماعات للهياكل الجهوية على خلفية تواتر الإجراءات الإدارية التأديبية والإيقافات التي شملت نقابيين في عدة قطاعات ومن أبرزهم عبد الكريم السويسي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد الجهوي للشغل في صفاقس والكاتب العام للفرع الجامعي للتعليم الاساسي.

الخطّ العاشوري براغماتي، يَميل إلى التفاوض، ولا يتردّد في التصعيد عند تعثر الحوار

منظمة جماهيرية بلا جمهور

تَدفَع قيادة الاتحاد ومعها المنظمة أثمانًا لعدة اختيارات وسياسات قديمة، وكذلك لحملات الشيطنة التي لم تتوقف يوما منذ جانفي 2011. استطاعتْ المُنظّمة فَرض نفسها، لا فقط كشريك في مسار الانتقال الديمقراطي، بل أيضا كلاعب سياسي أساسي في مشهد 2011/2021. وهذا إن منحَ الاتحاد مكانة مميزة في التفاوض مع الدولة ومكّنَه من تحقيق مكاسب لمنخرطيه، فإنه أيضا أفقده المسافة الضرورية من السلطة، حتى أصبح يُحسَب جزءا منها، بخاصة مع تعيين وزراء وكتاب دولة ومدراء عامين ومسؤولين محليين وقناصل ومُلحَقيين ديبلوماسيين لهم تاريخ نقابي. عندما سقطت المنظومة السياسية التي سيّرَت البلاد ما بين 2011 و2021 اعتبر جزء من التونسيين أن الاتحاد كان جزءا منها ويتحمّل نصيبا من مسؤولياتها. لم ينسَ كثير من التونسيين كذلك أداء المنظمة خلال فترة حكم نظام بن علي وعدم التصدّي بشكل كافٍ لخيَاراته الاقتصادية النيوليبرالية التي كان لهَا الأثر الكبير على الطبقات الوسطى والفقيرة، وتسبّبَت في تدهور عدة قطاعات صناعية وتآكل حقوق العمال في القطاع الخاص. اتّحاد الشغل يتصرّف منذ سنوات طويلة ك “أب” غير عادل ، فكثير من التونسيين يرون أن المركزية النقابية تُغدق الرعاية على منتسبيها من العاملين والموظفين في مؤسسات ومنشآت القطاع العام -وهم العمود الفقري للمنظمة والنسبة الأعظم من منخرطيه- في حين لا تَبذل جهودا كافية للدفاع عن العاملين في القطاع الخاص الذي يُعاني أغلبهم من تدنّي الأجور والحرمان من التغطية الاجتماعية والصحية بشكل مستقرّ وعدم احترام مقتضيات مجلة الشغل. وقد يحاول اتّحاد الشغل العودة إلى الساحة الشعبية -واسترجاع المبادرة في علاقته مع السلطة- من بوابة التجمّعات العماليّة المندّدة بتعطّل الحوار الاجتماعي واهتراء المقدرة الشرائية لعموم التونسيين، مثلما حدث خلال التجمّع العماليّ الذي قادته المنظمة النقابية في ساحة القصبة (مقر رئاسة الحكومة) يوم 2 مارس 2024 واستطاعت خلاله حشد آلاف المتظاهرين بعد أشهر طويلة من الغياب عن الشارع.

من الطبيعي في هذه الحال أن يُشيح ملايين التونسيين بوجوههم عن المنظمة النقابية الأكبر، وأن لا ينتظروا منها الكثير. وعندما ينفضّون من حولها، فهي “لا تُمثّلهم” بل تبدو لهم كتعبيرة عن مصالح أبناء الطبقة الوسطى من الموظفين العموميين. ويُضاف إلى كل هذا حملات الشيطنة والتحريض التي استهدفت المنظمة أفرادا وهياكل وجامعات قطاعية منذ 2011، والتي كانت وراءها بعض القوى التي تُحسب اليوم على المعارضة، وتُعاتب حاليا اتحاد الشغل على عدم أداء دور بارز في التصدي لممارسات السلطة السياسية القائمة.

معركة اتحاد الشغل مع السلطة سياسية تبدو مرهقة وتتوسّع كل يوم أكثر، خاصة في ظل التناقضات والتصدعات داخلية وتآكل الظهير الشعبي لا يبدو أن المنظمة تعيش أحلى أيامها. إذ تجد قيادة الاتحاد نفسها في مفترق طرق، وبخيارات محدودة: رأب الصّدع الداخلي عبر توافقات جديدة، أو تخفيف الصدام مع السّلطة والتركيز على إخماد “التمرّدات” الداخلية، أو خوض معركتين في نفس الوقت وهو الخيار الأكثر كلفة. حتى حالة “اللاحرب واللاسلم” الذي قد ينتهجه “الخطّ العاشوري” في علاقته بالسلطة السياسية قد تُجنّب المنظمة صداما عنيفا، لكن هناك كلفة أيضا لهذا الخيار، يُجسّدها أساسا الظهور في صورة العاجز. ومن مظاهر هذا العجز: الصعوبات التي أصبحَت تجدها القيادة في حشد القواعد وضمان انضباط الهياكل الجهوية والمحلية خلال التجمعات والمظاهرات والإضرابات القطاعية والعامة، الجهوية والوطنية. إجراءات التتبع القضائي والتأديب الإداري التي تمس النقابيين -على خلفية نشاطهم النقابي- ما كانت لتصل إلى هذا الحجم والحدّة لو كان الاتحاد في موقع قوة، مثلما كان عليه الوضع قبل جويلية 2021. وكذا الحال بالنسبة لحجم الزيادات في أجور القطاع العام التي قَبلَ بها الاتحاد مكرهًا في خريف 2022، ومعركة وزارة التربية مع نقابات التعليم في ربيع – صيف 2023، التي أدت إلى اقتطاع أجور الآلاف من المعلمين. وكلّمَا تفاقم العجز أكثر ستفقد قيادة الاتحاد القدرة على ضبط دواليب “الماكينة” وفَرض “هيبتها” على الهياكل الوسطى والقاعدية، وهذا سيصب في مصلحة خصومها.

نشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لتحميل العدد بصيغة PDF


[1] المَركِب بالعامية التونسية، والإسم الذي يُطلقه النقابيون على المنظمة.

[2] المقر المركزي والتاريخي لاتحاد الشغل وسط العاصمة التونسية

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مقالات ، تونس ، حقوق العمال والنقابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني