الاتحاد العام التونسي للشغل: “الماكينة” و”الشقف” والتحديات القديمة-الجديدة


2022-03-02    |   

الاتحاد العام التونسي للشغل: “الماكينة” و”الشقف” والتحديات القديمة-الجديدة
المصدر: الصفحة الرسمية للاتحاد العام التونسي للشغل

حُصّل ما في الصناديق، وأسفرت نتائج المؤتمر الانتخابي الخامس والعشرون للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي انعقد بصفاقس من 16 إلى 18 فيفري 2022 عن تثبيت الأمين العام، نور الدين الطبوبي في منصبه إثر نيله ثقة أكثر من 90 % من المؤتمرين الحاضرين، وفوز ساحق لبقية أعضاء قائمته الأربعة عشر بأكثر من 80% من الأصوات. سبعة من بين الفائزين بعضوية المكتب التنفيذي الجديد كانوا حاضرين في المكتب السابق (مؤتمر 2017)، منهم خمسة كانوا حاضرين أيضا في المكتب الذي أفرزه مؤتمر 2011: نور الدين الطبوبي، سامي الطاهري، حفيّظ حفيّظ، أنور بن قدور وسمير الشفّي. لا مفاجآت إذا، ولا اختراقات ولا انشقاقات. جاء المؤتمر في ظرف حسّاس على مستوى داخلي، إذ لا يخفى على أحد أن هناك “جبهة رفض” لما يراه البعض ضربا لديمقراطية المنظمة وهيمنة على هياكلها وانفرادا بتسييرها من قبل “البيروقراطية” النقابية أو “الماكينة” كما تسمى في الأوساط النقابية. ولعل معركة “الفصل 20” أحد أبرز وجوه هذا الصراع. أما على المستوى الوطني فالأمور لا تقل حساسيّة، إذ تعيش البلاد أزمة مزدوجة ومترابطة تتعلق من جهة بضبابية الوضع السياسي المقلقة والمنعرجات الخطيرة للوضع الاقتصادي-الاجتماعي. 

عشرون عاما من “الفصل 20

يعلم كل متابع للشأن النقابي بشكل جيّد أن مسألة تعديل الفصل 20 من القانون الأساسي لمنظمة الاتحاد العام التونسي للشغل شكّلت أهمّ النقاشات والمعارك في الأوساط النقابية خلال السنوات الثلاث الأخيرة.  الجدل حول هذا الفصل الإشكالي يعكس وجود أزمة في التسيير الديمقراطي للمنظمة.

ولفهم المشكلة يجب العودة بالزمن عشرين عاما، تحديدا المؤتمر الانتخابي الاستثنائي الذي عقده اتحاد الشغل في جزيرة جربة في فيفري 2002. عقد هذا المؤتمر لانتخاب قيادة جديدة تخلف المكتب الذي كان يترأسه إسماعيل السحباني المسجون بتهم فساد والتي عرفت المنظمة في عهده واحدة من أسوأ مراحل التدجين والاستفراد بالقرار. وبغضّ النظر عن مدى صدق النوايا، تمّ خلال المؤتمر إقرار الفصل العاشر (الذي سيصبح فيما بعد الفصل 20) وينص على تسقيف عضوية المكتب التنفيذي بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. وكان الهدف من هذه الخطوة الإعلان عن مرحلة جديدة في تاريخ الاتحاد تتسم بديمقراطية أكبر في تسيير المنظمة وخلق فرص أكثر لتداول الكوادر النقابية على القيادة. ومن المفارقات أن هذا التسقيف أقرّ في نفس السنة التي نظم فيها نظام بن علي استفتاء يسقط سقف العهدات الرئاسية ليفتح الباب أمام رئاسة مدى الحياة. ويبدو أن قبول “الماكينة” البيروقراطية بهذا التسقيف لم يكن إلا مناورة وانحناء أمام العاصفة مكنها من تصفية إرث ونفوذ إسماعيل السحباني وامتصاص غضب النقابيين الديمقراطيين. فبعد سنوات قليلة، تحديدا في المؤتمر الانتخابي الذي نظم في مدينة المنستير في 2006، سعى المكتب التنفيذي الذي كان يقوده آنذاك عبد السلام جراد للتراجع عن هذا الفصل الديمقراطي. لكن عند التصويت، رفضت الأغلبية الساحقة من المؤتمرين العودة إلى الوراء. لم تستسلم القيادة وأعادت الموضوع إلى الواجهة في صيف 2010 أي قبل أشهر من عقد المؤتمر الانتخابي 22 في سنة 2011، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان، انفجر الغضب الشعبي في تونس وأسقط الديكتاتورية التي خنقته طيلة أكثر من نصف قرن. هذا الواقع الجديد جعل النقاش حول الفصل 10 يغيب عن التداول لمدة سنوات، ولم يتم المساس به في مؤتمر طبرقة 2011. وأضيفت إليه فصول في مؤتمر 2017 فأصبح اسمه الفصل [1]20 دون المساس بجوهره على الرغم من عودة النقاشات حول تعديله. ومع فتور الحماس “الديمقراطي” في تونس إثر تتالي الحكومات الفاشلة والتوافقات الحاكمة غير المنطقية وتفاقم الأزمة الاقتصادية، يبدو أن “الماكينة” البيروقراطية أحسّت بأن الوقت مناسب للإطاحة بالفصل عشرين الذين كان يقف حائلا بين أغلب أعضاء المكتب التنفيذي ورغبتهم في البقاء في مناصبهم. وابتداء من 2020، تحوّلت هذه المساعي إلى خطوات عملية ومعلنة. ففي ختام المجلس الوطني الذي انعقد في مدينة الحمامات في أوت 2020، وافقتْ أغلبية المؤتمرين على تنظيم مؤتمر استثنائي غير انتخابي لمناقشة تعديل جملة من الفصول من بينها الفصل 20. هذا الإعلان اعتبرتْه عدة شخصيات نقابية مهمة، من بينهم الأسعد اليعقوبي الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي أكبر النقابات القطاعية في المنظمة، انقلابا وضربا للعمل الديمقراطي وحاولوا التصدي لانعقاد المؤتمر الاستثنائي بالاحتجاج أمام مقرّات الاتحاد والحديث في وسائل الإعلام وأخيرا بالمقاطعة لكن من دون جدوى. انعقد المؤتمر في سوسة في يومي 8 و9 جويلية 2021، أي في أوجّ الأزمة الوبائية، في تحدّ صارخ للبروتوكولات الصحية من جهة والاحتجاجات الداخلية من جهة أخرى. تمّ تعديل الفصل 20 “الديمقراطي” الذي أقرّ في زمن الديكتاتورية وسقط في زمن “الديمقراطية ممّا سمح لعدد من أعضاء المكتب التنفيذي الحالي بإعادة الترشّح. وبالتالي كانت الظروف مهيأة لفوز نور الدين الطبوبي وقائمته في مؤتمر صفاقس 2022. وحتى الطلب الاستعجالي الذي رفعه يوم 8 فيفري بعض النقابيون للقضاء بهدف منع عقد المؤتمر، فقد رفضتْه الدائرة الاستعجالية بالمحكمة الابتدائية يتونس لسبب “تقني” يبعث على الضحك والاستغراب: القائمون بالدعوى ليست لهم الصفة اللازمة فهم لا يحملون بطاقات انخراط في المنظمة. وعلى الرغم من استظهارهم بما يفيد اقتطاع مبالغ شهرية كمعاليم انخراط لفائدة اتحاد الشغل، فإن المحكمة لم تقتنع: لا نقابي بدون “كارطة”، وهذا موضوع آخر يستحقّ وحده مقالا مطوّلا حول “حسابات” و”آليات” توزيع بطاقات الانخراط.

“الماكينة” تحكم سيطرتها على “الشقف”[2]

داخل قاعة المؤتمر، كانت حركة الاحتجاج الأخيرة عندما رمى محمد علي البوغديري، الأمين العام المساعد في المكتب المتخلي والرافض لتعديل الفصل 20، القانون الأساسي للمنظمة على الأرض تعبيرا عن غضبه مما اعتبره “دوسا” على القانون من قبل قيادة المنظمة التي رفضت تأجيل المؤتمر إلى حين ضمان التوافق بين مختلف المواقف. بعدها سارت الأمور بسلام.  لم يكن من المفاجئ أنه لم تحصل مفاجآت في المؤتمر من ناحية النتائج والإجماع. فالمؤتمر الانتخابي هو في أغلب الأحيان شكلي. لا يعني هذا أن هناك تزويرا للنتائج أو منعا لشخصيات من الترشّح أو إجبار الناخبين على التصويت في اتجاه معين، بل هذا نتيجة للقانون الانتخابي من جهة ولطريقة سير دواليب “الماكينة” من جهة أخرى. لا يتمّ انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي للمنظمة بشكل مباشر من قبل القواعد النقابية بل عن طريق “النوّاب المؤتمرين” وهم من يمكن أن نسميهم “كبار الناخبين”. يحدد عدد هؤلاء النواب حسب عدد المنخرطين في اتحاد الشغل في كل جهة وكل واحدة من النقابات القطاعية على قاعدة نائب لكل 700 منخرط يضاف إليهم أعضاء الهيئة الإدارية للمنظمة وهم: أعضاء المكتب التنفيذي والكتاب العامين للنقابات القطاعية والاتحادات الجهوية للشغل ورئيس الهيئة الوطنية للرقابة المالية ورئيس هيئة النظام الداخلي. لا وزن حقيقي للقواعد النقابية في انتخابات المكتب التنفيذي، “اللعبة” بين أيدي المسؤولين النقابيين في الهياكل الوسطى والعليا للمنظمة. الفوز بالانتخابات لا يتطلب حملة انتخابية ولا جولات في ربوع البلاد ولا لقاءات مع النقابيين “الصغار”، بل يستلزم النجاح في تكوين شبكة من التحالفات والولاءات شيه “الزبائنية” وتشكيل قائمة انتخابية تراعي تمثيلية القطاعات الكبرى والجهات الوازنة وكذلك التيارات السياسية المتغلغلة تاريخيا في العمل النقابي، أساسا اليسار والقوميّون. كل هذا مع حضور قويّ للخطّ “العاشوري” (نسبة إلى الحبيب عاشور القائد التاريخي للمنظمة) أي النقابي “البراغماتي” غير “المؤدلج”. ومن أقدر من “أولاد الماكينة” -أعضاء المكتب التنفيذي القديم-على تشكيل القائمات “التوافقية” واستنفار شبكات العلاقات؟ فوز الطبوبي وقائمته حُسم في مؤتمر سوسة 2021 لا في مؤتمر صفاقس 2022.

غضب الكثير من النقابيين من “الماكينة” لا يقتصر على مسألة التسيير الديمقراطي للمنظمة، بل يتعداه لأمور تتعلق بشفافية التصرف في الموارد المالية للمنظّمة. من الصعب جدّا الحصول على تقارير مفصّلة حول عائدات ونفقات الاتحاد العام التونسي للشغل. حتى أن النائب عماد الدايمي التجأ يوما ما إلى القضاء والهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومات لتمكينه من تقارير المحاسبات والتقرير المالي لمؤتمر 2017. والاطلاع على هذه الوثائق ليس حقّا للنقابيين فقط بل لكلّ التونسيين بما ان المنظّمة تتلقى سنويا دعما ماليّا عموميّا يناهز خمسة ملايين دينار. فضلا عن الدعم العمومي، تجمع المنظّمة سنويا عوائد تقدر بملايين الدينارات أكثر من نصفها مصدره معاليم الانخراط التي تقتطع شهريا من أجور المنخرطين، والبقية تأتي من تأجير مقرات وقاعات ونزل “أميلكار” وأسهم الاتحاد في شركة التأمين “آمي”. لا يعلم الكثيرون كيف تصرف أموال الاتحاد بشكل مفصّل، وكثيرا ما تطرح أسئلة عن عدد المنتفعين من منح التفرّغ النقابي وعن حجم الأموال المرصودة لتنظيم الاجتماعات والمؤتمرات، إلخ. كما أن هناك انتقادات لما يراه البعض علامات إثراء تظهر على قيادات نقابية سواء من حيث السيارات المستعملة في تنقّلهم، أو المساكن التي يقطنونها وحتى الحفلات الخاصة التي ينظمونها في المناسبات العائلية مثل حفلات زفاف أبنائهم، بل وفي الوظائف المهمّة التي يتحصّل عليها أقربائهم.

هذه الأمور تبقى “داخليّة” بالأساس ويفترض أن تعالجها هياكل الاتحاد لا جهات خارجية، لكنها تؤثّر بكل تأكيد على وحدة المنظمة وأدائها وتعاملها مع الوضع السياسي والاقتصادي المتأزم في تونس.

اتحاد الشغل والسلطة السياسية: التنائي والتداني

“أضحى التنائي بديلا عن تدانينا، وناب عن طيب لقيانا تجافينا”، بهذين البيتين من “نونية” الشاعر ابن زيدون الشهيرة، استقبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي يوم 15 جانفي 2022. وكان المقصد واضحا من هذه المرجعية الشعرية، في إشارة إلى التوتر الذي شاب العلاقة بين المنظمة ممثلة في أمينها العام ورئاسة الجمهورية في الأشهر الأخيرة، بعدما كانت العلاقة بين الطرفين وديّة طيلة السنتين الفائتتين. حتى أن الاتحاد دعم بشكل “متحفّظ” إجراءات 25 جويلية 2021، قبل أن تتوتر العلاقة تدريجيا منذ خريف 2021 وصولا إلى الخطاب “الحربي” للطبوبي في 22 ديسمبر 2021 عندما قال معلّقا على السياسة الاقتصادية لحكومة الرئيس: “تريدونها معركة ازدهار سنكون في المقدمة، وإذا أردتموها معركة كسر عظام فنحن لها”. ليردّ الرئيس بشكل غير مباشر: “نحن نريد العظمة لبلادنا ونريد أن نموت موت العِظام ولا نتحدّث عن كسر العظام… لا أريد أن أتحدّث عن كسر عظم أيّ كان، لكن فلينظروا في القواميس لمعرفة الفرق بين العَظمة والعِظام”.

الاتحاد دعم قيس سعيد لكن مع مطالبته بتسقيف زمني للفترة الاستثنائية وإدارتها بشكل جماعيّ عبر حوار وطني دعتْ له المنظمة أكثر من مرّة. لكن مع تتالي الأسابيع والأشهر، فهمت قيادة الاتحاد أن سعيّد لا يقيم وزنا للأحزاب ولا للمنظمات وأنه ليس في نيّته إشراك أحد في إدارة فترة “الإجراءات الاستثنائية”. كما أن أصداء مفاوضات حكومة نجلاء بودن مع صندوق النقد الدولي لم تكن مطمئنة أبدا.

 اتحاد الشغل لم يعد يرضى بالتهميش أو بالاصطفاف الصريح بل يصرّ على موقعه كفاعل رئيسي في البلاد يلعب أدوارا متقدمة في رسم سياساتها. فبعد 2011 ليس كما قبله. طيلة أكثر من نصف قرن، عانتْ المنظّمة من علاقات معقّدة مع الرؤساء المتعاقبين على البلاد. فمنذ ولادة الاتحاد في سنة 1946 كانت العلاقة مع السياسي في أغلب الأحيان علاقة إلحاق، وأحيانا توقا وسعيا للاستقلال، وفي مرات قليلة صداما مباشرا. بدأت العلاقة أيام الحركة الوطنية ضدّ الاستعمار في إطار وحدة الصراع واستمرّ الالحاق بعد الاستقلال في إثر دخول الاتّحاد رفقة منظمات أخرى في قائمة “الجبهة القومية” بقيادة “الدساترة”[3] التي حصدت كلّ مقاعد المجلس التأسيسي الأول. ومع أولى محاولات اكتساب بعض الاستقلالية وإعلاء حدّة الخطاب النقابي ذي النفس العمالي و”الاشتراكي” خلال فترة تولي أحمد بن صالح للأمانة العامة للاتحاد، توجّس بورقيبة من المنظمة وسعى إلى إخضاعها كليّا عبر إزاحة بن صالح وتنصيب أحمد التليلي مكانه بتواطؤ من الحبيب عاشور الذي ضغط على الاتحاد العام التونسي للشغل وهدّد وجوده بإنشائه لمنظمة “الاتحاد التونسي للشغل”[4] في 8 أكتوبر 1956. لم يسلم التليلي من تعسّف النظام. فلقد كان من القيادات الوطنية التي نادت مبكرا بضرورة دمقرطة الحياة السياسية في تونس وعارض بورقيبة بشكل صريح منذ 1962. وعليه، لم تتأخر إزاحته من الأمانة العامة للاتحاد ليحلّ مكانه سنة 1963 الحبيب عاشور المقرب من بورقيبة والقيادي التاريخي للمنظمة النقابية والعضو في المكتب السياسي للحزب الدستوري. وعلى الرغم من العلاقة القوية مع بورقيبة، فإن فترات تولي عاشور للأمانة العامة (1963-1965، 1970-1978، 1984-1989) تميزت بتوتر العلاقة مع النظام إلى حد الصدام الحادّ والقمع الدموي خاصة في أحداث “الخميس الأسود” (26 جانفي 1978) و”انتفاضة الخبز” (جانفي 1984). ولم يتردد بورقيبة في الزج بعاشور في السجن في ثلاث مناسبات (1965 و1978 و1986). من المفارقات أن هذا الرجل الذي استعان به بورقيبة لإخضاع الاتحاد بعد الاستقلال هو الذي خاض أشرس المعارك لفكّ ارتباط المنظمة مع النظام. ويبدو أن الأثمان التي دفعها لذلك جعلت الأمناء العامين الذين أتوا بعده “يتّعظون”. فأثناء تولي إسماعيل السحباني ثم عبد السلام جراد للأمانة العامة (بالتزامن مع فترة حكم بن علي لتونس)، عاد الاتحاد -أي القيادة- إلى مربّعات الولاء للنظام وتجنّب الصدام معه مما أسهم في ولادة تيار نقابي معارض صلب المنظمة مع بداية الألفية الثالثة سعى إلى التصدي إلى المواقف المنبطحة لقيادة “الشقف” لكن من دون تهديد جديّ لل”ماكينة”. 

منذ 15 جانفي 2011، دخل الاتحاد في مرحلة جديدة، بدأت بتكوين لجان حماية الثورة كهياكل تسعى ل”تعويض” السلطة السياسية في إثر الفراغ الذي تركه خلع بن علي وتفكّك حزبه، وحتى إسناد الدولة في بعض مهامها (حفظ الأمن، استمرارية التزود بالمواد الغذائية وعمل المجالس المحلية والإدارات، الخ)، ثم المشاركة في تشكيل حكومات الفترة الانتقالية (جانفي-أكتوبر 2011) ورسم خارطة طريقها. كما استغلّ الاتحاد فترة اهتزاز الدولة والإدارة المركزية ليفرض اتفاقيات تحسّن أوضاع منخرطيه والشغالين عموما (ترفيع في الأجور، انتدابات، تسوية وضعيات العاملين بعقود هشّة) مما أعاد إليه بعض إشعاعه المفقود وجلب له عشرات الآلاف من المنخرطين الجدد. نقطة أخرى استغلّها الاتحاد جيّدا: في 15 جانفي 2011 كان الاتحاد أكبر “تنظيم” مهيكل في البلاد خاصة في ظل انهيار الحزب التاريخي الذي حكم تونس طيلة أكثر من نصف قرن، وتشرذم الأحزاب اليسارية والقومية ومرور الحركة الإسلامية بمرحلة انتقالية تنظّم فيها صفوفها بعد عشريتين من الغياب. لم يضمن الاتحاد فقط استقلاليته عن السلطة بل كسب موقعا متميزا في المشهد السياسي جعله نقطة عبور رئيسية في الطريق إلى الحكم، لا يمكن القفز فوقها ولا الالتفاف حولها. وحتى عندما سعت حكومة “الترويكا” بقيادة إسلاميي حركة النهضة (2011-2013) إلى تحجيم المركزية النقابية وتأليب الرأي العام عليها وحتى مهاجمتها بشكل صريح وعنيف لم تفلح في ذلك بل جعلت قيادة الاتحاد وقواعده تدخل في سلسلة من الاحتجاجات والإضربات التّي شكلت صداعا مزمنا لحركة النهضة وحلفائها وأضعفت قدرتهم على الحكم. انضمام اتحاد الشغل إلى “الرباعي الراعي للحوار” في شتاء 2013 لتفكيك الأزمة السياسية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك ونجاحه في ذلك في جانفي 2014 ثم حصوله على جائزة نوبل للسلام في 2015، كلها أمور أسهمت في تعزيز مكانته محليا ودوليا. ولم يعد من المنطقي أن تتنازل المنظمة وقيادتها عن كل هذا النفوذ وتكتفي بدور نقابي “محض”. وهذا ما فهمه الرئيس السابق الباجي قايد السبسي الذي حرص على الحفاظ على علاقات ودية مع المنظمة حتى أنه عين وزراء وولاة وقناصل تحمّلوا سابقا مسؤوليات نقابية هامة. ولا يبدو أن قيس سعيّد فهم هذه المعادلة الجديدة، وربما هو يفهمها جيدا لكنه لا يقبل بها.. إلا على مضض.

على كل حال، درجة حرارة العلاقة بين اتحاد الشغل ورئيس الجمهورية سيكون لها تأثير كبير على المرحلة القادمة في تونس. وهذه العلاقة ستكون محكومة بأمرين: أولا إشراك المركزية النقابية في حوار وطني حول الوضع السياسي بشكل حقيقي وفعّال لا رفعا للعتب، وثانيا التوافق معها على السياسة الاقتصادية للحكومة في ظل الأزمة المتفاقمة التي تعيشها البلاد.

نسب التداين الخارجي والتضخم وغلاء المعيشة والبطالة، بلغت مستويات لم تعد تهدد “السلم الاجتماعي” فقط بل قد توصل البلاد إلى شفير الإفلاس والانهيار. تونس اليوم محاصرة بإملاءات صندوق النقد الدولي وضغوط “الشركاء” الغربيين وتصنيفات والدرجات السيئة التي تمنحها وكالات التصنيف الائتماني العالمية. وسط كل هذا، نجد حكومة من الموظفين من دون رؤى سياسية ولا جرأة ولا خيال لإيجاد حلول للأزمة غير السير على دروب أسلافهم: المزيد من التداين واستجداء الممولين، تطبيق وصفات التقشف وتقليص الإنفاق العمومي ذي الطابع الاجتماعي، تجميد الانتدابات في أغلب هياكل ومؤسسات القطاع العام، السعي إلى تقليص كتلة الأجور، رفع الدعم عن المحروقات والسلع الغذائية الأساسية، خصخصة المؤسسات العمومية “المتعثرة”، الخ. 

وفي ظل غياب أحزاب عمالية ويسارية قوية ووازنة يمكنها أن تكبح هذه الهرولة نحو المرحلة الأخيرة من تصفية سيادة الدولة التونسية والقطاع العمومي والمكاسب الاجتماعية القليلة للتونسيين، يتحمّل الاتحاد العام التونسي للشغل مسؤولية كبيرة في مواجهة السياسات النيوليبرالية التي تتوارثها الحكومات التونسية المتعاقبة. 

لكن هل تستطيع المنظمة، التي تعيش خلافات واضطرابات داخلية قد تضعفها خاصة وأن موقعها المتقدم في المشهد السياسي مهدّد، أن تلعب هذا الدور التاريخي؟  هل تستطيع “الماكينة” أن تحافظ على “الشقف” وتجعل منه قارب نجاة لملايين التونسيين المهدّدين بالغرق في بحر ظلمات الفقر والإفقار؟


   الفصل العشرون
أـ يتركب المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل من خمسة عشر عضوا(15) على أن لا يتجاوز عدد المتقاعدين منهم أربعة أعضاء
ب ـ يتم انتخابهم من قبل المؤتمر العام بالاقتراع السري لمدة خمس نوات قابلة للتجديد مرة واحدة
من القانون الأساسي الذي تم تنقيه في المؤتمر الثالث والعشرين بتاريخ 23 ـ 24 ـ 25 جانفي 2017 ص 13 و14 [1]
[2]  مصطلح عامي تونسي يعني القارب أو الهيكل والوعاء/بحسب سياق استعماله. كما أنه يُستعمل في الأوساط النقابية والسياسيّة التونسية للدلالة على منظّمة الاتحاد العام التونسي للشغل
[3]  نسبة إلى الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد الحاكم إثر استقلال تونس سنة 1956
[4]  سالم الحداد: الحركة النقابية في تونس بين الاستقلالية والتبعية III: الاتحاد العام التونسي للشغل ونظام بورقيبة بين الوئام والصدام ج I تونس، ديسمبر 2011
انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، تونس ، دستور وانتخابات ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني