الإصلاح الجبائي أداة لتفعيل حقوق الإنسان: الحقّ في السكن نموذجاً


2021-10-20    |   

الإصلاح الجبائي أداة لتفعيل حقوق الإنسان: الحقّ في السكن نموذجاً

لم يتطوّر النقاش العامّ حول الجباية كثيراً بعد الثورة. فقد بقي أو يكاد يبقى حكراً على المختصّين في القانون والاقتصاد والخبراء المحاسبين، في حين لم يغب عنه الفاعل السياسي فقط، بل وكذلك الحقوقي. نتيجةً لذلك، كثيراً ما تُختزل العلاقة بين الجباية وحقوق الإنسان في الضمانات التي يجب توفيرها للمُطالَب بالأداء أمام تعسّف الإدارة الجبائية، أو حتّى أمام التشريع الجبائي، باسم مبدأ الأمان القانوني. حتّى مبادئ القبول بالضريبة، عملاً بشعار “لا ضرائب دون تمثيل”، والإنصاف الجبائي، والمساواة أمام الأعباء العامّة، فإنّها تبقى في معظم الأحيان حبيسة التمثّل ذاته للضريبة، الذي يُنظر إليها كجزية تُدفع للسلطة، أكثر من كونها مساهمة مشروعة وضرورية في الأعباء العامّة، لفائدة المجموعة. وبقطع النظر عن المبرِّرات التاريخية والسياسية لهذا التمثّل، فإنّ تغييره يمرّ أوّلاً وقبل كلّ شيء عبر إصلاح جبائي عميق يحمل مضموناً اجتماعياً وحقوقياً صريحاً. فالجباية ليست مجرّد واجب، إنّما هي أيضاً أداة ضرورية لتفعيل حقوق الإنسان، وذلك عبر دورَيْها التقليديين: التمويل وتدخّل الدولة.

يجب  ألّا ننسى أنّ حقوق الإنسان، وإن كانت لا تُقدَّر بثمن، لها كلفة يتوجّب تمويلها، وهو ما يتأتّى أساساً من الموارد الجبائية. وخلافاً للخطاب السائد، لا يتعلّق الأمر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقط، بل أيضاً الحقوق المدنية والسياسية التي تحتاج إلى استثمارات قد لا تقلّ كلفة[1]. كذلك، وبعيداً عن وهم الأداة السحرية القادرة وحدها على توجيه تصرّفات الأفراد، تبقى الجباية، خصوصاً إذا ما انخرطت في سياسات عمومية شاملة ومتكاملة ومتواصلة، آليّة مهمّة بيد الدولة لخدمة غايات اجتماعية وحقوقية.

قد تبدو الفكرة مجرّدة أو بعيدة أو حتّى طوباويّة. لذلك اخترنا الغوص فيها انطلاقاً من مثال ملموس، هو الحقّ في السكن الذي لا نبالغ إذا اعتبرناه من أكثر الحقوق المنسية في تونس، بخاصّة في الفترة الأخيرة. ولعلّ سهو المجلس الوطني التأسيسي عن التنصيص عليه بشكل صريح في دستور 2014، على عكس بقيّة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يزخر بها، يحمل دلالات عميقة حول مكانته في ذهنيّة النخب وفي النقاش العامّ. كذلك، ورغم أنّ السكن يُعدّ من المرافق الأساسية التي ارتبطت تاريخياً بالدولة الراعية، أسوة بالتعليم والصحّة والنقل والضمان الاجتماعي، كان الأكثر تضرّراً من تراجع دور الدولة. لذلك سنحاول في هذه المقالة العودة إلى تطوّر السياسات العمومية في مجال الحقّ في السكن منذ الاستقلال حتّى سنوات ما بعد الثورة، مع إبراز حدودها وتقفّي أثر المستفيدين منها. وانطلاقاً من هذا التشخيص سنقترح بعض التوجّهات الجبائية التي نراها قابلة للتنفيذ ومن شأنها، إذا ما انخرطت في سياسات عمومية شاملة، أن تساهم في ضمان الحقّ في السكن لأكبر عدد ممكن من المحتاجين إليه.

 

الاستقالة التدريجية للدولة من السكن الاجتماعي

لم يمنع غياب الاعتراف الدستوري في 1959، وحتّى التشريعي، بالحقّ في السكن الدولة من انتهاج سياسات إرادوية في هذا المجال. فقد أنشأت دولة الاستقلال، منذ 1957، الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية “السنيت”، بهدف توفير مساكنَ لمختلف الطبقات الاجتماعية. كان مخطّط الآفاق العشرية (1962-1971) عالي الطموح، إذ وضع هدف إحداث 184 ألف مسكن، لم يُنجز منها في الواقع سوى نسبة ضئيلة جدّاً (أقلّ من 2000 مسكن إلى غاية سنة 1968). وقد استهدف تدخّل السنيت في البداية الفئات الضعيفة اقتصادياً، عبر المساكن الشعبية، والعمّال وصغار الموظّفين، عبر السكن العمّالي[2].

عرف نشاط “السنيت” ذروته في السبعينيات والثمانينيات، حيث بلغ معدّل المساكن المُنجَزة في النصف الثاني من السبعينيات أكثر من 20 ألف مسكن سنوياً[3]. تزامن ذلك مع إعادة هيكلة تدخّل الدولة في مجال السكن، إذ تركّز نشاط “السنيت” على المقاوَلة العقارية في حين نشأت هياكل جديدة، أبرزها الوكالة العقارية للسكنى، ووكالة التهذيب والتجديد العمراني، وشركة النهوض بالمساكن الاجتماعية، وصندوق النهوض بالمسكن لفائدة الأجراء، والصندوق القومي للادّخار السكني الذي تحوّل سنة 1989 إلى بنك الإسكان. لكنّ مجهود الدولة استهدف تحديداً الطبقات المتوسّطة في القطاع المُنظَّم، ليس عبر بيع المقاسم وتسهيل التمويل وحسب إنّما أيضاً عبر نسبة مهمّة من المساكن الجاهزة التي تبنيها السنيت. أمّا المساكن الاجتماعية فقد تقلّصت نسبتها شيئاً فشيئاً وتركّزت في ضواحي المدن الكبرى، في محاولة للفصل الجغرافي بين سكّان المدينة والوافدين الجدد عليها من المناطق الريفية[4].

بعد ذلك، تقهقر دور الدولة بشكل واضح منذ أواخر الثمانينيات تزامناً مع برنامج الإصلاح الهيكلي. فقد تراجع المُعدّل السنويّ لعدد المساكن التي تنجزها “السنيت” إلى 3 آلاف مسكن في التسعينيات، و1600 مسكن في الألفينيات. تركّز مجهود الدولة على إعادة تأهيل الأحياء الشعبية، بخاصّة في ظلّ انتشار ظاهرة البناء العفوي، تاركة بناء المساكن للقطاع الخاصّ. هكذا، عوّضت الدولة تدخّلها المباشِر ببرامج وصناديق لتسهيل التمويل وكذلك بامتيازات جبائية للباعثين العقاريين الخواصّ الذين ينجزون مساكن اجتماعية. امتيازات لم تعطِ أكلها قط، باستثناء تلك المتعلّقة ببناء المبيتات الجامعية للطلبة[5].

بعد الثورة، استُحدث برنامجاً خاصّاً للسكن الاجتماعي في 2012 بهدف تعويض وتحسين المساكن البدائية لمحدودي الدخل، بالإضافة إلى بناء مساكن اجتماعية وتَهْيِئة مقاسم جديدة، عبر مختلف المتدخّلين، العموميين والخواصّ. وإذا كان الجزء الأوّل قد شارف أخيراً على الانتهاء، بانتفاع 9 آلاف عائلة به، فإنّ أرقام الجزء الثاني للبرنامج، بعد تسع سنوات من إطلاقه، أبلغ تعبير عن مدى التزام الدولة بالحقّ في السكن. فقد تقرّر إحداث 20 ألف مسكن ومقسم جديد، برمجتْ الوزارة 13 ألفاً منها، لم يُنجز منها إلى الآن سوى 4 آلاف مسكن ومقسم تقريباً، معظمها تعطّل تسليمه في حين بلغ عدد المطالب الواردة 234 ألفاً[6].

 

الحقّ في السكن، حكر على الطبقة المتوسّطة في القطاع المُنظَّم؟

في ظلّ تراجع دور الدولة في بناء المساكن الاجتماعية، وارتفاع أسعار العقارات بشكل مستمرّ، تركّزت سياسات السكن أكثر فأكثر على تسهيل التمويل. احتكر بنك الإسكان قروض السكن إلى حدود سنة 2001 حين أُتيحت للبنوك الخاصّة. لكنّ التمويل البنكي في تونس، سواء عبر البنوك العمومية أو الخاصّة، له طابع إقصائي، فلا يتمتّع به سوى الأجراء في القطاع المنظَّم، بالإضافة طبعاً إلى الفئات الأكثر ثراء، كما أنّه مُكْلف جدّاً بالنظر إلى آجال وشروط تسديده وفوائده. لعب صندوق النهوض بالمسكن لفائدة الأجراء “الفوبرولوس”، الذي يُموَّل عبر مساهمة 1% على الأجور، دوراً في توفير قروض سكنية لفائدة الأجراء متوسّطي الدخل. لكنّه، في غياب سياسات أخرى شاملة، ساهم في إقصاء فئات واسعة غير منخرطة في الاقتصاد المنظَّم والوظيفة العمومية من مجال السياسات العمومية للسكن. الملاحظة نفسها تنطبق على تدخّلات شركة النهوض بالمساكن الاجتماعية التي تنحصر خدماتها في فئة المؤمّنين لدى الصناديق الاجتماعية وبرامج أخرى عدّة لفائدة الموظّفين في قطاعات معيّنة. تكرّر المنهج ذاته في برنامج المسكن الأوّل، الذي أطلقته الحكومة في 2017 ويقضي بفتح خطّ تمويل ميسَّر لفائدة الأسر والأفراد لتوفير خُمس كلفة المسكن على أن تتولّى البنوك باقي التمويل، إذ إنّ الشرط الأوّل للانتفاع به أن تكون أجيراً في القطاع المنظَّم.

هذه البرامج مثال على السياسات الترقيعية لتراجع القدرة الشرائية للموظَّفين والأجراء، نتيجة إصرار الدولة على المحافظة على سياسة الأجور المنخفضة، وامتناعها عن معالجة أسباب ارتفاع كلفة المساكن، وأهمّها المضارَبة العقارية. كما أنّها في الآن ذاته تعبير عن إحدى أهمّ علل نموذج دولة الرعاية في تونس، اقتصار تمويلها كما خدماتها على أجراء القطاع المنظَّم. ساهم ذلك في تشجيع الفئات خارج الاقتصاد المنظَّم على البناء التلقائي الذي تبقى كلفته أقلّ بكثير وأصبح يشكّل نحو 40% من إنتاج المساكن في تونس.

حاولت الدولة مؤخّراً تدارك هذا الخلل عبر إحداث صندوق ضمان القروض السكنية لفائدة الفئات الاجتماعية من ذوي الدخل غير القارّ، في قانون الماليّة لسنة 2018، وتمويله باعتمادات من ميزانية الدولة. كان هذا الإجراء أحد أبرز توصيات الاستراتيجية الجديدة للسكن التي صدرت سنة 2015. وفي انتظار الحصيلة الأولى لتدخّلاته، تبقى التفاتة الدولة إلى هذه الفئات، ولو بتأخّر شديد، خطوة إيجابية لكنّها لا تحلّ أصل المشكل وهو الارتفاع المشطّ لكلفة المساكن بالمقارنة مع مستوى دخل معظم الأسر.

 

الحقّ في السكن، رهينة المنطق الربحي للخواصّ… والدولة

برامج تسهيل التمويل، بغضّ النظر عن محدوديّة نجاعتها، تهدف بخاصّة إلى حلّ أزمة قطاع عقاري فاض لديه العرض بدون أن تكون أسعاره متاحة للطلب. يظهر ذلك بوضوح في الصيغة الأولى لبرنامج المسكن الأوّل التي كانت تشترط اقتناء إحدى شركات البعث العقاري[7] المسكن، قبل أن يتمّ التراجع عن ذلك تحت ضغط الرأي العامّ والمعارضة. مثال برنامج المسكن الأوّل ليس استثناء، إذ إنّ الفوبرولوس، بإقصائه البناء الذاتي في معظم الحالات، يوجّه تسهيلاته تحديداً إلى اقتناء المساكن الجاهزة الجديدة التي تأتي في معظمها من الباعثين الخواصّ[8]. تُضاف هذه السياسات إلى الامتيازات الجبائية العديدة التي وفّرتها الدولة منذ أواسط السبعينيات، بخاصّة منذ بداية التسعينيات، لفائدة الباعثين العقاريين.

ولم تُعطِ هذه الامتيازات أكلها رغم أنّ بعضها هدف إلى تشجيع الباعثين على بناء المساكن الاجتماعية، إذ لا يتجاوز معدّل بناء القطاع الخاصّ للمساكن الاجتماعية 400 مسكن سنوياً[9]. ففي ظلّ تراجع نسبة الضريبة على الشركات من جهة، وتعدُّد مجالات الخصم من المورد والضريبة الدنيا من جهة أخرى، يصعب على الامتيازات الجبائية أن تعوّض شهيّة الخواصّ للربح المباشر الذي يتوفّر في بيع المساكن عالية الطراز.

وانخرط الفاعلون العموميون بدورهم في المنطق الربحي، باسم الحفاظ على التوازن المالي، حيث أنّ معظم المشاريع التي تنجزها “السنيت” وشركة النهوض بالمساكن الاجتماعية هي مبانٍ عالية الطراز أو اقتصادية، وذلك على حساب مهمّتهما الأصلية وهي السكن الاجتماعي[10]. كذلك شأن الوكالة العقارية للسكنى التي، بالإضافة إلى التراجع المستمرّ في دورها، اختارت منذ البداية نموذجاً لتهيئة المقاسم يلائم حاجات الطبقة الوسطى العليا.

طال هذا المنطق الربحي كذلك الدولة مباشرة، إذ تجاوزت الموارد الجبائية المتأتّية من قطاع السّكن، إلى حدود سنة 2014، مجموع النفقات العمومية فيه بما فيها دعم الفاعلين العموميين ومختلف البرامج حتّى باحتساب النفقات الجبائية، أي كلفة الامتيازات الجبائية الممنوحة للقطاع[11]. لا بل يُرجَّح جدّاً أن يكون هذا الفائض الذي تحقّقه الدولة في قطاع السكن قد ارتفع في السنوات الأخيرة بفعل إخضاع عمليّات بيع المساكن منذ 2018 إلى الأداء على القيمة المضافة، التي يتحمّلها طبعاً المستهلكون. يعني هذا أنّ الدولة لا تتعامل مع السكن كحقّ يجب توفيره ومرفق عمومي يجب إتاحته، إنّما كقطاع اقتصادي مثل غيره، بل ربّما كمتغيّر للتعديل (variable d’ajustement) لتقليص العجز في الميزانية.

 

الحقّ في السكن، يمرّ حصراً عبر امتلاك المسكن؟

تظهر استقالة الدولة تحديداً في مجال الكراء السكني، فالدولة لم تسعَ إلى تأطير العلاقة بين المالكين والمتسوّغين لأجل السكنى، بشكل يحمي حقوق الطرف الأضعف، ولم تنتهج سياسات تُذكر للحدّ من ارتفاع أسعار الكراء. فقانون 18 فيفري 1976 الذي ينظّم العلاقة بين المالكين والمكترين لأجل السكنى، والذي يضمن بخاصّة حقّ البقاء، جاء بطابع استثنائي ومؤقّت، حيث لا ينطبق إلّا على العقود المُبرَمة قبل دخوله حيّز النفاذ والمتعلّقة بمساكن مبنيّة قبل 1954. حتى تنقيحه بقانون 1 مارس 1978 لم يُعمّم الحقّ، وإنّما اكتفى بتمديد مجاله قليلاً ليشمل العقود المبرَمة قبل 1 مارس 1978 والمتعلّقة بمساكن مبنية قبل سنة 1970. وحتّى تنقيح 1993 لم يتدارك الأمر[12]. نتيجة لذلك، الغالبية الساحقة من عقود كراء المنازل لغاية السكنى اليوم خارجة عن مجال انطباقه، ممّا يعني خضوعها لعقود الكراء التي يختلّ فيها التوازن بين الطرفين، ويحكمها منطق السوق من دون أيّ ضابط. في المقابل، تبقى الأكرية لغايات صناعية وتجارية وحرفية خاضعة لقانون خاصّ بها، لم يتضمّن مثل هذه الحدود، نظراً إلى أنّ الرهانات والمصالح مختلفة.

من البيّن أنّ تحرير سوق الكراء لأجل السكنى كان خياراً سياسياً، حيث سعَتْ السلطة إلى مواجهة الأزمة العقارية والاجتماعية المشتعلة في النصف الثاني من السبعينيات، لكن دون المساس بمصلحة البرجوازية الجديدة من الملّاك العقاريين، فكان ذلك على حساب الأسر المتسوّغة. ويتأكّد تقاعس المشرّع من خلال عدم تنظيم عقود الكراء في قانون 26 فيفري 1990 المنظِّم للبعث العقاري، رغم أنّ تعريف المهنة يشمل غايَتَيْ البيع والإيجار على حدّ سواء[13].

كان هاجس الدولة منذ الاستقلال الترفيع في نسبة العائلات التي تمتلك منزلها، واترفعت هذه النسبة من 74% في سنة 1975 إلى 79% في سنة 1984، قبل أن تشهد تراجعاً بطيئاً بفعل ارتفاع أسعار الأراضي وكلفة البناء وتراجع مجهود الدولة في السكن الاجتماعي، لتستقرّ في حدود 77% سنة 2014. في المقابل، شهدت نسبة الأسر الساكنة على وجه الكراء ارتفاعاً مستمرّاً منذ الثمانينيات لتصل إلى حدود 18%، وتبلغ أقصاها في العاصمة حيث لا تتجاوز نسبة الأسر المالكة مساكنها 62%[14].

لكنّ تحرير سوق الكراء للسكنى بالكامل سمح بارتفاع مستمرّ للأسعار بخاصّة في العاصمة. يظهر ذلك من خلال ارتفاع نفقات السكن، حسب المعهد الوطني للإحصاء، لتشكّل 27% من معدّل إنفاق الأسرة التونسية. فقد ارتفع متوسّط إنفاق الفرد الواحد للسكن، بين 2010 و2015، من 635 د. إلى 1035 د.، أي بزيادة 62%[15].

هذا الارتفاع المستمرّ لأسعار الكراء ليس انعكاساً طبيعياً لقاعدة العرض والطلب، فنسبة المساكن الشاغرة هي أيضاً في ارتفاع مستمرّ. إذ يوجد، حسب الأرقام الرسميّة، أكثر من 582 ألف مسكن شاغر. هذا المخزون، حتّى دون اعتبار ما هو موجود في مدن تقتصر ذروة الطلب فيها على أشهر الصيف، قادر على المساهمة في سدّ حاجيّات السكن بإيجارات معقولة، إذا ما وُجدت سياسات عمومية تدفع في هذا الاتّجاه.

 

الضريبة أداة لتشجيع مُلاّك المنازل الشاغرة على كرائها

الارتفاع المستمرّ لأسعار الكراء، بالتوازي مع ارتفاع عدد المساكن الشاغرة ليس ناتجاً عن عدم تلائم العرض والطلب فقط. إذ يمكن أن نفسّره كذلك بعدم تحمّس المالكين، سواء كانوا أفراداً أو شركات البعث العقاري، لتأجير الشقق والمنازل التي على ملكهم، بالإضافة إلى عدم تضرّرهم من بقائها شاغرة. فعدم اشتغال قاعدة العرض والطلب في مجال كراء المنازل، إلّا في اتّجاه واحد، أي عند ارتفاع الطلب في مكان معيّن، يكون سببه اختلال التوازن بين “الحريف” و”صاحب البضاعة”، إن صحّ التعبير. فالحريف ملزمٌ بإيجاد مسكن في حين أنّ مالكي المنازل، وهم في معظم الأحيان من الفئات الغنيّة ذات مصادر دخل عديدة وكافية، ليسوا في حاجة أكيدة ومستعجلة لكرائها. المالكون، كما يعبّر عن ذلك المثل العامّي التونسي، “داخلون في الربح خارجون من الخسارة”، أي أنّهم في أحسن الحالات يربحون، وفي أسوئها لا يخسرون.

من هنا تبرز إحدى علل المنظومة الجبائية التونسية، وهي ضعف الضرائب العقارية الشديد. ففي ظلّ غياب ضريبة على الثروة من جهة، وضعف الضريبة المحلّية على العقارات المبنيّة من حيث نسبها وكذلك مجهود استخلاصها[16] من جهة أخرى، تكاد الضرائب العقارية تقتصر على عمليّات انتقال الملكيّة. قد يكون فرض ضريبة عقارية جديدة على المساكن الشاغرة حلّاً، ليس لتعزيز موارد الدولة وتقليص الفوارق الاجتماعية فقط، لكن بخاصّة لدفع المالكين إلى تأجير المساكن الإضافية الشاغرة، حتّى لا تتحوّل إلى عبء مالي سنوي عليهم.

وقد أرسى قانون الماليّة لسنة 2014 ضريبة عقارية على الأشخاص الطبيعيين، تستهدف الأراضي والمباني غير المُستغَلَّة اقتصادياً أو اجتماعياً، قبل أن تتراجع الحكومة بعد أشهر وتلغيها قبل البدء في تطبيقها أصلاً عبر قانون المالية التكميلي للسنة نفسها. كانت الحجّة المستعمَلة لإلغائها، حسب شرح الأسباب، صعوبة تطبيقها، وتداخلها مع مجال الضريبة على الثروة التي سيقترحها مشروع قانون الماليّة لسنة 2015. أُلغيت الضريبة العقارية بدون أن يتمّ اقتراح الضريبة على الثروة ولا مناقشتها.

وفي انتظار إرساء الضريبة على الثروة، التي ستواجهها بلا شكّ مقاومةٌ شرسة من المتضرّرين منها، قد تكون العودة إلى هذه الضريبة العقارية، مع مراجعة نسبها التي تبقى متواضعة (مرّة ونصف المعلوم على العقارات المبنية أو غير المبنية حسب الحالة)، حلّاً وقتياً ناجعاً. ويمكن حلّ التعارض المفترَض بين الضريبتين بسهولة، حين يتمّ إٍرساء الضريبة على الثروة، بطرح ما يدفعه صاحب الثروة كضريبة عقارية في شكل اعتماد جبائي.

طبعاً، الأداة الضريبية لا تكفي وحدها ويجب أن تنخرط في سياسات عمومية شاملة. إذ يجب مثلاً، الإسراع في تأطير الكراء السكني بقانون يحمي حقوق طرفَيْ العلاقة بخاصّة الطرف الأضعف. ويمكن أن يشمل تدخّلُ الدولة، كما هو الشأن مثلاً في عدد كبير من الدول الأوروبية، تأطير أسعار الكراء بوضع سقف لها. فإذا اتّفقنا أنّ السكن ليس سلعة كغيرها وإنّما حقّ يجب على الدولة أن تضمنه يصبح مثل هذا التدخّل مشروعاً، على الأقلّ في المدن التي ترتفع فيها الأسعار كثيراً. في المقابل، يمكن أيضاً إنشاء صندوق لضمان الكراء السكني يمكن اللجوء إليه في حالة تخلّف المستأجر عن دفع الإيجار ويتمّ تمويله عبر مساهمة بسيطة على الإيجارات. من شأن هذه الإجراءات توفير حدّ أدنى من الأمان والاستقرار في علاقة الكراء وتشجيع أطرافها على تسجيل العقود، وبالتالي تسهيل مكافحة التهرّب الضريبي المنتشر بكثرة في هذا النوع من المداخيل[17].

 

الضريبة أداة للضغط على أسعار العقارات

إنشاء ضريبة عقارية جديدة لن يساهم فقط في حلّ أزمة الكراء، وإنّما في الحدّ من ارتفاع كلفة المساكن أيضاً. وقد يدفع وجود ضريبة سنويّة كبار المالكين إلى بيع عدد من المساكن الإضافية التي على ملكهم، ويقلّص من رغبة كبار المالكين في مراكمة المساكن، ممّا يزيد العرض مقارنة مع الطلب. كذلك الأمر في ما يخصّ الأراضي غير المبنيّة، حيث من شأن هكذا ضريبة أن تحدّ من تركّز ملكيّة الأراضي في أيدي أقلّيّة من الأثرياء، وتدفعهم إمّا إلى استغلالها اقتصادياً وإمّا إلى بيعها. قد لا يكفي ذلك لتخفيض أسعار الأراضي لكنّه على الأقلّ سيساهم في الحدّ من ارتفاعها.

تكمن أهمّيّة الحدّ من ارتفاع أسعار الأراضي في أنّه السبب الأساسي في ارتفاع كلفة المساكن، بخاصّة منذ التسعينيات[18]. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر المتر المربّع الذي تبيعه الوكالة العقارية للسكنى، بين أواخر التسعينيات وسنة 2013، بمعدّل يتجاوز 12% سنوياً. فأصبح المكوّن العقاري يمثّل قرابة 20% من كلفة السكن الفردي، و8% من كلفة السكن الجماعي، في حين كان يتراوح بين 5 و7% في بداية الألفينيات.

تُبرِز هذه الأرقام حدود سياسة الدولة في مواجهة المضارَبة العقارية، وضرورة إيجاد حلول لها، بما في ذلك عبر الجباية. إذ إنّ طريقة احتساب الضريبة على الدخل المتأتّي من القيمة الزائدة العقارية، تشجّع المالكين على إبقاء الأراضي لديهم لأطول مدّة ممكنة[19]، ممّا يساهم في ارتفاع الأسعار. من أهمّ أسباب ندرة الأراضي المتاحة في المناطق العمرانية عدم رغبة المالكين العقاريين في بيع أراضيهم واحتفاظهم بها لعشرات السنين نظراً إلى تأكّدهم من الارتفاع المستمرّ في أسعارها.

لا شكّ أنّ السياسات العقارية في حاجة إلى إصلاحات شاملة تحارب ظواهر الركود والمضاربة والتركّز المفرط للملكية العقارية وندرة الأراضي المتاحة، وليس هنا المجال المناسب للتطرّق إليها، لكنّنا سنكتفي بالتذكير بأنّ دور الدولة في هذا المجال مهمّ جدّاً، ليس فقط عبر قوّة القانون وإنّما أيضاً بوصفها أهمّ مالك عقاري. فالرصيد العقاري الهائل للدولة، بقدر ما يعرّي تقاعسها في العقود الفارطة عن استغلاله كما يجب يفتح آفاقاً كبيرة للإصلاح.

 

تخصيص مردود الضرائب العقارية لمجهود السكن الاجتماعي

تبقى استقالة الدولة من دورها في توفير المساكن الاجتماعية والمقاسم المهيئة للبناء الذاتي أحد أهمّ أسباب أزمة السكن. فلا الامتيازات الجبائية ولا السياسات التعديلية قادرة على تعويض التدخّل المباشر للدولة لتوفير السكن لكلّ من يستحقّه، بخاصّة الفئات الأفقر. لا بل إنّ تراجع دور الدولة جعل المؤسّسات العموميّة نفسها، بدافع الحفاظ على توازناتها المالية، تتّجه شيئاً فشيئاً نحو المنطق الربحي، وبالتالي نحو المباني الاقتصادية وعالية الطراز.

من هنا تبرز الحاجة إلى توفير موارد قارّة لتمويل بناء المساكن الاجتماعية. من بين الحلول تخصيص موارد الضريبة العقارية الجديدة، وحتّى ضرائب عقارية أخرى، لفائدة صندوق جديد يُعنى مباشرة بالمساكن الاجتماعية. ليس الأمر بدعة في الماليّة العمومية ولا حتّى في مجال السكن. فقد أنشأ قانون الماليّة لسنة 2005 الصندوق الوطني لتحسين السكن، والذي يُموَّل من مساهمة على العقارات المبنية المُعَدَّة للسكن. كذلك أيضا الفوبرولوس، الذي يتمّ تمويله بمساهمة على الأجور. لكنّ المطلوب هو صندوق خاصّ بالسكن الاجتماعي، له ما يكفي من التمويل لضمان بناء عدد كافٍ من المساكن الاجتماعية سنوياً. فإذا لم تكن موارد الضريبة العقارية الجديدة كافية ينبغي إضافة بعض الموارد الأخرى، بخاصّة المرتبطة بالضرائب العقارية الأخرى، إذ ليس من المعقول أن تكون الدولة في مجال حيوي كالسكن تنفق أقلّ ممّا تجني. سيسمح هذا الصندوق بضمان حدّ أدنى من الاستقرار والاستمرارية في مجهود السكن الاجتماعي، الذي يعبّر عن حاجة دائمة بغضّ النظر عن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية.

 

ليست الغاية من هذه المقترحات ادّعاء أنّ الواقع قابل للتغيير “بجرّة قلم”، ولا أنّ الجباية أداة سحرية بوسعها ذلك. بل الهدف هو إبراز كيف أنّ للخيارات الجبائية انعكاساً مباشراً على مدى تمتّع الناس بحقوق أساسية كالسكن. فكما أمكن لهذه الخيارات في السابق أن تفيد أقلّيّة من كبار المالكين، يمكن أن تُستعمَل الجباية لحماية حقوق الجميع، بخاصّة الفئات الأضعف، إذا ما توفّرت الإرادة السياسية، وتحصّنت الديمقراطية بمضمون اجتماعي.

 

نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة المفكرة القانونية، تونس. لقراءة العدد انقروا على الرابط:

الجباية غير العادلة

 

[1] Stephen Holmes, Cass R. Sunstein, The cost of rights: Why Liberty Depends on Taxes, W.W. Norton, New York, 2000.

[2] Sami Ben Fguira, Mongi Belarem, “Quel avenir pour le logement social en Tunisie ?”, Revue franco-brésilienne de géographie Confins, Numéro 36, 2018, p. 5.

[3] Ministère de l’équipement, de l’aménagement du territoire et du développement durable, Vers une nouvelle stratégie de l’habitat en Tunisie, Avril 2015, p. 19.

[4] Ibid., p. 12.

[5] Néjib Belaid, Pour une nouvelle stratégie de l’habitat. Logement locatif et logement produit par la promotion privée. Aspects juridiques et fiscaux, Ministère de l’équipement, de l’aménagement du territoire et du développement durable, Octobre 2014.

[6] الأرقام متاحة عبر الموقع الرسمي لوزارة التجهيز والإسكان وفي قانون الماليّة لسنة 2021 (مهمّة التجهيز والإسكان والبنية التحتية).

[7] محمّد سميح الباجي عكّاز، “برنامج السكن الأوّل: حلّ لأزمة السكن أو لإنقاذ المُضاربين؟“، موقع نواة، فيفري 2017.

[8] على سبيل المثال، سنة 2017، بلغت نسبة المساكن المصادق على تمويلها من قبل الفوبرولوس التابعة لباعثين عقاريين خواصّ 76%، حسب المعطيات المتوفّرة على موقع وزارة التجهيز والإسكان.

[9] Ministère de l’équipement, de l’aménagement du territoire et du développement durable, op. cit., p. 22.

[10] Ibid. p. 21.

[11] Ibid. p. 53.

[12] على عكس تنقيح سنة 1978 شمل تنقيح سنة 1993 عشرة فصول، أبرزها الفصل الثاني المتعلّق بالحقّ في البقاء حيث حذف مدّة الحقّ التي كانت تنتهي في 31 ديسمبر 1981. لكنّه لم يمسّ بحدود مجال انطباق القانون المضبوطة في الفصل الأوّل التي تجعل الغالبية الساحقة من الأكرية السكنية خارجه.

[13] Néjib Belaid, op. cit.

[14] المعهد الوطني للإحصاء، التعداد العامّ للسكّان والسكنى 2014: الجزء السادس، ص. 35.

[15] المعهد الوطني للإحصاء، المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى العيش لسنة 2015، الجزء الأوّل: محور الإنفاق.

[16] أنظر إنفوغرافيك الجباية المحلّية في هذا العدد.

[17] لا يمثّل عنوان المداخيل العقارية سوى 0.6% من الضريبة على الدخل و0.7% من الضريبة على الشركات في 2020.

[18] Ministère de l’équipement, de l’aménagement du territoire et du développement durable,op. cit., p. 29.

[19] طريقة احتساب الضريبة على القيمة المضافة العقارية تختلف حسب مدّة الملكيّة. من جهة، نسبة الضريبة هي 5% إذا ما تمّ البيع بعد أقلّ من 10 سنوات من الامتلاك، و10% إذا ما تمّ في العشر سنوات الأولى. من جهة أخرى، يتمّ اعتبار عدد سنوات الملكيّة عند احتساب الفارق بين ثمن البيع وثمن الشراء، إذ يضاف إلى هذا الأخير 10% على كلّ سنة ملكية. بهذا الشكل، كلّما كانت مدّة الملكية طويلة أمكن تقليص الضريبة على القيمة المضافة العقارية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، الحق في السكن ، مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني