الإبادة المضادّة


2024-01-15    |   

الإبادة المضادّة
رسم رائد شرف

ليست الإبادةُ التي نشهدها في غزّة منذ 7 أكتوبر الإبادةَ الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، لكنّها قد تكون الإبادة الوحيدة التي حصلت جهارًا ويشهدُها العالم مباشرةً، بالصوت والصورة. وبالطبع، ما كان لهذه الإبادة أن تحصل وأن تتمادى في ظلّ التطوّر الحاصل في قوانين الحرب وتكنولوجيا التواصل والإعلام، لولا قيام إسرائيل والدول الداعمة لها بجهود استثنائية بهدف تسهيل ارتكابها وتبريرها ومواجهة الضغوط لوقفها. وبالفعل، وفي موازاة التدمير والقتل الحاصلَين في غزّة، خاضت إسرائيل، ومعها داعِموها، معترك حروب متعدّدة ومعقّدة على طول العالم وعرضه، بما يتجاوز أيّ رقعة جغرافية محدّدة، وهي حروب استهدفت ضمن ما استهدفته أسس النظام الذي أُعلن عن إرسائه ردًّا على إبادات النازية، وقوامه أنسنة القانون الدولي “الإنساني” والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فكأنّما تسهيل هذه الإبادة لا يمكن أن يحصل من دون تدمير كلّ ما تعلّمناه من الإبادات السابقة، وهذا ما دفعنا إلى عنونة هذا المقال “الإبادة المضادّة”.

وإن بدت هذه الحروب ثانوية بالنسبة إلى الإبادة بحدّ ذاتها، فإنّها ذات أبعاد لا يُستهان بها. فعدا عن كونها مكمّلة لها، وأحيانًا جزءًا لا يتجزّأ منها، فإنّ من شأنها أن تترك آثارًا عميقة تتجاوز بكثير حدود النزاع المكانية والزمنية، وأن تمهّد لكثير من الحروب والإبادات مستقبلًا.

من هنا، رأينا أن نخصّص هذا الملفّ الذي خطّطنا له تبعًا للحرب على غزة، ليس للإحاطة بتفاصيل هذه الحرب – الإبادة التي ما تزال جارية والتي يرتقب أن تجنّد لتوثيقها طاقاتٌ كبرى، ولعقود، إنّما للإحاطة بتأثيراتها المباشرة على صعيد العالم. وإذ نُقارب هذه التأثيرات في مجموعة من المقالات ننشر بعضها في هذا العدد، على أن نواصل نشر مقالات أخرى على موقع المفكّرة القانونية، فإنّنا نكتفي هنا بإبداء ملاحظات تمهيدية حول أهمّ الأسئلة التي تفرض اليوم نفسها، أسئلة يُنتظر أن تحتلّ المشهد كاملًا ما بعد العاصفة.

حرب ضدّ أنسنة القانون الدولي؟ هل ما يزال “الإنسان” القيمة العليا؟   

طوّرت حضارات كثيرة عالميًّا أشكالًا مختلفة من الآليات لأنسنة النزاعات فيما بينها. وقد بلغت هذه الجهود أوجها مع اتّفاقيات جنيف واتّفاقية حظر الإبادة الجماعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية كما سبق بيانه. ولعلّ خير تعبير عن ذلك هو بروز مفهوم الجريمة ضدّ الإنسانية (والذي كان استخدم للمرّة الأولى بصورة هامشية للتنديد بالعبودية في القرن التاسع عشر)، وهو مفهوم يُستدلّ منه أنّ بعض الجرائم تمثّل بفعل طبيعتها والدوافع إليها وما تستبيحه، خطرًا ليس فقط على الفئة المستهدفة مباشرة بل على الناس جميعًا. هذا ما يحصل مثلًا في حال إباحة القتل أو التهجير أو الإخفاء القسري أو التعذيب بصورة ممنهجة على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو أيّ من المواصفات الملازمة للإنسان أو الناتجة من ممارسة حرِّيات مشروعة. بمعنى أنّ الإباحة هنا إنّما تنال من الإنسان بسبب هويّته كإنسان، ممّا قد يعرّض أيّ إنسان آخر في حال التطبيع مع هذه الجريمة للجريمة نفسها. وعليه، لم يهدفْ هذا المفهوم في أساسه إلى تأكيد جسامة الجريمة وحسب، إنّما إلى التأكيد، بشكل خاص، أنّ ضررَها يمتدّ ليشمل البشرية جمعاء، ممّا يجعل كلّ إنسان ضحيّة لها ويعطيه تاليًا الصفة، بل الواجب الأخلاقي للانخراط في التنديد بها وفي مساعي وقفها ومحاسبتها. وقد تجلّى ذلك بشكل كامل في وثائق دولية عدّة، منها اتّفاقية منع الإبادة التي حمّلت جميع الدول مسؤولية اتّخاذ ما يلزم لتجنُّب حصولها، وكذلك اتّفاقية إنشاء المحكمة الدولية الجزائية التي أنيط بها النظر في الجرائم ضدّ الإنسانية فضلًا عن جرائم الحرب، هذا بالإضافة إلى توسيع صلاحيات المحاكم الوطنية في عدد من الدول لتشمل هذا النوع من الجرائم.

ففيما تقوم هذه الجريمة عمومًا على إنكار إنسانية فئة ما من الناس وصولًا إلى استباحتِهم (تمامًا كما يخرج من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بحقّ أهالي غزّة)، تهدف تسميتها على حقيقتها كجريمة ضدّ الإنسانية إلى تنظيم مواجهتها من خلال استدعاء التضامن بين الشعوب كافّة بهدف الحفاظ على الإنسانية التي تمّ إنكارها بفعلها، وعلى أمل إعادة ترميم النظام العالمي بعد الاعتداء الجسيم الذي طاله.

من هذه الزاوية، شكّلت حرب غزّة تحدّيًا كبيرًا، تحدّيًا ليس فقط للقانون الدولي والمنظومة الدولية لجهة قدرتها على جبْه الجريمة، إنّما لمفهوم “الجريمة ضدّ الإنسانية” بحدّ ذاته. فهل لهذا المفهوم أسسٌ وأبعادٌ حقيقية بمعنى أنّه يعكس شعورًا إنسانيًّا بجسامة هذه الجريمة وامتدادها، أم أنّه مجرّد تصوّر تقنيّ لا يعدو كونه جزءًا من الإبداعات القانونية التي انبنى القانون الدولي عليها؟ بمعنى هل من شأن هذه الجريمة أن تولّد تعبئة عالمية ضدّها أم أنّها تبقى محصورة في أطر المحاكم في حال تسنّى ملاحقتها في تجاوز الثغرات والنواقص التي ما زالت تعتري نفاذ القانون الدولي؟ وما يزيد من حجم هذا التحدّي هو أنّه بخلاف العديد من الجرائم ضدّ الإنسانية التي حصلت خلال العقود الأخيرة، فإنّ حرب غزّة تميّزت بعاملَين اثنَين: وضوح دوافع إسرائيل لارتكابها، بمعنى أنّها لا تخفي توجّهًا عميقًا نحو إنكار إنسانية أهالي غزّة؛ ووضوح استهداف المدنيين ومقوّمات الحياة في غزّة في سياق مشروع يأخذ بالحدّ الأدنى طابع تطهير عرقي (تهجير أهالي غزّة منها إلى صحراء سيناء أو على الأقلّ من شمالها في اتّجاه حصرهم في جنوبها) وبشكل يزداد تبلورًا ووضوحًا طابع الإبادة الجماعية.

فبفعل هذا الوضوح المزدوج، يفرض السؤال حول كيفية التعامل مع هذه الجريمة نفسه من دون مجال لتجنّبه، وهو سؤال لا يطرح فقط على الدول إنّما على كلّ فرد منّا. وفيما شكّلت الحراكات العالمية (والتي أخذت أشكالًا مبتكرة قد تكون الأولى من نوعها ومعها الكثير من المبادرات الحقوقية والأكاديمية التي أشارت من دون لبس إلى أنّنا أمام إبادة متحقّقة العناصر text book) أملًا في هذا الصدد، فإنّ تعثّر مجلس الأمن والدول الكبرى الداعمة لإسرائيل وبالأخصّ المحكمة الجزائية الدولية في اتّخاذ قرار صارم في وقف الإبادة إنّما يشكّل انكسارًا وتآكلًا لهذا المفهوم في عمقه وأبعاده. وما يزيد من خطورة ذلك هو إشهار الولايات المتّحدة الأميركية تكرارًا “الفيتو” في مجلس الأمن ضدّ وقف الأعمال الحربية، معطّلة بذلك قدرة العالم على وقف الإبادة. هذا فضلًا عن الضغوط التي مارستها الدول الداعمة لإسرائيل بهدف قمع الحِراكات والمواقف الداعية إلى وقف الإبادة في مجالها الداخلي، مشوّهة بذلك مسار التفاعل الطبيعي معها وصولًا إلى تجريمه ومعه تجريم أنسنة القانون الدولي. فلا يكفي تبعًا لذلك أن يكون لديك شعور إنساني بأنّ الجريمة تعنيك بل يقتضي أيضًا أن ترتضي المجازفة بمكاسب كثيرة للتعبير عن هذا الشعور. فإذا هدأت الحراكات، سقط البعد الإنساني للجريمة، أقلّه في الوعي العام الدولي.

ومن هذه الزاوية، بدا كأنّما مساعي إسرائيل والدول الداعمة لها لإنكار إنسانية الفلسطينيين اقترنت بمساعٍ لا تقلّ خطورة في اتّجاه تجريد القانون الدولي من عمقه الإنساني، بحيث تحوّل إنكار إنسانية هؤلاء إلى مجرّد مقدّمة لإنكار إنسانية قانون النزاعات، وعمليًّا إنكار الإنسان كقيمة عليا يشكّل الاعتداء عليها أخطر الجرائم.

وتاليًا لا تكمن الخطورة فقط في غضّ الطرف عن هذه الإبادة بالذات أو في الحدّ من التعاطف مع ضحاياها قسرًا إذا لزم الأمر، إنّما هي تكمن أيضًا في قضم مفهوم الجريمة ضدّ الإنسانية وإفراغِه من أبعاده المتمثّلة في كونها تعني البشرية جمعاء. وعليه، وبدلًا من أن يهمّ العالم للدفاع عن نفسه ضدّ هذه الجريمة، بقيت كبرى دول العالم تردّد بصورة ببغائية أنّ إسرائيل تمارس حقّ الدفاع عن النفس.   

وقد تأكّد منحى إنكار أنسنة القانون في إغراق مشهد الإبادة بجدل تِقني يتّصل بكيفية توصيف الأفعال المرتكبة من إسرائيل أو بالمرجع الصالح لتوصيفها. وليس أدلّ على ذلك من مجادلة بعض الباحثين في حصول إبادة على أساس أنّه لم يتمّ تجاوز العتبة المطلوبة بعد. وقد سها هؤلاء عن أنّ ثمّة ضرورة للتحرّك، سواء حصلت الإبادة أو كنّا في طور حصولها أو أمام احتمال حصولها، في ظلّ إعلان إسرائيل نواياها بارتكابها. فكأنّما المطلوب أن يُباد أهالي غزّة كلّهم كي نتحسّس أنّنا أمام إبادة! وما يزيد من قابلية الأمر للانتقاد هو أنّه، بمعزل عن النقاش التِقني حول الإبادة (تدمير شعب) وفيما إذا تحقّقت أم لا، من الثابت أنّ الآلة الإسرائيلية تعمل أقلّه على التطهير العرقي ونسف مقوّمات الحياة في غزّة، وتحديدًا في القسم الشمالي منها، ممّا يجعلنا أمام جريمة تطهير عرقي هي بأقلّ تقدير جريمة ضدّ الإنسانية، جريمة تتطلّب بدورها تحركًا عالميًّا. في الاتّجاه نفسه، سجّلت العديد من المواقف لمسؤولين سياسيين (منهم المفوّض بالعلاقات الخارجية جوزيف بوريل) ترفض إدانة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية حجّة أنّ هكذا إدانة تتطلّب محاكمةً وتدقيقًا في دوافع الجيش الإسرائيلي للقيام بهذا العمل الحربي أو ذاك. هذا الموقف يبدو، في ظلّ انكفاء المدّعي العام لدى المحكمة الدولية الجزائية الصالحة كريم خان عن أيّ تحرّك، بمثابة تماهٍ مع إفلات إسرائيل من العقاب وتخلٍّ واضح عن المسؤولية في منع الجريمة والدفاع عن “الإنسان”.

رسم رائد شرف

حرب ضدّ الحقوق الأساسية والديمقراطية

تمثّل التشقّق الثاني الذي أحدثته حرب غزّة في التعرّض الواسع للحقوق الأساسيّة والتي تمّ تكريسها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كجواب هنا أيضًا على أهوال الحرب العالمية الثانية، على أمل أن تنخرط الدول كافّة في بناء عالم يضمن لكلّ إنسان التمتّع بهذه الحقوق وبالكرامة الإنسانية بمنأى عن الخوف والعوز. وإذ كان يفترض أن يحتفل العالم هذه السنة باليوبيل الماسي لهذا الإعلان، فإذا بذكرى هذه السنة تأتي مضرّجة بدماء آلاف الأطفال في غزّة، ممّا جعل الاحتفاء بهذه الذكرى خافتًا وخجولًا.

وتجلّى التعرّض الأبرز لهذه الحقوق في تضييق حرِّية التعبير، بما فيها حرِّية الوصول إلى المعلومات واكتساب المعرفة والعلم والتظاهر والاستقلالية الأكاديمية، وذلك في ميادين مختلفة تتّصل بشكل أو بآخر بالتنديد بالحرب الإسرائيلية وما ترشح عنه من أبعاد. وما يزيد من خطورة التعرّض لهذه الحرِّيات الذي حصل بشكل خاص في الولايات المتّحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا، أمران:

الأوّل، أنّ التعرُّض للتمتّع بحرِّية أساسية إنّما اقترن هنا بالتعرُّض للوظيفة المتوخّاة من هذه الحرِّية سواء اتّصل بالكشف عن الحقيقة أو التضامن مع شعب يعاني من الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري والتطهير العرقي منذ 75 سنة، وبالأخصّ مع شعب يواجه اليوم إبادة جماعية. بمعنى أنّ التعرُّض إنّما طال المجال الذي يفترض أن تتمتّع الحرِّية فيه بأوسع هامش ممكن لارتباط ممارستها بغايات نبيلة تتمثّل في الدفاع عن مصلحة إنسانية سامية.

الثاني، أنّ التعرُّض استند إلى حجج عبثية تمامًا لا تصمد أمام أيّ جدل جدّي. وليس أدلّ على ذلك من الخلط المتواصل والمنتظم بين معاداة السامية أو كراهية اليهود ومعاداة إسرائيل أو الصهيونية. العبث نفسه نجده في اعتبار إعلان التضامن مع الشعب الفلسطيني أو رفع العلم الفلسطيني أو لبس الكوفية أو استخدام عبارة انتفاضة أو فلسطين حرّة من النهر إلى البحر أو الدعوة إلى مقاطعة المُنتَجات الإسرائيلية أو حتّى مُنتَجات المستوطنات في الضفّة على أنّها تنمّ عن معاداة للسامية أو تشجيع للإرهاب.

تحوّل إنكار إنسانية الفلسطينيين إلى مقدّمة لإنكار إنسانية قانون النزاعات

فكأنّما تمّ التعرُّض لأنْبل أشكال ممارسة حرِّية التعبير من خلال استخدام حجج واهية جاز وضعها في قمّة العبث، تتّصل كلّها بتجنّب مخاطر وهمية وغير حقيقية. كما صدر هذا التعرُّض من الدول الداعمة للحرب الإسرائيلية بما يؤكّد ارتباطه بغايات سياسية عنوانها العريض تسهيل سير العملية الإسرائيلية (الإبادة) من خلال تحصينها إزاء تنامي الاحتجاجات العالمية عليها. وقد بدا التعرُّض من هذه الزاوية بمثابة انعكاس لإرادة استبدادية لدى السلطات السياسية في فرض التسليم بأمر معيّن، التسليم بأنّه يجب لأنه يجب، بمعزل عمّا يقتنع به العقل أو ينفيه. وإذا عرفنا أنّنا نتحدّث هنا عن قمع للحرِّية في إحدى أخطر المسائل التي قد تطرح على أيّ مجتمع، أمكن القول إنّه يؤدّي عمليًّا إلى تهديد أسس الديمقراطية. فإذا أمكن لسلطات هذه الدول التعرُّض لمسائل بهذه الخطورة، فإنّ ذلك يعني أنّها تعدّ نفسها مخوَّلة للمسّ بأيّ حرِّية.

وما يفاقم من خطورة هذا التوجُّه أنّ استخدام حجج عبثية غير عقلانية من أجل قمع الحرِّيات إنّما ترافق مع مسعى مُمنهَج للتخلُّص من أيّ ضوابط مبدئية أو مؤسَّساتية، وبالأخصّ الضوابط التي تهدف إلى عقلنة القرارات العامة، ومعها الديمقراطية، وهي تحديدًا الضوابط التي تحول دون تحوّل الديمقراطية إلى غوغائية أو إلى نظام شعبوي محض أو إلى نظام توتاليتاري. وليس أدلّ على ذلك من استجواب رؤساء جامعات أميركية من قبل نوّاب في الكونغرس الأميركي على خلفية كيفية تعاملهم مع حراكات الطلّاب المؤيّدة لفلسطين، وهو الأمر الذي انتهى باستقالة رئيسة جامعة بنسيلفانيا. الأمر نفسه نلمحه في تهميش دور الهيئات القضائية وممانعة قراراتها والعمل على تجاوزها. وهذا ما نستشفّه من إصرار الإدارة العامة الفرنسية على منع التظاهر بصورة متكرِّرة بالرغم من القرارات الإدارية باعتبارها غير قانونية أو من مسعى البرلمان البريطاني إلى حظر الدعوات إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها تبعًا لقرار قضائي اعتبر أنّ الدعوة إلى المقاطعة مشروعة. الأمر نفسه يتّصل بالمثقّفين (أو ما كان يصطلح على تسميته قضاة الرأي) بدليل منع محاضرة جوديث باتلر في فرنسا أو سحب جائزة حنا آراندت من ماشا جسن، فضلًا عن بعض المؤشّرات لضبط أو تعليق الدعم المالي للمنظّمات الحقوقية التي اتّخذت مواقف نقدية ضدّ إسرائيل أو شنّ حملات عليها للتشكيك في موضوعيتها أو شيطنتها.

وقد بلغ تعارض هذه الأنظمة مع العقلنة أوْجَه مع إعلان حساسيتها إزاء “الحقيقة”، حقيقة ما حصل ويحصل في فلسطين منذ 75 عامًا، بحجّة أن لا شيء يبرّر ما حصل في 7 أكتوبر، مقابل تساهلها الكبير حيال قتل أكثر من مائة صحافي (يفترض أنّهم الشهود على الحقيقة) في غزّة، وحماسها لضبط وسائل التواصل الاجتماعي ونشر البروباغندا الإسرائيلية في وسائل الإعلام بكلّ ما فيها من معلومات ثَبُتَ أكثر من مرّة أنّها مُختلَقة ولا هدف لها إلّا شيطنة غزّة وتبرير الإبادة فيها.      

حرب ضدّ المشروع الكوني أو عودة زمن الكولونيالية

أخيرًا، سرعان ما أحدث اصطفاف دول الشمال السياسي مع إسرائيل شرخًا عالميًّا فيما بينها وبين دول الجنوب، وبخاصّة أنّ هذا الاصطفاف وحّد دولًا كولونيالية سابقًا أو دأبت على ممارسة هيمنتها على دول أخرى، وأنّ دعمها لإسرائيل إنّما أشّر إلى تطبيعها مع الاحتلال والاستعمار والتطهير العرقي ومجمل الأفعال التي تمارسها بحقّ الشعب الفلسطيني منذ عقود. وقد أيقظ هذا الشرخ ذكريات إبادات واحتلالات انتهتْ في الماضي، من دون أن تخضع لأيّ معالجة، بل غالبًا من دون أن تنتهي مفاعيلها بالكامل، وهي ذكريات وجدتْ تعبيراتها الأهمّ لدى الشعوب المستعمَرَة سابقًا، أو أقلِّيات المهاجرين المتحدِّرين عنها والتي ما برحت تعاني التمييز والتهميش في الدول الأوروبية التي انتقلوا إليها. كما وجدت تعبيراتها الأكثر بلاغة لدى الشعوب الأصلية في مختلف القارّات، والتي عكست تماهيًا عميقًا مع مأساة الفلسطينيين بفعل هذه الذكريات. وهذا ما عبّر عنه بعضهم بقولهم: “السكّان الأصليون يعرفون تاريخ الفلسطينيين لأنّهم عاشوه”.

وما يعمّق هذا الشرخ أنّه يترافق مع تعرُّض لأنسنة القانون الدولي وتشكيك في دور الأمم المتّحدة ومواثيقها ومحاكمها وكيفيّة تطبيقها القانون الدولي الإنساني، بخاصّة في ظلّ هيمنة دول الشمال السياسي على أهمّ مؤسّساتها ووكالاتها. وفيما ينتظر تاليًا أن توقظ حرب غزّة القوميات على اختلافها وأن تؤجّج صراع الحضارات على أنقاض القانون الدولي، فإنّه يُؤمل، في المقابل، أن يشكّل هذا الشرخ صدمةً إيجابيةً ودرسًا بشأن الإشكالات البنيوية في تنظيم الأمم المتّحدة والعلاقات الدولية وتطبيق القانون الدولي.

ويفرض هذا الدرس، في الواقع، توجّهات ثلاثة:

الأوّل، تعزيز شبكات التضامن العالمي للدفاع عن أنسنة القانون والعدالة بين الشعوب. وبالطبع تشكّل الحراكات التي نشأت في دول الشمال السياسية بمناسبة حرب غزّة، رافدًا أساسيًّا لهذه الشبكات التي يؤمل منها أن تتطوّر إلى حراك عالمي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والحدّ من مشاريع الغطرسة والهيمنة على اختلافها؛

والثاني، ضرورة أن تعمل دول الجنوب على تعزيز سيادتها وتعبئة طاقاتها وصناعة قوّتها وقدرتها على التصدّي للتهديد الدولي، والأهمّ تعزيز شبكات التعاون الإقليمي على اختلافها. وهذا الأمر يفرض تعزيز الديمقراطية في هذه الدول على نحو يجعلها محصّنة داخليًّا، فلا تختزل سيادتها بإرادة شخص واحد أو أشخاص معدودين؛

والثالث، ضرورة انخراط العالم، وضمنًا وكالات الأمم المتّحدة، في عمل حقوقي وأكاديمي طويل الأمد لتحقيق عدالة انتقالية وفق معايير معيّنة بكلّ ما يتّصل بالجروح العالمية التي أحدثتها الإبادات والكولونيالية، والتي ما تزال مفاعليها تتحكّم في موارد الشعوب ومستقبلها، وذلك بهدف وضع حدّ لهذه المفاعيل، والأهمّ منع تكرارها كما هدّدت به حرب غزّة؛ إذ إنّ هذه الحرب إنّما تعلمنا أنّ شعار never again يبقى شعارًا منفصلًا عن الواقع في غياب هذه العدالة، والأهمّ في غياب إيمان عميق بالمساواة بين الناس كافّة. فلنتجرّأ على ذلك. إنّها كأس لا بدّ للعالم من أن يشربها إذا أراد حقيقةً أن يبني سلامًا عادلًا تمهيدًا لتوحيد الجهود في مكافحة الخطر الأكبر القادم: خطر انتقام الطبيعة من انتهاك قوانينها.     

استخدام حجج غير عقلانية لقمع الحرِّيات ترافق مع مسعى لتهميش أيّ ضوابط تهدف إلى عقلنة الحياة العامة (أكاديميا، قضاء…)

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص بالعدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لقراءة العدد بصيغة PDF

وهو ملف مشترك مع مجلة تونس العدد 28

لقراءة المقال باللغة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، الحق في الحياة ، مجلة لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني