استقالة مسؤول أممي ضدّ المتآمرين على الإبادة الجماعية: 10 نقاط لضمان حقوق الفلسطينيين


2023-11-04    |   

استقالة مسؤول أممي ضدّ المتآمرين على الإبادة الجماعية: 10 نقاط لضمان حقوق الفلسطينيين
كريغ مخيبر

وجّه كريغ مخيبر (وهو مدير في مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك) في تاريخ 28 تشرين الأول/ أكتوبر إلى المفوّض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، كتاب استقالة من منصبه بعد ثلاثة عقود من العمل في أروقة الأمم المتحدة. نظرا إلى أهميّته، عمدتْ المفكرة القانونية إلى ترجمة هذا الكتاب الذي سيشكل حكما إحدى أهم الشهادات على جريمة الإبادة في غزّة.   

ومن المهم بمكان إبداء الملاحظات الأولية الآتية:

  • إدانة قاطعة لإسرائيل ككيان وأفعال. لم يكتفِ مخيبر بإدانة أفعال الحرب الأخيرة (والتي وصفها بالمثال النموذجي على الإبادة الجماعية)، إنما ذهب أبعد من ذلك في اتجاه إدانة الكيان الإسرائيلي بحدّ ذاته، ككيان يقوم على إيديولوجية استعمارية استيطانية عرقيّة قومية، وهي إيديولوجية تجلّت بصورة واضحة لا لبس فيها وممنهجة وطوال عقود في الاحتلال وفصل عنصري والتطهير العرقي والاضطهاد ضدّ الفلسطينيين. ومن هنا، يعتبر مخيبر أن الخطيئة الأصلية للأمم المتحدة هي إقرار نشوء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين الحاصل في السنة نفسها للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كأنما الأمم المتحدة تقرّ هذه الحقوق للجميع إلا للفلسطينيين. وقد أعرب مخيبر عن خشيته أمام هول ما يحصل في غزة والضفة الغربية، أن يكون المشروع الاستعماري الاستيطاني القومي العرقي الأوروبي دخل في فلسطين مرحلته النهائية، أي التدمير المتسارع لآخر ما تبقى من الحياة الفلسطينية الأصلية في فلسطين.
  • (2)  ورد في الكتاب معلومات بالغة الأهمية حول تدخّل لوبيات للتأثير على توجهات الأمم المتحدة، أو بالأحرى لحرْف الأمم المتحدة عن التطبيق السليم للقانون الدولي. ومن أهم ما جاء في هذا الخصوص، هو حديثه عن وقف “التدفّق غير المقيّد للوبي الإسرائيلي إلى مكاتب قيادات الأمم المتّحدة، حيث يدعون إلى استمرار الحرب والاضطهاد والفصل العنصري والإفلات من العقاب، ويشوّهون سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان لدينا بسبب دفاعهم المبدئي عن حقوق الشعب الفلسطيني. ورغم إشادة الكتاب ببعض المسؤولين الأمميين وبخاصة المقررين الخاصين، فإنه أوضح أن “أجزاء رئيسية في الأمم المتحدة” استسلمت “لنفوذ الولايات المتحدة، ورضخت للخوف من اللوبي الإسرائيلي”، فتخلّت عن هذه المبادئ وتراجعت عن القانون الدولي نفسه”. كما أوضح في مكان آخر أن عددا من هيئات الأمم المتحدة (حتى على أعلى المستويات) تطأطئ رأسها بشكل مخزٍ. ومن البيّن أن هذه المعلومات تعكس وقائع بعينها اطّلع عليها مخيبر بفعل مركزه وهي وقائع يجدر التحقيق فيها، وبخاصة في وسائل الإقناع المستخدمة من هذه اللوبيات وفي كيفية تحصين أداء مجالس وهيئات الأمم المتحدة إزاء تأثيرها, ويرجّح هنا أن الاستقالة جاءت على خلفية اختلافه مع المفوض الأعلى لحقوق الإنسان فولكر تورك الذي هو يلزم تحفظا غير مفهوم إزاء هول ما يحصل في غزة. في الاتجاه نفسه، نقرأ استهجان مخيبر الهجوم المركز على الأمين العام أنطونيو غوتيريس بسبب اعتراضاته على حرب غزة على الرغم من اعتدالها (والتي وصلت إلى المطالبة باستقالته من قبل إسرائيل)، وأيضا استهجانه الهجوم الافترائِي المتواصل على آليات حقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة من قبل “شبكة إلكترونية منظّمة”.
  • (3) اللافت أيضا أن الكتاب لم يكتفِ بإدانة إسرائيل إنما ذهب أيضًا إلى إدانة حلفائها. فقد ورد في الكتاب أن “حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد كبير من بلدان أوروبا” تتواطأ “بصورة كاملة مع إسرائيل في هذا العدوان المروّع. ولا تكتفي هذه الحكومات برفض الوفاء بالتزاماتها التعاهدية القاضية بـ”ضمان احترام” اتفاقيات جنيف، لا بل تعمل في الواقع على تسليح العدوان وتقديم الدعم الاقتصادي والاستخباراتي وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي للفظائع التي ترتكبها إسرائيل”.
  • (4)  أمر آخر توسّع كتاب الاستفالة فيه وهو الدّور السلبيّ الذي تودّيه عددٌ من وسائل الإعلام الغربي وشركات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرّا لها. فبعدما أشار إلى أن وسائل الإعلام الغربية باتتْ أكثر ارتهانًا وتحيّزًا لسيّاسات دولها (الغربية)، وبخاصة لجهة العمل على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لتسهيل الإبادة الجماعية وبثّ الدعاية للحرب والدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، الأمر الذي يشكل تحريضًا على التمييز والعدائيّة والعنف. كما ندد بالسياسات المعتمدة من قبل شركات التواصل الاجتماعي وبخاصة لجهة “قمع أصوات المدافعين عن حقوق الإنسان” في موازاة “تضخيم الدعاية المؤيدة لإسرائيل”. وقد اعتبر مخيبر أن أفعال هؤلاء تشكل إخلالا بالمادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تمنع بروباغندا الحرب والعدائية، وأنه يجدر تاليا محاسبىة هذه الوسائل على أساس ذلك تيمنا بما حدث مع إذاعة ميل كولين” (Mille Collines) على خلفية بثها بروباغندا اعتبرت تشجيعا على الإبادة ضد التوستي في رواندا[1]. كما ندد البيان في مقاطع عدة منه بالتنمّر الحاصل على وسائل التواصل الاجتماعي وداخل جامعات ومؤسسات عدة تابعة للوبي الإسرائيلي والحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل ضد المدافعين عن حقوق الإنسان وتشويه سمعتهم.
  • (5)  أخيرا، وبما لا يقل أهمية، تضمن كتاب الاستقالة توصيات لما يفترض به أن يكون خارطة طريق لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من وجهة نظر حقوقية. فبعدما اعتبر مخيبر أن حل الدولتين بات بمثابة دعابة في أروقة الأمم المتحدة وبمثابة ملهاة تستمر في ظلها عمليات التطهير العرقي، خلص إلى وضع عشر نقاط انطلاقا من المعاهدات الدولية ومفاهيم حقوق الإنسان، على أساس أنّ حقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للنقاش أو التفاوض أو المساومة بأي شكل من الأشكال تحت راية العلم الأزرق. ومن أهم ما جاء في هذه النقاط هو وجوب العمل ل “إقامة دولة واحدة ديمقراطية علمانية على أرض فلسطين التاريخية كاملةً، مع حقوق متساوية للمسيحيين والمسلمين واليهود، وبالتالي تفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري وإنهاء الفصل العنصري في جميع أنحاء البلاد”. ولم يفتْ مخيبر المطالبة بإنصاف الضحايا وترميم حقوقهم، يدءا من ضمان حق العودة والتعويض الكامل لجميع الفلسطينيين وعائلاتهم الذين يعيشون حاليًا في الأراضي المحتلة وفي لبنان والأردن وسوريا وفي الشتات في جميع أنحاء العالم. كما لم يفته الدعوة إلى عملية عدالة انتقالية، مع الاستفادة بشكل كامل من عقود طويلة من التحقيقات والتقارير المتراكمة للأمم المتحدة لتوثيق الحقيقة وضمان مساءلة جميع الجناة وإنصاف جميع الضحايا وتوفير سبل الانتصاف للظلم الموثّق. كما تجدر الإشارة إلى نقطة “الحماية” التي تمثلت في وجوب “نشر قوّات حماية تابعة للأمم المتحدة تتمتع بموارد كافية ومكلّفة بتفويض قوي ومستدام لحماية المدنيين من النهر إلى البحر”، وأيضا إلى نقطة نزع السلاح التي تمثلت في وجوب “إزالة وتدمير المخزون الإسرائيلي الضخم من الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، خشية أن يؤدّي الصراع إلى الدمار الشامل للمنطقة، بل وربما أبعد من ذلك”.

نصّ كتاب الاستقالة:

حضرة المفوّض السامي،

ستكون هذه رسالتي الرسمية الأخيرة التي أوجهها إليكم بصفتي مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك.

أكتب هذه الرسالة في لحظات من الألم الشديد يعيشها العالم بأسره، بما في ذلك العديد من زملائنا. ها نحن نشهد، مرة أخرى، إبادة جماعية تتكشّف أمام أعيننا، في حين تبدو منظمتنا عاجزة عن وقفها. وهذه القضية شخصية جدًا بالنسبة لي نظرًا إلى تجاربي السابقة في مهام التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين منذ الثمانينيات، وكوني عشت في غزة كمستشار للأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان في التسعينيات ونفذت العديد من البعثات المتعلقة بحقوق الإنسان هناك قبل ومنذ ذلك الحين.

لقد عايشت أيضًا، خلال عملي في أروقة هذه المنظمة، عمليات الإبادة الجماعية التي استهدفتْ التوتسي ومسلمي البوسنة والإيزيديين والروهينجا. وفي كلّ مرة، عندما كانت تتكشّف الفظائع المرتكبة ضدّ السكان المدنيين العزل، كنا نتأكّد أكثر فأكثر من أننا قد فشلنا في واجبنا المتمثّل في الوفاء بالمتطلّبات اللازمة لمنع الجرائم الجماعية وحماية الجماعات الأكثر ضعفًا ومحاسبة المرتكبين. والأمر سيّان مع موجات القتل والاضطهاد المتعاقبة ضد الفلسطينيّين طوال فترة عمل الأمم المتحدة.

حضرة المفوّض السامي، ها نحن اليوم نفشل مرة أخرى.

بصفتي محاميًا مدافعًا عن حقوق الإنسان يتمتع بخبرة تزيد عن ثلاثة عقود في هذا المجال، فأنا أعلم جيّدًا أنّ مفهوم الإبادة الجماعية غالبًا ما كان عرضة للاستغلال السياسي. غير أنّ المذبحة الجماعية الحالية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، المتجذّرة في إيديولوجية استعمارية استيطانية عرقية قومية تشكّل استمرارًا لعقود من الاضطهاد والتطهير الممنهج والمستندة بالكامل إلى صفتهم كعرب والمقترنة بإعلانات نوايا صريحة لقادة في حكومة وجيش إسرائيل، لا تترك مجالًا للشك أو النقاش.

في غزة، تتعرّض منازل المدنيين والمدارس والكنائس والمساجد والمؤسسات الطبية لهجمات عشوائية، فيما يتم ذبح الآلاف من المدنيين. وفي الضفة الغربية، بما في ذلك القدس المحتلة، يتم الاستيلاء على المنازل ونقل ملكيتها استنادًا كلّيًا إلى الانتماء العرقي، فيما يرتكب المستوطنون المذابح بحق الفلسطينيين بمرافقة من وحدات عسكرية إسرائيلية. إذ أن نظام الفصل العنصري يسود في جميع أنحاء البلاد.

إنّ هذا هو مثال نموذجي عن الإبادة الجماعية. لقد دخل المشروع الاستعماري الاستيطاني القومي العرقي الأوروبي في فلسطين مرحلته النهائية، أي التدمير المتسارع لآخر ما تبقى من الحياة الفلسطينية الأصلية في فلسطين. علاوةً على ذلك، تتواطأ حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد كبير من بلدان أوروبا بصورة كاملة مع إسرائيل في هذا العدوان المروّع. ولا تكتفي هذه الحكومات برفض الوفاء بالتزاماتها التعاهدية القاضية بـ”ضمان احترام” اتفاقيات جنيف، لا بل تعمل في الواقع على تسليح العدوان وتقديم الدعم الاقتصادي والاستخباراتي وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي للفظائع التي ترتكبها إسرائيل.

بالتزامن مع ذلك، تنتهك وسائل الإعلام الغربية التي باتتْ أكثر ارتهانًا وتحيّزًا لسيّاسات دولها، بشكل صارخ المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إذ تستمر في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لتسهيل الإبادة الجماعية وتبث الدعاية للحرب وتدعو إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، الأمر الذي يشكل تحريضًا على التمييز والعدائيّة والعنف.

أمّا شركات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرّات لها فتعمل على قمع أصوات المدافعين عن حقوق الإنسان في حين تقوم بتضخيم الدعاية المؤيدة لإسرائيل. يقوم المستفزّون والمتنمّرون عبر الإنترنت والمنظمات غير الحكومية التي ترعاها الحكومات والتابعة للوبي الإسرائيلي بمضايقة المدافعين عن حقوق الإنسان وتشويه سمعتهم، كما تتعاون الجامعات وأصحاب العمل في الغرب لمعاقبة أولئك الذين يتجرّؤون على التحدّث علنًا وإدانة هذه الفظائع. فلا بدّ في أعقاب هذه الإبادة الجماعية من محاسبة هذه الجهات أيضًا، تمامًا كما حدث مع إذاعة “ميلز كولنز” (Milles Collines) في رواندا.

عقود من الإلهاء

في مثل هذه الظروف، لا شك أنّ منظّمتنا مطالَبة أكثر من أي وقت مضى باتخاذ إجراءات فعّالة ومبدئية. لكننا لم نكن على قدر التحدّي. فمرة أخرى نرى مجلس الأمن، المكلّف بإنفاذ القوانين التي تضمن الحماية، مكبّل اليدين بسبب تعنّت الولايات المتحدة، في حين يتعرّض الأمين العام للهجوم بسبب اعتراضاته على الرغم من اعتدالها، وآليات حقوق الإنسان في منظماتنا أصبحت هدفًا لهجوم افترائي متواصل من قبل شبكة إلكترونية منظّمة من دون محاسبة.

لقد أدت عقود من الإلهاء بفعل وعود أوسلو الوهمية والمخادعة إلى تحويل المنظمة عن واجبها الأساسي المتمثل في الدفاع عن القانون الدولي، وحقوق الإنسان الدولية، والميثاق نفسه. فقد أصبح شعار “حلّ الدولتين” أشبه بدعابة منتشرة في أروقة الأمم المتحدة، سواء بسبب استحالته المطلقة على أرض الواقع، أو بسبب فشله التام في مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف. ولم تعد ما يُعرف باللجنة الرباعية أكثر من مجرّد ورقة توت لتغطية التقاعس والاستسلام للوضع الراهن الوحشي. فالإذعان (المخطط له من قبل الولايات المتحدة) لـ”الاتفاقيات المنعقدة بين الطرفين” (بدلًا من القانون الدولي) لطالما شكّل خدعة شفافة، تهدف إلى تعزيز قوّة إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال والمستلَبين منها.

حضرة المفوّض السامي، لقد التحقتُ بهذه المنظمة في الثمانينيات، لأنّني وجدت فيها مؤسّسة قائمة على المبادئ والمعايير؛ مؤسّسة منحازة تمامًا لحقوق الإنسان، بما في ذلك بشأن القضايا التي لم تكن فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا في صفّنا. فعندما كانت حكومتي، والمؤسّسات التابعة لها، وقسم كبير من وسائل الإعلام الأميركية لا تزال تدعم أو تبرر نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والقمع الإسرائيلي وفرق الموت في أميركا الوسطى، كانت الأمم المتحدة تدافع عن الشعوب المضطهدة في هذه المناطق. لقد كان القانون الدولي إلى جانبنا. وكانت حقوق الإنسان إلى جانبنا. كانت المبادئ إلى جانبنا. كانت سلطتنا متجذّرة في نزاهتنا. ولكن ليس بعد الآن.

ففي العقود الأخيرة، استسلمت أجزاء رئيسية في الأمم المتحدة لنفوذ الولايات المتحدة، ورضخت للخوف من اللوبي الإسرائيلي، فتخلّت عن هذه المبادئ وتراجعت عن القانون الدولي نفسه. لقد خسرنا الكثير بسبب هذا التخلّي، لا سيّما مصداقيتنا العالمية. لكن الشعب الفلسطيني تكبّد أكبر الخسائر نتيجة إخفاقاتنا. إنّها لمفارقة تاريخية أن يتمّ اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام نفسه الذي تمّ فيه ارتكاب مجازر النكبة ضدّ الشعب الفلسطيني. وإذ نحتفل هذا العام بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، سيكون من الصواب أن نتخلّى عن الكليشيهات القديمة القائلة بأنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد ولد من رحم الفظائع التي سبقته، وأن نعترف بأنّه قد ولد جنبًا إلى جنب مع واحدة من أبشع عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين، ألا وهي تدمير فلسطين. وكأن واضعي الإعلان يعِدُون الجميع بحقوق الإنسان، باستثناء الشعب الفلسطيني. ودعونا نتذكر أيضًا أنّ الأمم المتحدة نفسها تتحمّل الخطيئة الأصلية المتمثلة في المساعدة على تسهيل تجريد الشعب الفلسطيني من ممتلكاته وأراضيه من خلال التصديق على المشروع الاستعماري الاستيطاني الأوروبي الذي أدى إلى الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتسليمها إلى المستعمرين. ذنوبنا كثيرة ولا بد من التكفير عنها.

كيف نكفّر عن ذنوبنا؟

إنّ السبيل إلى التكفير عن هذه الذنوب واضح. فهناك الكثير لنتعلّمه من الموقف المبدئي الذي اتّخذته الجماهير في العديد من المدن حول العالم خلال الأيام الأخيرة، حيث ندّدت بالإبادة الجماعية، وإن تحت خطر الضرب والاعتقال. إنّ الفلسطينيين وحلفاءهم والمدافعين عن حقوق الإنسان من كل المشارب والمنظمات المسيحية والإسلامية والأصوات اليهودية التقدّمية التي صرخت “لا تفعلوا ذلك باسمنا”، جميعهم يقودون المسيرة. كلّ ما علينا فعله هو أن نتبعهم.

بالأمس [نهار الاثنين]، وعلى بعد بضعة شوارع من هنا، تجمهر في محطة “غراند سنترال” في نيويورك آلاف اليهود من المدافعين عن حقوق الإنسان في وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني وطالبوا بإنهاء الطغيان الإسرائيلي (مع تعرّض العديد منهم لخطر الاعتقال). وبوقفتهم تلك، تمكّنوا بلحظة واحدة من إنكار أحد الادّعاءات الشائعة في البروباغندا الإسرائيلية (تعرف بالـ “هاسبارا”) بأنّ إسرائيل تمثل الشعب اليهودي (وهي استعارة قديمة لمعاداة السامية). هذا الأمر غير صحيح. وبالتالي، فإنّ إسرائيل هي وحدها المسؤولة عن جرائمها.

بشأن هذه المسألة، يجدر التذكير، على الرغم من ادّعاءات اللوبي الإسرائيلي بعكس ذلك، بأنّ انتقاد انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان لا يعتبر معاديًا للسامية، تمامًا كما أن انتقاد الانتهاكات في السعودية ليس معاديًا للإسلام، أو أن انتقاد الانتهاكات في ميانمار الذي ليس معاديًا للبوذية، أو أن انتقاد الانتهاكات في الهند ليس معاديًا للهندوسية. وعندما يتم إسكاتنا بحملات التشويه، فعلينا أن نرفع صوتنا، لا أن نخفّضه. أنا على ثقة بأنّك توافقني الرأي، حضرة المفوّض السامي، بأنّ هذا هو معنى قول كلمة الحق.

ولكنّني أعلّق أيضًا الآمال على هيئات الأمم المتحدة التي رفضت التنازل عن مبادئ حقوق الإنسان الأممية على الرغم من الضغوط الهائلة التي تعرّضت لها في هذا الصدد. لقد واصل المقرّرون الخاصون المستقلّون ولجان التحقيق وخبراء الهيئات المنشأة بموجب معاهدات، إلى جانب معظم موظفينا، دفاعهم عن حقوق الشعب الفلسطيني، وذلك حتى عندما كانت هيئات أخرى من الأمم المتحدة (حتى على أعلى المستويات) تطأطئ رأسها بشكل مخزٍ.

وباعتبارها الجهة الوصيّة على قواعد ومعايير حقوق الإنسان، يقع على عاتق المفوضية السامية لحقوق الإنسان واجبٌ خاصّ يتمثّل في الدفاع عن هذه المعايير. أعتقد أنّ مهمتنا تتمثل في رفع أصواتنا وجعلها مسموعة، وذلك بدءًا من الأمين العام وصولًا إلى أحدث موظف في الأمم المتحدة، وأفقيًا عبر منظومة الأمم المتحدة الأوسع، مع الإصرار على أنّ حقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للنقاش أو التفاوض أو المساومة بأي شكل من الأشكال تحت راية العلم الأزرق.

ما هو إذًا الموقف المثالي القائم على معايير الأمم المتحدة؟ كيف سيكون شكل مساعينا إذا كنّا صادقين بشأن تحذيراتنا الخطابية حول حقوق الإنسان والمساواة للجميع ومحاسبة الجناة وإنصاف الضحايا وحماية المستضعفين وتمكين أصحاب الحقوق وسيادة القانون على الجميع؟

10 نقاط أساسية

أعتقد أنّ الإجابة بسيطة إن كنّا نتمتّع بقدر كافٍ من الوضوح لرؤية ما وراء السواتر الدخانية الدعائية التي تشوّه رؤية العدالة التي أقسمنا على حمايتها، والشجاعة الكافية للتخلّي عن الخوف والإذعان للدول القويّة، والإرادة لحمل حقيقة راية حقوق الإنسان والسلام. لا شك أنّه مشروع طويل الأمد وشاق. ولكن علينا أن نبدأ الآن أو أن نستسلم لفظائع لا توصف. ثمة 10 نقاط أساسية برأيي:

1.    التوجّه المشروع: أوّلًا، يتعيّن علينا في الأمم المتحدة التخلّي عن نموذج أوسلو الفاشل (والمخادع إلى حد كبير)، وحلّ الدولتين الوهمي الذي يطرحه، ولجنته الرباعية العاجزة والمتواطئة المنبثقة عنه، وعملية إخضاعه القانون الدولي لإملاءات الصوابية السياسية المفترضة. ويجب أن تستند مواقفنا بشكل راسخ إلى حقوق الإنسان الدولية والقانون الدولي.

2.    وضوح الرؤية: يجب علينا التوقّف عن التظاهر بأنّ هذا الصراع هو مجرّد نزاع على الأرض أو صراع ديني بين طرفين متحاربين، والاعتراف بحقيقة الوضع المتمثل في وجود دولة قويّة بصورة غير متكافئة تستعمر السكان الأصليين وتضطهدهم وتجرّدهم من ممتلكاتهم على أساس انتمائهم العرقي.

3.    دولة واحدة قائمة على حقوق الإنسان: يجب علينا دعم إقامة دولة واحدة ديمقراطية علمانية على أرض فلسطين التاريخية كاملةً، مع حقوق متساوية للمسيحيين والمسلمين واليهود، وبالتالي تفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري وإنهاء الفصل العنصري في جميع أنحاء البلاد.

4.    مكافحة الفصل العنصري: يتعيّن علينا إعادة توجيه كافة جهود الأمم المتحدة ومواردها نحو النضال ضدّ نظام الفصل العنصري، تمامًا كما فعلنا في جنوب أفريقيا في سبعينيات وثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي.

5.    العودة والتعويض: يجب أن نعيد التأكيد والإصرار على حق العودة والتعويض الكامل لجميع الفلسطينيين وعائلاتهم الذين يعيشون حاليًا في الأراضي المحتلة وفي لبنان والأردن وسوريا وفي الشتات في جميع أنحاء العالم.

6.    الحقيقة والعدالة: علينا الدعوة إلى عملية عدالة انتقالية، مع الاستفادة بشكل كامل من عقود طويلة من التحقيقات والتقارير المتراكمة للأمم المتحدة لتوثيق الحقيقة وضمان مساءلة جميع الجناة وإنصاف جميع الضحايا وتوفير سبل الانتصاف للظلم الموثّق.

7.    الحماية: يجب علينا الضغط من أجل نشر قوّات حماية تابعة للأمم المتحدة تتمتع بموارد كافية ومكلّفة بتفويض قوي ومستدام لحماية المدنيين من النهر إلى البحر.

8.    نزع السلاح: يتعيّن علينا الدعوة إلى إزالة وتدمير المخزون الإسرائيلي الضخم من الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، خشية أن يؤدّي الصراع إلى الدمار الشامل للمنطقة، بل وربما أبعد من ذلك.

9.    الوساطة: يجب أن نعترف بأنّ الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى ليست في الواقع جهات وسيطة ذات مصداقية، بل هي أطراف حقيقية في الصراع وهي متواطئة مع إسرائيل في انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني، ويجب علينا التعامل معها على هذا الأساس.

10.    التضامن: يجب أن نفتح أبوابنا (وأبواب الأمين العام) على مصراعيها أمام جماهير المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطينيين والإسرائيليين واليهود والمسلمين والمسيحيين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الإنسانية ووقف التدفق غير المقيّد للوبي الإسرائيلي إلى مكاتب قيادات الأمم المتحدة، حيث يدعون إلى استمرار الحرب والاضطهاد والفصل العنصري والإفلات من العقاب، ويشوّهون سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان لدينا بسبب دفاعهم المبدئي عن حقوق الشعب الفلسطيني.

سيستغرق تحقيق ذلك سنوات عديدة، وستحاربنا القوى الغربية في كلّ خطوة على الطريق؛ لذلك، فلا بد من التمتع بالصلابة والثبات. أما على المدى القريب، فيجب علينا العمل من أجل وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الحصار على غزّة الذي طال أمده والتصدّي للتطهير العرقي في غزة والقدس والضفة الغربية (وغيرها من الأماكن) وتوثيق الإبادة الجماعية في غزة والمساهمة في إيصال القدر الكافي من المساعدات الإنسانية وجهود إعادة الإعمار للفلسطينيين ورعاية زملائنا المصابين بصدمات نفسية وأسرهم والنضال بلا هوادة من أجل اتباع نهج قائم على المبادئ في المكاتب السياسية للأمم المتحدة.

إن فشل الأمم المتحدة في فلسطين حتى هذا التاريخ ليس سببًا للانسحاب. بل ينبغي أن يمنحنا الشجاعة للتخلّي عن نموذج الماضي الفاشل، وتبنّي مسار قائم أكثر على المبادئ. دعونا ننضم، كمفوضية لحقوق الإنسان، بجرأة وفخر إلى الحركة المناهضة للفصل العنصري المتنامية في جميع أنحاء العالم من خلال إضافة شعارنا إلى راية النضال من أجل المساواة وحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني. العالم يراقب. وسنكون جميعًا مسؤولين عن موقفنا في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ. فلنقف إلى جانب العدالة. أشكرك، حضرة المفوّض السامي فولكر، على الاستماع إلى هذا النداء الأخير الذي أوجّهه من مكتبي. سأغادر المكتب نهائيًا خلال أيام قليلة، بعد أكثر من ثلاثة عقود من الخدمة. ولكني أتمنى عليك عدم التردّد في التواصل معي إذا كان بإمكاني تقديم المساعدة في المستقبل.


[1] Radio Télévision Libre des Mille Collines (RTLM) was a Rwandan radio station which broadcast from July 8, 1993, to July 31, 1994. It played a significant role in inciting the Rwandan genocide that took place from April to July 1994, and has been described by some scholars as having been a de facto arm of the Hutu government. Widely listened to by the general population, it projected hate propaganda against Tutsis(ethnic group of the African Great Lakes region), moderate Hutus, Belgians, and the United Nations Mission Assistant to Rwanda (UNAMIR). It is regarded by many Rwandan citizens (a view also shared and expressed by the UN war crimes tribunal) as having played a crucial role in creating the atmosphere of charged racial hostility that allowed the genocide against Tutsis in Rwanda to occur. A working paper published at Harvard University found that RTLM broadcasts were an important part of the process of mobilising the population, which complemented the mandatory Umuganda meetings. RTLM has been described as “radio genocide”, “death by radio” and “the soundtrack to genocide”. https://news.un.org/en/story/2023/06/1137607

انشر المقال

متوفر من خلال:

أميركا الشمالية ، مؤسسات إعلامية ، منظمات دولية ، تشريعات وقوانين ، الحق في الحياة ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، فلسطين ، أوروبا ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني