إشكالات قضاء المنافَسة: مجلس المنافسة نموذجاً


2022-02-07    |   

إشكالات قضاء المنافَسة: مجلس المنافسة نموذجاً
رسم: عثمان سلمي

يندرج قانون المنافسة ضمن أولويّات الدولة التونسية، وهو قانون حمائي للنظام الاقتصادي العامّ، قواعده آمرة ويرمي إلى تنظيم العلاقات بين الفاعلين الاقتصاديين مع ضمان حُسن سير آليّات السوق وحرّيّة المعاملات التجارية في جميع المراحل والقطاعات. ويبدو للوهلة الأولى أنّ قانون المنافسة والأسعار يرمي إلى حماية المنافسة في حدّ ذاتها وتكريس مبدأ الحرّيّة، الذي يدفع المؤسّسات الاقتصادية إلى تحسين استغلال مواردها وتحقيق جودة أرفع وأسعار أرفق واختيارات أرحب ممّا يعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني والمستهلِك.

إلّا أنّه، أحياناً، قد يترتّب على مبدأ حرّيّة المنافسة بين المؤسّسات ممارسات تخلّ بقاعدتَيْ العرض والطلب، فيختلّ حينئذ توازن السوق الحرّة ليتدخّل المشرّع واضعاً قواعد قانونية تدين هذه التجاوزات وتضمن حماية مختلِف الفاعلين الاقتصاديين.

وتكريساً لهذه الأهداف الحمائية، صدر القانون في تاريخ 29 جويلية 1991 الذي أحدث “لجنة المنافسة”، أصبحت “مجلس المنافسة” لاحقاً. وقد نُقِّح قانون المنافسة لسنة 1991 مرَات عدّة بهدف الإطاحة بالتجارة الموازية وإدانة العمليّات الاحتكارية والممارسات المُخِلّة بالمنافسة التي قد تطال السوق المرجعية. وتهدف هذه المقالة إلى التعليق على القانون الصادر في تاريخ 15 سبتمبر 2015، المتعلّق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار، مع قراءة تحليلية لقرارات مجلس المنافسة منذ إحداثه حتّى تاريخه. وأُنبّه إلى أنّ الجرد يقتصر هنا على القرارات (لا الآراء التي يتّخذها المجلس في إطار اختصاصه الاستشاري، ولا أعمال القضاء الاستعجالي للمجلس).

1- الطبيعة القانونية لمجلس المنافسة

يتمتّع مجلس المنافسة بالشخصيّة المعنوية والاستقلال المالي، وميزانيّتُه مُلحَقة بميزانيّة الوزارة المكلَّفة بالتجارة.

لم يحدِّد القانون الطبيعة القانونية لمجلس المنافسة: هل هو هيئة إدارية مستقلّة (Autorité Administrative Indépendante) أم هيئة قضائية مستقلّة (Autorité Juridictionnelle Indépendante)؟ ويُلحَظ أنّ ثمّة شبه إجماع عند الفقهاء ورجال القانون على الطبيعة القضائية لمجلس المنافسة، أي أنّه هيئة قضائية مستقلّة ذات صلاحيّات قضائية، تختصّ بالنظر في الدعاوى المتعلّقة بالممارسات المُخلّة بالمنافسة (اختصاص قضائي)، وإبداء الرأي والنظر في المطالب الاستشارية (اختصاص استشاري)، وذلك لجملة من المؤشّرات التي تدعم الطبيعة القضائية للمجلس، منها: تركيبة المجلس، 7/15 قضاة، الفصل بين جهازَيْ التحقيق من طرف المقرِّر والحكم أمام الدائرة، ضمان حقوق الدفاع مع تكريس مبدأ المواجهة وتعليل قراراته وقابليّة التنفيذ بعد إكسائها الصيغة التنفيذية من طرف رئيس مجلس المنافسة أو أحد نائبَيْه، الحكم بعقوبات في شكل خطايا قد تصل إلى 10% من رقم المعاملات للمؤسّسة المُدانة خلال آخر سنة مالية منقضية. فضلاً عن ذلك، يُصدِر مجلس المنافسة قرارات، أي أحكام قضائية ابتدائية درجة أولى، يمكن استئنافها أمام المحكمة الإدارية حسب صريح الفصل 28 الفقرة الثالثة من قانون 2015. ولقد حسم مجلس المنافسة نفسه المسألة وكرَّس تيّاراً فقهياً قضائياً دائماً ومستقرّاً على أنّه “هيئة قضائية مستقلّة تمارس صلاحيّات قضائية”.

ولسائل أن يتساءل هل إنّ تكريس طبيعة الهيئة القضائية المستقلّة لمجلس المنافسة يفيد الهدف التشريعي المنشود المتمثّل بحماية السوق التونسية والنظام الاقتصادي العامّ ككلّ؟

تجدر الإشارة بادئ ذي بدء إلى أنّ تأثُّر قانون المنافسة بالاقتصاد، علاوة على عدم تعريف المشرّع مفاهيمَ جوهرية كمفهوم المنافسة أو المؤسّسة، أدرج إشكالات إجرائية وأخرى أصلية وأحدث غموضاً والتباسات عدّة لدى القانونيين. فقد اتّجه مجلس المنافسة نحو منهج فقه قضائي ثوري من حيث الإجراءات القانونية، ومن حيث خصوصيّة القواعد الأصلية أيضاً (1)، مع توسيع مجال اختصاصه على حساب الهيئات التعديلية الأخرى وعلى حساب القاضي العدلي وحتّى التحكيم، كلّ هذا تكريساً لدوره الحمائي وفي إطار تصدّيه لكلّ الممارسات التي من شأنها أن تُحدث خللاً في السوق (2).

2- خصوصيّة فقه قضاء مجلس المنافسة

الإشكالات على مستوى الإجراءات

يتميّز فقه قضاء المجلس بتبسيط الإجراءات والشروط الشكلية، وذلك لحماية السوق، وتكريس قواعد إجرائية خاصّة ومرنة. أبرز هذه القواعد:

– توسيع أصحاب الصفة لمراجعته

في حين نصّ الفصل 15 من القانون 2015 على أنّ الدعاوى تُرفع إلى مجلس المنافسة من طرف قائمة حصرية (الوزير المكلَّف بالتجارة أو مَن يفوّض له في ذلك، المؤسّسات الاقتصادية، المنظّمات المهنية والنقابية، هيئات المستهلكين القائمة بصفة قانونية، غرف التجارة والصناعة، الهيئات التعديلية، الجماعات المحلّية)، اعتمد فقه قضاء مجلس المنافسة قراءة موسّعة ذات طابع اقتصادي أكثر منه قانوني، بخاصّة بما يتّصل بتعريف المؤسّسة الاقتصادية، الأمر الذي أدّى إلى توسيع عدد العرائض المقدَّمة إليه. يُلحَظ أنّ 83% من هذه العرائض صدرتْ من طرف المؤسّسات الاقتصادية.

كما اعتبر المجلس “أنّ الصفة في التقاضي هي الدافع أو الحافز للقيام بالدعوى وهي تعبير على وضعيّة يحتجّ بها المدّعي للقيام بدعواه غير أنّ تقديرها ليس واحداً في مختلف أنواع القضايا بل يتمَ وفقاً لطبيعة الدعوى وموضوع النزاع وكون المصلحة المراد الدفاع عنها فرعاً من قاعدة أشمل ذات مساس بالنظام العامّ”. 

– توسيع اختصاصه

في الاتّجاه نفسه، اعتبر المجلس نفسه مختصّاً بالنسبة إلى كلّ المؤسّسات التي تخلّ بالمنافسة والتي لها تأثير على السوق. فـ لا يشترط في الذوات الاقتصادية الخاضعة لقانون المنافسة ضرورة توفُّر عنصر الشخصيّة القانونية، بل يكفي امتلاكهم للإرادة الذاتية في التصرّف.

وفي القرار عدد 2137 تاريخ 17 مارس 2003، أكّد المجلس أنّ مفهوم المؤسّسة الاقتصادية لا يتحدّد وفقاً لمعيار قانوني بحت وإنّما بناءً على معيار اقتصادي لا يستوجب بالضرورة توفُّر عنصر الشخصيّة القانونية”.

وعليه، فإنّ أحكام الفصل الخامس من قانون المنافسة والأسعار المتعلّقة بالممارسات المخلّة بالمنافسة “تنطبق على جميع الشركات والهيئات والتنظيمات والتجمّعات بمختلف أنواعها وعلى كلّ الأشخاص الذين يمارسون نشاطاً اقتصادياً يتعلّق بالإنتاج أو التوزيع أو الخدمات، مهما كانت طبيعتهم عمومية أو خاصّة، مادّية أو معنوية، وبقطع النظر عن شكلهم وعمّا إذا كان وجودهم قانونياً أو فعلياً”. [1]

ويذهب المجلس أبعد من هذا بقوله إنّه “لا يشترط في الذوات الاقتصادية الخاضعة لقانون المنافسة ضرورة توفّر عنصر الشخصيّة القانونية، بل يكفي امتلاكهم للإرادة الذاتية في التصرّف”. وفي الاتّجاه نفسه، اعتبر المجلس أنّ الأشخاص الطبيعيين الذين يمارسون مهناً حرّة هم مؤسّسات اقتصادية، مهما كان الشكل الذي يتّخذه نشاطهم أو الإطار القانوني الذي يخضعون إليه. المحامون مثلاً، يندرجون، بحكم ممارستهم نشاطاً اقتصادياً في قطاع الخدمات، ضمن المؤسّسات الاقتصادية المتعاملة في سوق المحاماة والاستشارة القانونية، ولهم صفة القيام أمام المجلس كمؤسّسة اقتصادية.

علاوة على ذلك، فإن مفهوم المؤسّسة الاقتصادية يمكن أن يشمل أيضاً الجمعيّة، حسب فقه قضاء المجلس، عندما تقوم هذه الأخيرة بأعمال تجارية. وبذلك تكون الجمعيّة في منظور فقه قضاء مجلس المنافسة مؤسّسة ما دامت “الجمعيّات التي يثبت أنّها تمارس كلّياً أو جزئياً نشاطاً يندرج في قطاع تنافسي يتعلّق بالإنتاج أو التوزيع أو الخدمات، تصبح خاضعة وجوباً لقانون المنافسة والأسعار بقطع النظر عن موضوعها أو أهدافها المنصوص عليها ضمن قانونها الأساسي”. وفي هذا الاتجّاه تَعارضٌ واضحٌ مع قانون الجمعيّات الذي وقع تنقيحه بمقتضى المرسوم عدد 88 والمؤرَّخ في 24 سبتمبر 2011.

كما يختصّ المجلس بالنظر في أفعال المؤسّسات العمومية التي “تتصرّف مثل التجّار” (وليس بوصفها سلطة إدارية)، إذا كانت مخالفة لأحكام الفصل 5 منه طالما أنّ مجلس المنافسة يمارس مهامّه في إطار حماية الصالح العامّ والمحافظة على النظام العامّ الاقتصادي”.

– ماذا يحصل عند التخلّي عن الدعوى؟

يمكن للمجلس عدم قبول مطلب تخلّي المدّعية عن الدعوى، ويمكن له أن يتعهّد تلقائياً بالملفّ رغم مطلب التخلّي.

لقد استقرّ فقه قضاء مجلس المنافسة في تجاوز مطالب التخلّي، حيث لا يتمّ قبول مطالب التخلّي عن الدعاوى “بصفة آليّة إذ يحرص [المجلس] على دراسة السوق المعنيّة برمّتها وتحليل الممارسات المُرتكَبة داخلها استناداً إلى ما يتولّاه في طور التحقيق من أبحاث استقصائية وتحريات. وبذلك يكون المجلس قد راعى في عمله طبيعة الدور الموكول إليه بهدف حماية النظام الاقتصادي العامّ (…) فلا يتقيّد بأيّ طلبات يمكن أن ترد عليه وترنو إلى الرجوع في الدعاوى أو التخلّي عنها إلّا بعد أن يتثبّت من عدم وجود ممارسات مخلّة بالمنافسة تبرّر قبول التخلّي”.

– التعهّد التلقائي بحماية السوق

ينصّ الفصل 15 الفقرة الثانية من قانون 2015 على أنّه: “يمكن لمجلس المنافسة أن يتعهّد تلقائياً بالنظر في الممارسات المخلّة بالمنافسة في السوق وذلك بناءً على تقرير يعدّه المقرّر العامّ وبعد إدلاء مندوب الحكومة بملحوظاته الكتابية. ويعلم رئيس المجلس بذلك الوزير المكلَّف بالتجارة وعند الاقتضاء الهيئات التعديلية المعنيّة”.

يُعتبَر التعهّد التلقائي من طرف مجلس المنافسة آليّة رادعة لكلّ مَن يقوم بممارسات مخلّة بالمنافسة. ويمكن للمجلس أن يتعهَد في ثلاث حالات:

دور اليقظة: إمّا تلقائياً، إذ إنّ له دور اليقظة في مادَة المنافسة (L’éveil concurrentiel): “إثارة الدعوى والتعهّد من طرف المجلس من تلقاء نفسه بالأعمال والممارسات التي تبلغ إلى علمه والتي ينصرف أثرها إلى النيل من التوازن العامّ للسوق وحسن سيره”.

من ذلك مثلاً، التعهّد التلقائي بسوق الحجّ والعمرة: وضع الهيمنة الكلّي والاحتكار الذي كرّسته شركة منتزه قمرت على سوقَيْ الحجّ والعمرة تطبيقاً لقرار المجلس الوزاري المؤرَّخ في 16 نوفمبر 1998 الذي يكلّف منتزه قمرت دون سواه بمهمَة تنظيم سفرات العمرة، من خلال اتّفاقيّة التعاون بين المنتزه ووكالات الأسفار والسياحة في تاريخ 25 نوفمبر 1998 وضع منتزه قمرت وكالات الأسفار في حالة تبعيّة اقتصادية باعتبار أنّ المنتزه ينفرد بالأعمال المتعلّقة بإجراء الحجوزات الخاصّة بخدمات السكن والنقل البرّي بالبقاع المقدَّسة في ما يبقى تدخُّل وكالات الأسفار مُختصَراً على تسويق تلك الخدمات.

وحيث تبيّن للمجلس أنّ قانون المنافسة يحجر البنود الواردة في الاتّفاقيّة، باعتبار أنّ المنتزه أفرط في الاستغلال لوضع شروط مُجحِفة يؤدّي عدم الرضوخ إليها إلى إزاحة وكالة الأسفار. واعتبر المجلس أنّ كلّ ما تمخّض عن المجلس الوزاري لا يرقى إلى مستوى التراتيب الإلزامية، وأنّ السيطرة الكاملة على الحجّ هي وضعيّة أفرزتها اختيارات سياسية، ولهذا قـــرّر المجلس في تاريـــخ 13 ديسمبر 2012 اعتبار الممارسات التي أتتها شركة الخدمات الوطنية والإقامات مُخِلَّة بالمنافسة وتوجيه أمر إليها بالكفّ عن تلك الممارسات.

اكتشاف ممارسات مخلّة بالمنافسة في سياق التحقيق في دعوى أخرى: كما للمجلس أن يتعهّد تلقائياً “بخصوص ممارسة مخالفة للمنافسة في سوق لها ارتباط بالسوق موضوع الدعوى” واطّلع عليها في سياق تحقيقه في قضيّة أخرى.

التعهّد تبعاً لوشايات صادرة عن بعض المتعاملين الاقتصاديين، التي تؤدّي إلى الكشف عن اتّفاقات محظورة كانوا قد انضمّوا إليها في السابق.

إنّ قراءة فقه قضاء مجلس المنافسة في إطار اختصاص التعهّد التلقائي المناط به تكشف عن مجالات تجارية مختلفة، منها التأمين وشركات النفط والمساحات الكبرى والطيران البحري والبنوك. لكنّها ذات آثار محدودة من حيث العدد سنوياً.

الإشكالات على مستوى الأصل

يختصّ المجلس بالنظر في دعوى المنافسة على معنى الفصل 5 من قانون 2015 وهي تلك الدعاوى التي يكون موضوعها قانوناً:

الأعمال المتَّفق عليها والتحالفات والاتّفاقيّات الصريحة أو الضمنية التي يكون موضوعها أو أثرها مخلّاً بالمنافسة. وقد رأى المجلس أنّ التحالفات الصريحة والضمنية في حدّ ذاتها ليست مُدانة، بل المُدان هي تلك التحالفات التي لها تأثير على السوق وعلى قاعدة العرض والطلب. ومن التحالفات المدانة مثلاً، تبادل معلومات بين متنافسين في طلب العرض نفسه، وتقاسم السوق في مجال معيَّن بين شركات متنافسة.

الاستغلال المفرط لمركز هيمنة على السوق الداخلية أو على جزء هامّ منها. وقد أكّد المجلس، في القرار عدد 121323 المؤرَّخ في 29 ديسمبر 2014، أنّ امتلاك الحصّة السوقية الأكبر لا يكفي لاحتلال مركز هيمنة على السوق، لأنّ ذلك المركز لا يتحقّق إلّا متى كانت المؤسّسة قادرة على فرض شروطها والتحكّم في آليّات السوق.

استغلال وضعيّة تبعية اقتصادية يوجد فيها أحد الحرفاء أو المزوّدين الذين لا تتوفّر لديهم حلول بديلة للتسوّق أو إسداء الخدمات. وقد عرف مجلس المنافسة وضعيّة التبعية الاقتصادية والتعسّف فيها معتمداً على جملة من المعايير، أبرزها (1) الصعوبة التي تلاقيها المؤسّسات في التخلّص من تأثير شركات أخرى على نشاطها، (2) نصيب المؤسّسة في السوق، و(3) الشهرة العالمية للعلامة التجارية. ومن الأمثلة على هذه الممارسات، الامتناع عن البيع والشراء وفرض شروط تمييزية وقطع العلاقة التجارية من دون سبب موضوعي أو رفض الخضوع إلى شروط تجارية مجحفة.

– عرض أو تطبيق أسعار مفرطة الانخفاض بصفة تهدّد توازن نشاط اقتصادي ونزاهة المنافسة في السوق. وقد اعتبر مجلس المنافسة في القرار عدد 91205 الصادر في 23 فيفري 2012 “أنّ الأسعار مفرطة الانخفاض هي الأسعار التي لا تنعكس فيها مقوّمات السعر الحقيقي الذي يجب أن يشتمل على الكلفة القارّة والكلفة المتغيّرة وهامش الربح والتي من شأنها أن تؤول إلى إزاحة المنافسين وأن تفضي إلى تعطيل قواعد المنافسة في السوق”.

ولم يكتفِ المجلس بإدانة الممارسات المنصوص عليها في قائمة الفصل 5 من قانون المنافسة، بل اعتبر أنّ هذه الممارسات قد وردت على سبيل الذكر لا الحصر ليوسّع تالياً “نطاق تطبيق الفصل 5 من قانون المنافسة”.

 وتكون بذلك جميع الممارسات المخلّة بالمنافسة المنصوص عليها صلب الفصل 5، وتلك التي لها تأثير على السوق وعلى قاعدة العرض والطلب هي ممارسات من اختصاص مجلس المنافسة ومنها:

المخالفات الاقتصادية التي تنال من توازن السوق: من ذلك المؤسّسات التي تحتلّ مركز هيمنة اقتصادية في السوق المرجعية التي تنشط فيها، وتقترف مخالفات اقتصادية ذات أثر على هيكلة السوق.

حالات المنافسة غير الشرعية التي لها تأثير على السوق: لقد جاء في القرار عدد 71150 المؤرَّخ في 27 نوفمبر 2008 ما نصُّه حرفياً: “إنّ (…) حالات المنافسة غير النزيهة (…) يمكن أن تشكّل في الآن ذاته ممارسات مخلّة بالمنافسة في الحالات التي يثبت فيها أنّ تلك الأعمال قد أثّرت على التوازن العامّ للسوق أو كان من شأنها عرقلة آليّاتها”.

3- توسيع فقه قضائي لمجال اختصاص المجلس

تنازع الاختصاص بين مجلس المنافسة والهيئة الوطنية للاتّصالات

وقع إحداث هذه الهيئة بمقتضى الفصل 63 من مجلّة الاتّصالات، وهي تُعتبَر هيئة مراقبة ويقظة في مجال سوق الاتّصالات وتتمتّع في هذا الشأن باختصاص تقني وآخر قضائي (سواء في إطار التعهّد التلقائي أو إثر دعاوى تُوْدَع لديها حسب قائمة حصرية حُدِّدَت في الفصل 67 من المجلّة، منها الوزير المكلَّف بالاتّصالات ومزوّدي الإنترنت، أو هيئات المستهلكين القائمة بصفة قانونية، والمنظّمات المهنية في مجال الاتّصالات).

وقد استقرّ فقه قضاء مجلس المنافسة على أنّ له اختصاصاً عامّاً للنظر في كلّ الممارسات المخلّة بالمنافسة التي لها تأثير على السوق، ومنها تلك الممارسات المرتكَبة في سوق الاتّصالات. وعليه، نظر المجلس في العديد من القضايا المتعلّقة بممارسات ارتكبتها إمَا اتّصالات تونس أو تونيزيانا أو أورنج، واعتبر أنّ ثمّة ما نصَه حرفياً “امتداد رقابته إلى الممارسات المخلّة بالمنافسة في قطاع الاتّصالات وتحديد اختصاصه للنظر في القضايا التي تكون منشورة كذلك لدى الهيئة الوطنية للاتّصالات”. وبذلك يعتبر مجلس المنافسة أنّ مجلّة الاتّصالات هي نصّ خاصّ، ويُعتبَر قانون المنافسة نصّاً ذا صبغة عامّة في مجال ردع المنافسات المخلّة بالمنافسة ما دامت لها تأثير على السوق ومنها سوق الاتّصالات.

مجلس المنافسة والقضاء العدلي

يفرّق مجلس المنافسة بصفة دائمة ومسترسلة بين الممارسات المخلّة بالمنافسة، التي هي عديمة التأثير على قواعد السوق وتوازنه العامّ، والتي هي راجعة بالنظر إلى القاضي العدلي والممارسات المخلّة بالمنافسة والتي لها تأثير على السوق وترجع إلى اختصاصه.

وعليه، يعتبر نفسه غير مختصٍّ، وإّنما يعود الاختصاص إلى القضاء العدلي إذا تعلَق النزاع بـ “سبل تطبيق بنود عقد الوكالة الحرّة المبرم بين طرفَيْ النزاع وفي مدى تقيُّدهما بالالتزامات التعاقدية الناشئة عنه وذلك دون أن تتعدّى آثارها حدود طرفَيْ النزاع (مصالح خاصّة) أو تمسّ آليّات السوق وسيرها العادي أو حرّيّة المنافسة بوجه عامّ”.

مجلس المنافسة والتحكيم

اعتبر مجلس المنافسة أنّه مختصّ رغم وجود شرط تحكيمي في العقد موضوع النزاع، وذلك استناداً إلى الفصل السابع من مجلّة التحكيم الذي ينصّ على أنّه “لا يجوز التحكيم في المسائل المتعلّقة بالنظام العامّ”.

وفي ختام هذه المقالة، يتّضح أنّ مجلس المنافسة هو هيئة قضائية أُنشئت قانوناً لحماية السوق وتعديله من كلّ الممارسات المخلّة بالمنافسة. وقد مكّنه المشرّع من العديد من الآليّات للقيام بمهامّه حفاظاً على النظام الاقتصادي العامّ. لكن يتّضح أيضاً أنّه توسّع في اختصاصاته وفي النظر في كلّ الممارسات والمخالفات والمنافسة غير الشريفة، وذلك على حساب القضاء العدلي للمنافسة والهيئات التعديلية الأخرى وحتّى التحكيم، ممّا أدّى إلى تنازع في الاختصاص أحياناً، وأحياناً أخرى إلى تضارب في بعض الأحكام القضائية الصادرة عن تلك الهيئات التعديلية.

ولا يسعنا إلّا أن نشير إلى أنّ هذا التوسّع في الاختصاص لم يقابله ردع ناجع في العقوبات. فقد بقيت مبالغ الخطايا ضعيفة جدّاً مع طول نشر القضايا لدى هاته الهيئة، الأمر الذي جعل بعض الفاعلين الاقتصاديين يتعمّدون ارتكاب الممارسات المخلّة بالمنافسة، التي من شأنها أن تدرّ عليهم أموالاً طائلة، ثمّ تصدر العقوبة بعد سنين ويكون مقدار الخطيّة المالية زهيداً جدّاً بالنسبة إلى الأرباح المتحصَّل عليها بموجب تلك الممارسات. ويكون من المتوجَّب على مجلس المنافسة الإسراع في فصل القضايا والترفيع في نسب الخطايا إلى الأقصى في بعض الحالات، مع إرساء قضاء استعجالي للمنافسة ناجع تفادياً لإفلاس الشركات التجارية صغيرة ومتوسطة الحجم ولإنجاح الدور الحمائي الذي أنشئ من أجله.

نشرت هذا المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم


 القانون المؤرَّخ في 24 أفريل 1995. 1
 التقرير السنوي لمجلس المنافسة 2004، ص. 23. 2
3 القضيّة عدد 111287 في تاريخ 15 أكتوبر 2012، وغيرها في هذا الاتّجاه.
4  التقرير السنوي 2012، ص. 11.
5 التقرير السنوي 2007، ص. 50-51: القرار عدد 5195 المؤرَّخ في 9 أوت 2007.
6 قرار بولينا تحت عدد 9412، المؤرَّخ في 25 ماي 1995.
7 التقرير السنوي 2003، ص. 38.
8 التقرير السنوي 2003، ص. 38.
9 التقرير السنوي 2002، ص. 26.
10 رار عدد 5177 المؤرَّخ في 2 جوان 2005؛ التقرير السنوي 2005، ص. 100.
11  قرار 5178 المؤرَّخ في 2 جوان 2005.
12 القرار عدد 61111 المؤرَّخ في 12 أفريل 2007؛ التقرير السنوي 2007، ص. 41؛ القرار عدد 3152 المؤرَّخ في 26 جويلية 2004؛ التقرير السنوي 2004، ص. 48.
13  التقرير السنوي 2004، ص. 49.
14 القرار عدد 131326 المؤرَّخ في 29 ديسمبر 2016.
15 القرار عدد 2144 المؤرَّخ في 10 ماي 2003؛ التقرير السنوي 2003، ص. 28؛ القرار عدد 111290 المؤرَّخ في 5 أفريل 2012، والقرار عدد 91196 المؤرَّخ في 18 أكتوبر 2012؛ التقرير السنوي 2012، ص. 33؛ وغيرها كثير.
16 التقرير السنوي 2012، ص. 32.
17 التقرير السنوي 2010، ص. 105؛ التقرير السنوي ص. 69.
18 القرار عدد 121292 المؤرَّخ في 13 ديسمبر 2012، التقرير السنوي 2012 ص. 24، 170، 171.
19 قرار 1/2001 المؤرَّخ في 16 نوفمبر 2002؛ التقرير السنوي 2002، ص. 72.
20 التقرير السنوي 2010؛ ص. 107.
21 القراران عدد 4157 و4158 في 16 ديسمبر 2005.
22 القرار عدد 71153 المؤرَّخ في 17 ماي 2012، وغيره كثير.
23 التقرير السنوي 2012، ص .57.
24 التقرير السنوي 2002، ص. 65.
25 التقرير السنوي 2008، ص. 64 وما بعدها.
26 التقرير السنوي 2008، ص. 225.
27 التقرير السنوي 2011 ص. 35؛ القرار عدد 101328 المؤرَّخ في 3 نوفمبر 2011.
28 القرار عدد 81165 المؤرَّخ في 13 أكتوبر 2011؛ التقرير السنوي 2011 ص. 36، وغيره كثير.
29 القرار عدد 81169 المؤرَّخ في 12 أكتوبر 2009؛ التقرير السنوي 2009 ص. 36.
30 القضية عدد 131331 الصادر فيها القرار في تاريخ 2 جويلية 2015.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، قطاع خاص ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني