إدانة “ألبان لبنان” على 20 سنة من تلويث الليطاني


2023-05-10    |   

إدانة “ألبان لبنان” على 20 سنة من تلويث الليطاني
تصميم علي نجدي

عشرون سنة من تلويث نهر الليطاني أُدينت عليها شركة “ألبان لبنان” بموجب حكم قضائي أصدرته القاضية المنفردة الجزائية في بعلبك لميس الحاج دياب في 2 أيّار، وغُرّمت بمبالغ بلغت 4 مليارات ليرة لارتكابها جرائم بيئية مختلفة. ومرّت الحاج دياب في الحكم المؤلّف من 37 صفحة على مراحل التلويث التي بدأت منذ نشأة المعمل في العام 2000 واستمرّت إلى عام 2021 حين تمّ تركيب محطة تكرير للمياه الصناعيّة، ما حمل النيابة العامة الاستئنافية في البقاع والمصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني إلى رفع دعوى ضد الشركة في العام 2018. وخلص الحكم إلى إدانة “ألبنان لبنان” ومديرها مارك واكد بدفع غرامات بالإضافة إلى تعويض المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني بقيمة 150 مليون ليرة، وإلزام الشركة بالكشف الدوري على محطة التكرير من قبل المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني وتنظيف مجرى النهر وبغرس أشجار الصنوبر على ضفافه. 

ورغم كون مجموع الغرامات التي فرضت على الشركة ومديرها لا تتعدى 40 ألف دولار نتيجة انهيار سعر الصرف، إلّا أنّ الحكم يتضمّن أعلى الغرامات التي أُلزم أي من المعامل الملّوثة لنهر الليطاني بدفعها. وبالتالي يعتبر من أقوى الأحكام الصادرة بحقّ ملوّثي الليطاني من حيث حجم الغرامات ومن حيث محاسبة الشركة على سنوات من تلويث النهر لا سيّما أنّها من أكبر شركات الألبان والأجبان في لبنان حيث تدّعي أنها تؤمّن 70% من حاجة البلد إلى منتجات الحليب بما يعنيه ذلك من مراكمة أرباح على مدى ربع قرن لم تحُل دون استمرارها في تلويث الليطاني من دون اتخاذ أي إجراءات لمنع ذلك. كما تكمن أهميّة الحكم أيضًا في تكريسه “تأهيل الوسط البيئي” من خلال غرس أشجار على ضفاف النهر، بحسب تعبير المدير العام للمصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني سامي علويّة “والتدابير الاحترازية لجهة إلزام المؤسسات بالخضوع للرقابة”.

يشار إلى أنّه حتّى اليوم، أصدرت محاكم بعلبك وزحلة أحكامًا بحق 39 مؤسسة صناعية مشتبهة بالمساهمة في تلوّث نهر الليطاني فيما لا تزال 54 مؤسسة قيد المحاكمة. وقد قضت المحاكم بإدانة 32 مؤسسة (12 منها استأنفت الأحكام بحقها) وبإعلان براءة 7 مؤسسات. 

وتُعدّ “ألبان لبنان” إحدى أكبر الشركات الصناعيّة الملوّثة لنهر الليطاني، وعلى الرغم من ذلك هي واحدة من شركات عدّة تمتلك مصانع حصلت على قرض مدعوم (بصفر فائدة) في العام 2018 بقيمة مليوني دولار، ضمن مشروع “مكافحة التلوث البيئي في لبنان” LEPAP، وهو مشروع مموّل من البنك الدولي والحكومة الإيطاليّة عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP. واعتبرت الشركة في الدفوع الشكليّة التي قدّمتها إلى المحكمة لمنع ملاحقتها أنّها “سعت منذ العام 2015 لدى وزارة البيئة لأجل وضع آلية معالجة ضمن مشروع LEPAP”. وقالت الشركة إنّها حصلت من وزارة البيئة في 19 آذار 2018 على مهلة لتركيب محطة تكرير وفي شهر تشرين الأول من العام نفسه أبرمت اتفاقيّة مع شركة LWR الكندية لتركيب المحطة.

محاولة الشركة رد الدعوى بذريعة المهل الإداريّة وانتفاء صفة المصلحة

في ردّها على الدعوى، حاول وكيل الشركة المحامي رامز حمّود في البداية عبر الدفوع الشكليّة نفي صفة المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني بالادعاء عليها، كما أكّد على أنّ الشركة استحصلت على مهلة إداريّة من وزارة البيئة لإنشاء محطة التكرير. فردّت المصلحة بالتأكيد على صفتها بموجب قانون المياه الجديد (رقم 72/2018 وتعديلاته) الذي يسمح لمؤسسات المياه بالادعاء على الملوّثين، كما شددت على أنّ النص الجزائي يعلو على المهل الإدارية ولا يمكن توقيف دعوى قضائية بمهلة من وزير. وحاولت الشركة التذرّع بالاتفاقية المعقودة لتركيب محطة التكرير من أجل منع ملاحقتها، لكنّ القاضيّة الحاج دياب ضمّت الدفوع إلى أساس الدعوى ورفضت حجج الشركة في الحكم، مشيرةً إلى أنّ “مبادرة الشركة المدّعى عليها ومديرها بعد سنوات عديدة من عملها للمباشرة بإجراءات إنشاء محطة التكرير لا تُشكّل سببًا يحول دون قبول الدعوى”. 

وكان وكيل المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني المحامي علي عطايا طلب رد الدفوع الشكليّة مطالبًا بمحاسبة الشركة عن تلويثها لنهر الليطاني في السنوات السابقة. واعتبرت المصلحة أنّ “أفعال الشركة تُعتبر من الجرائم البيئيّة المقترفة من المدعى عليهما، واكد والشركة، لجهة تسييل الصرف الصناعي والصحي بشكل واسع ومتكرر في مجرى النهر وروافده وصولًا إلى مسطّح بحيرة القرعون، فضلًا عن تلويث المزروعات التي يأكلها الشعب اللبناني”. وشرحت المصلحة أنّ ذلك يؤدي إلى “إحداث خلل بالتوازن البيئي ما يهدد استقرار الإنسان وسلامته وصحته ومستقبله”. واعتبرت أنّ “جرائم البيئة تشكل اعتداءً على الحق العام”.

تلويث الليطاني من العام 2000 إلى 2021 

شرح الحكم أنّ “ألبان لبنان” الواقعة في بلدة حوش سنيد في بعلبك، في محيط أراضٍ زراعية، تمتلك معملًا لصناعة الأجبان والألبان وجميع مشتقات الحليب والعصائر، بالإضافة إلى مزرعة أبقار تحتوي على نحو 3000 بقرة. وتنتج الشركة بحسب ما أدلت به في المحكمة ما يؤمّن 70 بالمئة من حاجة السوق اللبنانيّة من منتجات الحليب. وأشار الحكم إلى أنّ “ألبان لبنان” أقدمت على تسييل المياه الناتجة عن المعامل مباشرة في مجرى نهر الليطاني دون معالجة. وهذه الملّوثات مصدرها أولًا معمل الألبان الذي يخرج منه “مصل الأجبان ومياه التنظيف والشطف، والمصدر الثاني روث الحيوانات”.

الحكم أتى ليؤكد أنّه ما بين العام 2000 و2008 كانت النفايات الصناعيّة التي تخرج من “ألبان لبنان” تحوّل مباشرة إلى مجرى النهر، إلى أن قامت عام 2008 بإنشاء ثلاث حفر ترسيب تعبر عبرها المياه الصناعيّة على أن تخرج من الحفرة الثالثة المياه الأقل تلوّثًا. إلّا أنّ هذه الطريقة ليست فعّالة كون المياه التي تخرج من الحفرة الثالثة تكون أقل تلوّثًا إنّما غير صالحة لتسييلها في السواقي الطبيعيّة، بحسب ما أكدّه الخبراء الّذين كشفوا على المعمل. وأوضح الحكم أنّ هذه الطريقة وإن كانت تخفّف التلوّث إلّا أنّها غير وافية لتسييلها في السواقي الطبيعية. ويُشار إلى أنّه بعدما بدأت رحلة الشركة مع القضاء جرّاء ادعاء النيابة العامّة الاستثئنافيّة عليها في العام 2018 قامت الشركة بإنشاء حفرة ترسيب رابعة لاستخدامها لتخفيف التلوث ريثما تقوم بالانتهاء من مشروع تنفيذ محطة معالجة. وبالتوازي مع جلسات المحاكمة باشرت الشركة في أواخر العام 2019 بتركيب محطة معالجة للمياه الصناعيّة السائلة.   

100 ألف متر مكعب من المياه الصناعيّة يوميًا في النهر

خلال فترة المحاكمة اعتمدت القاضية لميس الحاج دياب على وزارة الصناعة في المرحلة الأولى للكشف على المعمل وأخذ العيّنات من المياه الصناعيّة. ويومها أصدرت وزارة الصناعة تقريرًا أكدت فيه أنّه بنتيجة الكشف تبيّن وجود 100 ألف متر مكعب من المياه الصناعيّة يوميًا تخرج عن المعمل وتمرّ عبر حفر الترسيب ثم يجري تسييلها في مجرى النهر. وشرح التقرير أنّ “حفر الترسيب التي تستخدمها الشركة تُخفف من ضررها إنما لا يكفي لجعل المياه صالحة للرمي في السواقي والأنهار الطبيعيّة”. 

وعلى إثر الانتهاء من تركيب محطة المعالجة كلّفت القاضية الحاج دياب الخبيران كمال سليم وطلال درويش للكشف على المعمل وأخذ العيّنات، نفّذ الخبيران زيارات عدّة بدأت في أواخر العام 2019 وانتهت عام 2022 حين أصدرا آخر تقرير يؤكد نجاح عمليّة تكرير المياه الصناعيّة. وأكدّ الخبيران أنّ الصرف الصناعي الخارج من معمل “ألبان لبنان” هو عبارة عن مصل الأجبان ومياه التنظيف والشطف وهو ينقل إلى ثلاث حفر ترسيب، وأنّ الصرف الزراعي هو عبارة عن المياه المبتذلة التي تنتج عن شطف المزارع وتحتوي على روث الأبقار.  

وقد استند الحكم على تقارير وزارة الصناعة والخبيرين، كما على أقوال واكد خلال استجوابه والتحقيقات الأوّلية من قبل مفرزة بعلبك القضائية والكشف الذي أجراه مندوبو وزارتي الصناعة والصحة ومصلحة الليطاني، بالإضافة إلى شهادات تحليل عيّنات المياه الصادرة عن معهد البحوث الصناعية والمجلس الوطني للبحوث العلمية.

غرامات تصل إلى 4 مليارات ليرة 

يأتي هذا الحكم بعد سلسلة من عشرات المحاكمات في محكمة بعلبك، والتي واجهت عراقيل نتيجة التظاهرات التي عمّت البلاد بعد 17 تشرين الأول 2019 وانتشار جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي وإضراب المحامين واعتكاف القضاة وإضراب المساعدين القضائيين.  

وقد خلصت القاضية الحاج دياب في حكمها إلى إدانة الشركة ومديرها مارك واكد بجرائم تلويث البيئة على خلفيّة قيامها “بتحويل مياه الصرف الصناعيّة والصحيّة والزراعيّة الناتجة عن معمل ألبان لبنان بشكل مباشر إلى مجرى نهر الليطاني من العام 2000 لغايّة العام 2005، وبعدها قامت بتحويل المياه إلى حفر ترسيب تبيّن أنّها غير فعّالة حتّى شهر أيلول من العام 2019 حين جرى تركيب محطة التكرير”. ولفت الحكم إلى أنّ “فعالية المحطة كانت محدودة في المرحلة الأولى وكان يتم تسييل مياه الصرف في مجرى الليطاني بعد خروجها من محطة التكرير، وفي أواخر العام 2021 تم إنجاز التعديلات اللازمة على محطة التكرير وباتت مياه الصرف المكررة صالحة للري”. 

واستندت القاضيّة إلى قانون حماية البيئة رقم 444/2002 وقانون المياه رقم 192/2020 وقانون العقوبات وقانون المحافظة على البيئة رقم 65/ 1988 لإدانة الشركة ومديرها. وبعد تقرير اجتماع الجرائم المعنوي، حكمت على الشركة وواكد بجريمة المادة 91 من قانون المياه التي تُعاقب بالحبس من 10 أيّام إلى ثلاث سنوات وبغرامات تصل إلى 220 ضعف الحد الأدنى للأجور كل من ارتكب جرائم تضر بالمياه السطحية بما فيها رمي النفايات والمواد الضارّة، معطوفة على المادة 257 عقوبات التي تسمح بتشديد العقوبة.

وقضت المحكمة بحبس واكد ثلاث سنوات وتغريمه 440 ضعف الحد الأدنى للأجور، واستبدالها تخفيفًا سندًا للمادة 254 عقوبات بغرامة قدرها 200 ضعف الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص (ما يوازي 9 ملايين ليرة لبنانية حاليًا) مع زيادة غلاء المعيشة التي تكون مقررة ونافذة في تاريخ تسديد الغرامة. كما وغرّمت الشركة بغرامة قدرها 440 ضعف الحد الأدنى للأجور. وفي حين تبدو هذه الغرامات مرتفعة، إلّا أنها تصل فعلياً إلى 4 مليارات ليرة لبنانيّة أي أنّها في الحقيقة لا تتعدى 40 ألف دولار نتيجة انهيار سعر الصرف. ومع ذلك فالحكم يتضمّن أعلى الغرامات التي أُلزم أي من المعامل الملّوثة لنهر الليطاني بدفعها. 

وألزم الحكم المدّعى عليهما بالتكافل والتضامن بغرس 1600 غرسة من أشجار الصنوبر على ضفاف مجرى الليطاني في حوش سنيد. وإلزام الشركة بالفحص الدوري للمياه التي تخرج من محطة التكرير العائدة لها بإشراف وزارة الصناعة والمصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني، وذلك كل ثلاثة أشهر في السنة الأولى، وبعد ذلك كل ستّة أشهر لمدّة عامين، وبعدها مرّة واحدة في السنة. كما ألزمتها بتركيب عدّادات للمياه الداخلة والخارجة من محطة التكرير، والسماح للمدّعية أي المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني بالشكف مرّة شهريًا على المجرى الشتوي لمياه الأمطار العائد للمعمل. 

أمّا لناحيّة التعويضات، ألزم الحكم المدعى عليهما الشركة وواكد تسديد مبلغ 150 مليون ليرة بدل عطل وضرر لصالح مصلحة الليطاني. 

وعلّق وكيل المصلحة المحامي علي عطايا على الحكم معتبرًا أنّ القاضيّة شددت العقوبات مستفيدة من قانون المياه الجديد وتعديلاته. ويعتبر عطايا أنّ هذا الحكم مهم لناحيّة إلزام الشركة بغرس الأشجار على ضفاف النهر كما وتنظيف النهر. ويُضيف: “ما يهمّنا اليوم هو الكشوفات الدورية التي طلبنا من المحكمة إلزام المعامل الملّوثة بها، وأيّدتنا بذلك، ما يُخضع المعامل للمراقبة الدورية لضمان استمرار تشغيل محطات التكرير”. وأضاف: “كما طلبنا من المحكمة أن تجعل قسمًا من التعويض معجّل التنفيذ وهذا ما تحقق في الحكم عملاً بالمادة 202 من قانون أصول محاكمات جزائية”. 

ويصبّ تعليق عطايا في الاتجاه نفسه مع تعليق المدير العام للمصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني سامي علويّة الذي يؤكد لـ “المفكرة”: “نجحنا بتنفيذ جزء هام من الأحكام قبل صدورها، أي لجهة الإلزامات المدنيّة كتأهيل الوسط البيئي، والتدابير الاحترازية لجهة إلزام المؤسسات بالخضوع للرقابة، وهذا ما ضمنته المصلحة عبر المحكمة التي كانت تكلّف في كل ملف للكشف على المعامل وأخذ العينات والتأكد من التزامها المعايير البيئية”. ويلفت إلى أنّ ذلك ما كان ليحصل لولا صدور قانون المياه عام 2018 الذي منح المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني الصفة لملاحقة الملّوثين، ولاحقًا في التعديل الجديد لقانون المياه لعام 192/2020 ضمنّت المصلحة تنفيذ الأحكام إذ أصبح إستئناف الأحكام لا يوقف تنفيذها باعتبارها معجلّة التنفيذ”.  ويشرح أنّ “ألبان لبنان” أصبحت تعتبر مستوفية للشروط البيئيّة لكنّ العبرة في استمرار توفّر هذه الشروط وهذا يستوجب الرقابة المستمرة من قبل المصلحة كما وزارتي الصناعة والبيئة”. 

ويؤكد علويّة أنّ “المصلحة هي الوحيدة التي تُطبّق قانون المياه، وبالمقابل هناك تقصير من الوزارات المعنيّة ومن بينها وزارة العدل التي من واجبها تدريب الضابطة العدلية على ملاحقة الجرائم البيئيّة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، بيئة ومدينة ، تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني