لم ينته التحقيق في تفجير الرابع من آب بعد، لم تنجل الحقيقة ولم تتحقق العدالة، ورغم ذلك يريد بعض الوزراء في الدولة اللبنانية هدم إهراءات القمح التي دمّر قسّم منها في التفجير والتي هي بالتالي جزء من مسرح جريمة الرابع من آب. فقد أعلن وزير الاقتصاد أمين سلام بأنّه سيتم إجراء مناقصة لاختيار الشركة التي ستتولّى عملية هدم الإهراءات، قبل نهاية شهر شباط، بحجّة “أنّها باتت خطيرة وآيلة للسقوط ويمكن أن تنهار إذا هبّت عاصفة قوية”. 

قرار الهدم كان بالنسبة لأهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت وأهالي شهداء فوج الإطفاء بمثابة المسّ بالخطوط الحمراء، حيث يرفضون “دق مسمار واحد في المرفأ قبل انتهاء التحقيق وجلاء الحقيقة”، فنفذوا وقفةً احتجاجيةً هي الثانية هذا الشهر احتجاجاً على محاولات تمرير قرارات تتعلق بإعادة إعمار المرفأ قبل انتهاء التحقيق.  

الأهالي للمعنيين: “ريحة الشهداء مجبولة بقمح الصفقات” 

على بعد أمتارٍ من المرفأ والإهراءات وتحت تمثال المغترب تجمّع الأهالي وعدد من المتضامنين أمس الأحد 20 شباط. أقفلوا الطريق بأجسادهم مفترشين الأرض وقطعوا الطريق أمام السيارات كخطوةِ تحذيريةِ، هم اليوم حماة التحقيق في التفجير وحماة “الحقيقة”، إذ لا حكومة تضرب بيدٍ من حديد لتحقيق العدالة، ولا وزراء ولا نواب ولا حتى أحزاب تساندهم. 

والدة الضحية إلياس خوري اعتبرت أنّ لا هدم ولا إعمار قبل جلاء الحقيقة والعدالة، وأنّ الأهالي لن يسمحوا بالتعامل مع التفجير كما تمّ التعامل مع تبعات انتهاء الحرب الأهلية، حيث تمّت إعادة الإعمار بلا أي محاسبة “بعد الحرب قلبنا الصفحة، بس التفجير مش لازم يكون صفحة ومنقلبها”، رافضةً إعادة إعمار المرفأ على أحزان الأهالي وأشلاء الضحايا، مشدّدةً على إبقاء الإهراءات معلماً يذكّر الأجيال المقبلة بما حصل في ذلك اليوم، ويخلّد ذكرى الضحايا الذين قضوا. 

ودعت ريما الزاهد شقيقة الضحية أمين زاهد المعنيين للنزول إلى المرفأ وتنشّق عطر الضحايا، “ريحة عطر الضحايا بعدو مجبول بالمرفأ ومجبول بالقمح لي بدهم يتاجروا فيه”، مطالبةً بالسعي لكشف الحقيقة قبل عقد الصفقات لتحقيق الأرباح، “إذا بدهم مصاري يجيبوها بعيد عن دمنا وأشلائنا”. 

إحدى المتضامنات اعتبرت أنّ المعنيين يريدون بيع دم الشهداء وطمس الحقيقة من أجل حفنة من الأموال، طارحةً علامة استفهام حول التقاعس عن تنفيذ مذكرات التوقيف الغيابية بحقّ يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل: “الأجهزة الأمنية كلّها تحرّكت كرمال قضية رياض سلامة بس مش قادرين تجيبوا واحد من المدعى عليهم”، مضيفةً أنّ الإهراءات يجب أن تبقى كوصمة عار ضد الفساد والإهمال، وأنّهم بقرار الهدم يدوسون على أشلاء الشهداء على حد قولها، “ريحة الدم رافضة مغادرة المرفأ قبل جلاء الحقيقة”.   

الأهالي “لا هدم ولا إعادة إعمار قبل جلاء الحقيقة” 

وكانت هناك كلمةٍ للجنة أهالي الضحايا ألقاها جورج بازجيان، والد الضحية جيسيكا بازجيان، اعتبروا فيها أنّ كل هذه القرارات هي لإخفاء الحقيقة وطمس مسرح الجريمة، وأنّ كلّ الحجج المقدّمة عن أنّ الإهراءات آيلة للسقوط “ما هو إلّا ذريعة لعقد الصفقات”، رافضين العبث بمسرح الجريمة، متسائلين إن تمّ استئذان المحقق العدلي طارق بيطار قبل اتخاذ القرار. ودعا الأهالي المعنيين إلى تنفيذ مذكرات الجلب ومذكرات التوقيف بحق المدعى عليهم قبل الاكتراث لهدم الإهراءات، مشدّدين على أنّ الحل الوحيد لإعادة إعمار المرفأ هو “العدالة والحقيقة”، عدا عن ذلك “يحلموا”. 

من جهته، رفض ويليام نون شقيق شهيد فوج الإطفاء جو نون، الموافقة على أيّ قرارٍ يتعلق بمسألة هدم الإهراءات، هازئاً من المعنيين “الخائفين” على سلامة اللبنانيين من سقوط الإهراءات وأمنهم الغذائي، فضحايا فوج الإطفاء وغيرهم قضوا نتيجة “إهمالهم وفسادهم”. وأضاف: “الأهالي بقوا أسبوعين عم يدوروا على  أشلاء ضحاياهم، لذا فإنّ كلّ الحديث اليوم عن الخوف تجاه الإهراءات وتجاه القمح مرفوض”. وهدّد من عواقب المساس بمسرح الجريمة قبل جلاء الحقيقة: “فشر على أكبر حكومة تمدّ إيدها على شي بالمرفأ مطرح ما سقطوا شهدائنا قبل ما نحن ناخد حقنا”. وأضاف أنّ الإهراءات ستبقى وصمة عارٍ تلاحق جميع المعنيين “الذين وصلت إليهم مراسلات عن وجود النيترات ولم يحركوا ساكناً، ووصمة عار تجاه كل من تقاعس عن أداء واجبه فتسبب بوقوع التفجير وموت ضحايانا وشهدائنا”، متعجّباً من قدرة السلطة على التفكير دائماً في الصفقات متناسيةً جراح من قضوا. “مش مقبول كل مرة بيحاولوا يلهونا بشي، مرة بالإهراءات والشبابيك والإعاشات وناسيين الشهداء ولي ماتوا”، مطالباً بإبقاء الإهراءات كشاهد على ما ارتكبته الدولة بحق شعبها، “ممنوع تنمد إيد على الإهراءات قبل ما تظهر العدالة، بدنا الإهراءات متحف شاهد على الجريمة لي عملتوها بالشعب”. وذكّر نون الشعب اللبناني وأهالي بيروت وضواحيها بما جرى في الرابع من آب داعياً الجميع للنزول والوقوف معهم في وجه السلطة وقراراتها، “ما تنسوا شو صار فيكم، ما تنسوا كيف كتنوا واقفين عالشبابيك لي اتكسر زجاجها بوجهكم، ولا حدا ينسى الشوارع كيف كانت ولا البيوت كيف كانت، ولا حدا ينسى كيف نزلوا عالمرفأ ودعسوا عالأشلاء بي 9 آب”. واعتبر نون أنّ هدف السياسيين الوحيد من هدم الإهراءات هو مسح الذاكرة الجماعية والصورة المتعلقة بالتفجير، “همّهم ينسّوا العالم شو صار بشيلوا الإهراءات من وجهنا”، مهدّداً الشركة التي ستتعهّد هدم الإهراءات بأنّها ستضطر إلى مواجهة الأهالي على أرض المرفأ، مذكّراً بما فعله الأهالي سابقاً حين تصدّوا للحفلة التي كان من المفترض تنظيمها من قبل نادي “ليونز” داخل المرفأ في شهر أيار المنصرم. 

وكان وزير الاقتصاد أمين سلام أوضح لـ “الجمهورية” أنّ شركة خطيب وعلمي الاستشارية قد قدمت دراسة هندسية قدّمت دراسة هندسية كاملة حول من يمكن أن يتولّى عملية هدم الإهراءات وكلفة ذلك. وأضاف أنّه سيتمّ اختيار شركة “تقوم بعمليات الهدم والتنظيف قبل أن نطلق مناقصة إعادة الإعمار”، مشيراً إلى أنّ تغطية نفقات الهدم يمكن أن تحصل من قيمة بيع الردم والحديد. 

وكان الاقتراح قد أثار حفيظة عدد من المهندسين والمعنيين الذين رفضوا حجج الوزراة لهدم الإهراءات، مشددين على ضرورة ترميمها وإبقائها نصباً تذكرياً للتفجير، وسوف تنشر “المفكرة القانونية” لاحقاً تحقيقاً موسّعاً عن تفاصيل القضية.