أسئلة عن الفساد والتدخل يطرحها تسريب مكالمة لثلاث قضاة في المغرب


2022-07-22    |   

أسئلة عن الفساد والتدخل يطرحها تسريب مكالمة لثلاث قضاة في المغرب

تعيش الساحة القضائية والحقوقية بالمغرب حالة من الجدل عقب تداول منصّات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري تسجيلًا صوتيًّا تبلغ مدته حوالي 30 دقيقة منسوبًا إلى 3 قضاة حول وجود تدخل في تدبير ملف قضائي معروض على هيئة قضائية يُتابع فيه حدثان (أقل من 18 سنة) في حالة اعتقال، وقد تضمن التسجيل المذكور أيضا عبارات تتّهم المحامين بالفساد.

قصة التسريب الصوتي: محاولة فضح سمسرة أم تدخل في القضاء؟

يحتوي التسجيل الصوتي على حوار دار بين رئيسة غرفة لمحكمة النقض وهي عضو سابق في المجلس الأعلى للسلطة القضائية وعضوة حاليا في الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، ورئيس غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، حيث قام هذا الأخير بالاتصال بالقاضية المذكورة رفقة زميل له في الهيئة ليبرر لها عدم تمكنه من تجهيز ملف معروض على أنظار الهيئة تلبية لطلبها في مكالمة سابقة، نظرا لتقدم محامٍ بطلب لمهلة لإعداد الدفاع، مما تقرر معه الاستجابة لطلبه، وتأجيل البت في القضية الى شهر سبتمبر بعد انقضاء العطلة القضائية.

وورد في التسجيل حديث للقاضية عن تعرّض عائلة الحدثيْن للابتزاز من طرف محامية بحسب المعلومات التي توصلت بها من طرف إحدى الأمهات التي تعمل لديها في الخدمة المنزلية، حيث طلبت منهم المحامية المذكورة مبلغ 25 ألف درهم (2500 دولار) مقابل التدخل لدى الهيئة القضائية لإطلاق سراح الحدثين.

وقالت القاضية في التسجيل، إنّ المحامية المذكورة عند علمها بأن ملف الحدثين تأجل إلى سبتمبر المقبل، أخبرت الأم، أن سبب التأجيل مردّه رفض العائلتيْن أداء المبلغ المالي الذي طلبته الهيئة مقابل منح السراح، وأوضحت القاضية أن أمهات الحدثين هما خادمتان ويسكنان في سكن الصفيح ولا يتوفران على أي مبلغ كاف لدفعه، وأنهما ينويان تقديم شكاية إلى المفتشية العامة ضد الهيئة القضائية بسبب الابتزاز الذي تعرضتا له. حينئذ تدخل رئيس الهيئة وطلب من القاضية أن تطلب من الخادمة زيارته في المكتب بقصد مساعدتها، كما عرض عليها تغيير المحامية مستنكرا في كلامه الفساد الموجود داخل قطاع المحاماة والذي يمسّ أكثر من 90% من العاملين فيه بحسب قوله.

هيئات مهنية وحقوقية تدخل على الخطّ

عقب تداول التسجيل الهاتفي، توالتْ ردود أفعال الهيئات التنظيمية للمحامين الذين اعتبروا أن التسجيل يتضمن إساءة للمهنة بسبب ما صرح به رئيس غرفة الجنايات في التسريب الصوتي من كون 90% من المحامين هم فاسدون.

وبدعوة من جمعية المحامين الشباب، نظم العشرات من المحامين وقفة احتجاجية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء من أجل التنديد بما أسموه “استشراء الفساد والتصدّي للتدخّل والتأثير في القضاء من طرف كل من يسعى إلى تقويض سيادة القانون”.

واعتبرت “جمعية المحامين الشباب”، أن هذه الوقفة “محطة جديدة مفصلية في معركة الدفاع عن نبل رسالة المحاماة وسمو رسالة القضاء” في مواجهة ما أسمته “بلوبيات الفساد والإفساد التي تهدد الأمن المهني للمحامين والقضاة الشرفاء والأمن القانوني والقضائي للمواطنات والمواطنين”.

وقال المحامون في بيان لهم عقب الوقفة الاحتجاجية، إنّ ما كشف عنه الشريط الصوتي المسرّب مؤخراً “لا يمثل سوى نموذج كاشف للممارسات التي تقتل ثقة المواطنين في العدالة وتفتح الباب على مصراعيْه للسماسرة والمفسدين من كل جانب ليعيثوا فساداً”. وأضافوا: “آن الأوان لكي يعي الجميع بأن الفساد لا يتجسّد فقط في القاضي الذي يطلب أو يقبض الرشوة، ولكنه يتجسّد أيضا في القاضي الذي يسمح لأيّ كان بأن يتدخل في ملف معروض على نظره ويتحدث إليه معتذراً طالباً الصفح لأنه اضطر لاحترام حقوق الدفاع ولم يجهز الملف ليقضي فيه بما كان متفقاً عليه.. والقاضي الذي يسمح بتدخل أصدقائه وذوي الحظوة لديه ويحسّ بأنه ملزم بأن يراعي مكانتهم .. والقاضي الذي يعتبر أن طلبات النافذين أوامر لا تردّ”.

النيابة العامة تعلن عن فتح بحث قضائي ونادي القضاة يدعو الى تفعيل مسطرة التبليغ

أعلن الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء نجيم بنسامي عن فتح بحث قضائي عهد به إلى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء “من أجل إجراء التحقق من حقيقة وظروف وخلفيات ما ورد بالشريط الصوتي من معطيات، والاستماع إلى كل من له علاقة بالموضوع، وإجراء جميع التحريات اللازمة لبلوغ ذلك”، مؤكدا أنه “حالما تنتهي الأبحاث سوف يتم ترتيب الآثار القانونية اللازمة على ذلك”.

وطالبت الجمعية المغربية لحماية المال العام النيابة العامة بتسريع نتائج البحث المعلن عنه. كما دعت ترانسبرانسي بأن تتم الأبحاث “بكل موضوعية دون تمييز أو امتياز للكشف عن ملابسات هذه القضية، ونشر نتائج هذه الأبحاث بكل شفافية لتعزيز الثقة في القضاء.

من جهتهعبر “نادي قضاة المغرب”، في بيان أصدره عقب الواقعة عن رفضه لمختلف أشكال التدخّل في السلطة القضائية، بغضّ النظر عن مصدرها، بما يضمن عدم التأثير في مجريات القضايا المعروضة على أنظار القضاء أو التي فتح بشأنها بحث قضائي بأمر وإشراف الجهة القضائية المختصة، معلنا إحجامه عن التعليق على قضية التسجيل الصوتي، “ما دام أنها أصبحت موضوع بحث قضائي فُتِح بأمر وإشراف النيابة العامة المختصة، وذلك احتراماً للقضاء وتجنباً لأي تأثير محتمل عليه”.

ودعا النادي جميع القضاة إلى “تفعيل مقتضيات الفصل 109 من الدستور، وذلك بإحالة كل المحاولات غير المشروعة للتأثير على أوامرهم وأحكامهم وقراراتهم على المجلس الأعلى للسلطة القضائية، لاتخاذ ما يراه مناسباً من إجراءات كفيلة بحماية استقلاليتهم”.

إشكاليات أولية في انتظار الكشف عن نتائج التحقيق

تطرح واقعة التسجيل الصوتي المنسوب إلى القضاة الثلاثة عدة إشكاليات تتعلق بعضها بنصوص القانون وتتعلق الأخرى بممارسات في الواقع.

الإشكالية الأولى تتعلق بعدم تفعيل مسطرة التبليغ عن محاولات التأثير غير المشروع والتي يتعرض لها القضاة، حيث ينص الفصل 109 من الدستور على ما يلي:

“يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء؛ ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات، ولا يخضع لأيّ ضغط.

يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.

يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة.

يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة”.

وبالرغم من أهمية هذا المقتضى الذي تم تأكيده أيضا في القوانين التنظيمية للسلطة القضائية إلا أنه يبقى غير مفعل على أرض الواقع. فمنذ تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية لم يتضمن أي تقرير من تقاريره، أي احصائيات تخص تفعيل هذه المسطرة، مما يؤكد أنها تبقى غير معروفة وغير مفعلة لدى القضاة.

الإشكالية الثانية تتعلق بتفعيل الخط الأخضر، وهي المبادرة التي سبق لرئاسة النيابة العامة أن أعلنت عنها لتشجيع الأشخاص الذين يتعرضون للابتزاز للجوء الى التبليغ عن الفساد، وهي مبادرة ينبغي أن يشارك فيها كل الفاعلين بمن فيهم القضاة والمحامون أنفسهم متى وصلت إلى علمهم معلومات عن تعرّض أشخاص للابتزاز في ملفّات معروضة على أنظار القضاء. فالحلّ الأمثل ليس هو محاولة التوسّط لدى الهيئات القضائية، وإنّما تشجيع الضحايا على التبليغ لعدم التطبيع مع الفساد.

الإشكالية الثالثة تتعلق بنصوص الامتياز القضائي، والتي تجعل اختصاص التحقيق في الجرائم المنسوبة لفئات من الموظفين والمسؤولين ومن بينهم القضاة يعود إلى جهات محددة قانونا، حيث تنص المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية أنه: “إذا كان الفعل منسوباً إلى … قاض بمحكمة النقض …. فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض تأمر- عند الاقتضاء – بناء على ملتمسات الوكيل العام للملك بنفس المحكمة بأن يجري التحقيق في القضية عضو أو عدة أعضاء من هيئتها”. وتنصّ المادة 266 من نفس القانون أنه: “إذا كان الفعل منسوباً إلى قاض بمحكمة استئناف …. فإن للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض أن يحيل القضية بملتمس إلى الغرفة الجنائية بالمحكمة المذكورة التي تقرر ما إذا كان الأمر يقتضي إجراء تحقيق. وفي حالة الإيجاب، تعين محكمة استئناف غير المحكمة التي يباشر في دائرتها المعني بالأمر مهمته”.

وقد أدى التطبيق العملي لهذه المواد إلى وجود اتجاهين داخل القضاء الأول يعتبر أن قواعد الامتياز القضائي تخصّ مرحلة التحقيق والمحاكمة ولا تسري على مرحلة البحت التمهيدي، في مقابل اتجاه قضائي ثانٍ يميل إلى إعمال الامتياز القضائي على مختلف المراحل بما فيها البحث التمهيدي[1].

أما الإشكالية الرابعة فتتعلق بمفهوم الخطأ الجسيم الذي يبرر التوقيف الفوري للقضاة. فمن المعلوم أن المادة 96 سابقا من مشروع النظام الأساسي للقضاة (المادة 97 من القانون الحالي)، كانت تنص على إمكانية “توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ جسيما”. وقد حدّدت هذه المادة صور الخطأ الجسيم في عدة حالات من بينها “إخلال القاضي بواجب الاستقلال والتجرد والنزاهة والاستقامة”. إلا أن المحكمة الدستورية اعتبرت في قرارها بشأن دستورية هذا القانون[2] أن الاخلال بواجب “التجرد” و”النزاهة” و”الاستقامة”، هي عبارات فضفاضة، وأن المشرع عليه استعمال “عبارات دقيقة وواضحة لا يعتريها لبس أو إبهام” في تحديد مفهوم الخطأ الجسيم. وبناء على ذلك، تمّ حذف هذه العبارات من نص المادة 97 دون تعويضها أو تدقيقها بناء على قرار المحكمة الدستورية، مما استولد صعوبات أمام المجلس لاتخاذ قرار التوقيف الفوري في حق بعض القضاة المشتبه في ارتكابهم لأفعال ماسة بالتجرد والنزاهة والاستقامة في حالة تأخر تحريك المتابعة القضائية في حقهم نظرا لطول الإجراءات التي تستغرقها مسطرة التحقيق، خاصة اذا كانت تتم معهم في حالة سراح، وقد سبق للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أن طالب بتعديل مواد في قوانين السلطة القضائية من أجل التغلب على بعض الصعوبات العملية التي كشفت عنها الممارسة.

مواضيع ذات صلة

الفصل 96

المجلس الأعلى للسلطة القضائية

كيف نضع حدّاً للتدخل في القضاء؟

دساتير عربية: التدخل في القضاء جرم غير قابل للتقادم

نقابة القضاة بالجزائر ترفض التدخل في استقلال القضاء

فضيحة قضائية في تونس: والهيئة تتدخل لمحاسبة القاضي وصون القضاء

تدخل غير مشروع في القضاء يكشف عن مؤشرات إيجابية

التدخل في القضاء جريمة

ماذا تعلمنا قضية الحاجة خديجة؟ (1) الخطاب الشعبوي يشرّع أبواب التدخل في القضاء

تدخل بالنواب والسلاح في القضاء

قاضية تثبت رسميا تدخل رئيس مجلس القضاء الأعلى في عملها القضائي

قاضية تحذّر من ثقافة التدخل في القضاء: ملاحظات حول جلسة المرافعات في قضية LBC

توضيح بشأن مقال: “ماذا تعلمنا قضية الحاجة خديجة؟ الخطاب الشعبوي يشرّع أبواب التدخل في القضاء

قضية الريف ضدّ “التدخل في القضاء”: مماطلة لنسيان فظاعة الجرم؟


[1]أنظر لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع:

-المصطفى عامر وعبد الكافي ورياشي: نظام الامتياز القضائي، الطبعة الأولى 2022.

[2]قرار المجلس الدستوري رقم : 16/992  م. د في ملف عدد : 16/1474، صادر بتاريخ  15 مارس 2016.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مقالات ، المغرب ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني