أزمة المدرسة العمومية: الوجه الآخر لأزمة الدولة الوطنية


2020-07-04    |   

أزمة المدرسة العمومية: الوجه الآخر لأزمة الدولة الوطنية

كثيرا ما يحضر التعليم العمومي في الخطاب السياسيالمرتبط بنموذج “دولة الاستقلال” بوصفه دليلا على تماسك مشروع “الدولة الوطنية” ووَجاهة الخيارات الإجتماعية والثقافية للنخب التي أدارت ذلك المشروع، وفي مقدمتهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لا يخلو هذا الخطاب من حُمولة إيديولوجية يجري توظيفها حاليا في الصراع السياسي على السلطة وما يستدعيه من توظيف للرمزيات والشخوص والمواريث السياسية، ولكنه يدلّ في جانب منه على الإرتباط التاريخي بين نشأة المدرسة العمومية التونسية وبدايات مشروع دولة الاستقلال. ولعل تحليل رهانات المدرسة العمومية وتناقضاتها وأزماتها يرتبط في جزئه الأكبر بقراءة الأزمة التاريخية والإجتماعية لمنظومة دولة الاستقلال، التي دشنت مرحلة تناقض حادّ مع بشائرها ووعودها القديمة، على غرار التقدم والتنمية والرقي الاجتماعي والاقتصادي.

تشير البدايات، أواخر الخمسينيات وما تلاها، إلى أن المدرسة العمومية كانت واحدة من الأجهزة الأيديولوجية والسياسية المتاحة أمام النخب التي مَسَكت الحكم والدولة في فترة ما بعد- الاستعمار.فقد تمّتسخيرها لخدمة هدف عمليّ تمثّل بالأساس في تزويد الدولة الناشئة بالكادر البشري المتعلم والمؤهل للانخراط في النسيج الإداري والسياسي للدولة، ومن أجل هدف إيديولوجي كثّفه شعار “الوحدة القومية” الذي يعملعلى تجذير حالة من التجانس الثقافي والسياسي وإيجاد وضع شعبي “إجماعي” حول مشروع دولة الاستقلال وبرامجها الثقافية والسياسية. وقد أشادت وزارة التربية في منشوراتها الصادرة في سنة 2016 بهذا الدور التاريخي الذي اضطلعت به المدرسة العمومية؛ “أتاحت المدرسة التونسية الوطنية المجال للدولة التونسية الفتية أفواجا من النخب مكنت من تونسة الإدارة وتعويض إطارات الفرنسيين المغادرين، ونجحت في ذلك عن جدارة…ومجمل القول إن إصلاح 1958 قد حقق إرساء الهوية الوطنية ومقومات دولة الاستقلال، كما أسهم في تكوين كفاءات تونسية ساهمت في بناء الدولة الحديثة وتعصير المجتمع”.[1]

هذا الدور الملتصق بالنخب الحاكمة ومشروعها الدّولاتي تَناسبَ في مرحلة أولى مع انتظارات فئات واسعة من المتعلمين المنحدرين من أوساط فقيرة ومتوسطة، تطلعت للمدرسة العمومية بوصفها معبَرا للنفاذ إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية والسياسية، ووسيلة لامتلاك “رأس مال ثقافي”[2] يجعلها قادرة على مضاهاة الأقلية الإجتماعية الأكثر حظا في النفاذ للموارد والسلطة. ولكن التناسب الأولي بين دور المدرسة العمومية والإنتظارات الإجتماعية كان هشا ولم يكن مالكا لشروط الإستمرار في الزمن. ومنذ ظهور المنزع السلطوي في إدارة الدولة والمجتمع في أواسط الستينات وصولا إلى بدايات الألفية الثالثة،بدأت المدرسة العمومية تفقد بريقها وجاذبيتها شيئا فشيئا، وأضحت جزءاً من مشهدية اجتماعية واقتصادية تطبعها اللاعدالة والتهميش والزبونية.

الخيار الليبرالي ومأزق المدرسة العمومية

لقد اقترن مصير المدرسة العمومية بمضامين الحكم ورهاناته الإجتماعية والإقتصادية. فبعدما حُسِم الصراع السياسي داخل بيوت الحكم لصالح منزع اللبرَلة وإلحاق الاقتصاد التونسي بالسوق العالمية والشروع في تصفية مشروع التعاضد سنة 1969،[3] كان من المرتقب أن يجري تسخير أجهزة الدولة السياسية والثقافية -بما في ذلك المدرسة العمومية-لصالح هذه الرؤية. وهكذا يمكن القول أن التعليم العمومي دخل منذ تلك الفترة في منعطف إنتاج نسبة قليلة من الخرّيجين المرتبطين بأفق المنوال الليبرالي الذي كان مسخرّا لخدمة أقلية نافذة في السلطة وفي دوائر المال والأعمال، في حين كانت أغلبية المتعلمين تشكّل جيشا مدنيا يزوّد الدولة بموارد بشرية جديدة يجري ضخّها باستمرار في المؤسسات التربوية والأمنية والثقافية والإدارية التابعة للدولة. ومع توسّع الجهاز البيروقراطي للدولة وتضخمه العددي بداية من ثمانينات القرن المنصرم، ستشهد معادلة التوظيف العمومي إنهيارا يبشّر بالدخول في مرحلة طويلة من عطالة خريجي التعليم العالي، ممّا وسع حالة الإحباط الشعبي من الدور “الإنقاذي” للمدرسة العمومية. وهو ما عكَسَه الشعار التلمذي الذي راج في تلك المرحلة؛ “تقرَا وإلاّ مَا تقراشْ المُستقبَلْ مَا فمَّاشْ”، بمعنى أن مسالك النجاح الاجتماعي أصبحت في جزء كبير منها تُصاغ من خارج مسارات التحصيل المدرسي العمومي، وأصبح النفاذ إلى المؤسسات والموارد مرتبطا بمدى الإقتراب من شبكة المصالح والإمتيازات.

لقد كان من المنتظر أن يترك خيار التخلي التدريجي عن الدور الاجتماعي للدولة ضمن الرؤية الليبرالية آثاره على التعليم العمومي. وهو ما تمظهَر بالأساس في تآكل بناه التحتية وانعدام مقومات الجودة المعرفية والبيداغوجية. وكان لزاما على المؤسسة التربوية الرسمية أن تعترف بهذا المآل التراجيدي للمدرسة العمومية بعد عقود من الإحتفاء الشعبوي بارتفاع نسب التمدرس والإجترار الأسطوري لأمجاد التعليم العمومي.وهو ما أشار إليه المخطط الإستراتيجي للتربية الذي لخّص جانبا من أوضاع مرحلة التعليم الإبتدائي العمومي (2016):”تتسم هذه المرحلة عموما باهتراء البنية التحتية في المؤسسات التربوية وتقادم الوسائل التربوية وغياب الحماية اللازمة للتجهيزات بها” مضيفا: “وقد تكون المعضلة الكبرى هي ظهور فجوة عميقة بين واقع المدرسة التونسية ومشروعها المبدئي الذي بقي نظريا، خاصة في ضوء تراجع العلاقة بين النجاح الأكاديمي التعليمي والتقدم والرقي الإجتماعي، مما أدى إلى تصدع علاقة المتعلم بالمؤسسة التربوية وبالمعرفة عامة”.[4]

المدرسة العمومية وإعادة إنتاج التهميش

إن التأمل في جغرافيا التعليم العمومي ونتائجه الجهوية والفئوية، يؤدي إلى الإقرار بأن المدرسة العمومية فقدت دورها “الإنتشالي” الأوّلي الذي راهنت عليه الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة وأصبحت آلة لإعادة إنتاج التهميش والتفاوت الجهوي والفئوي.فالفروق تبدو جليّة بين مدارس الأرياف والقرى النائية والأحياء الشعبية التي تفتقد للموارد المالية والبشرية والمدارس المنتشرة في مراكز الحواضر الكبرى التي تتميز عموما بظروف تحصيل علمي أفضل. ويمكن قياس قيمة الفوارقالجهوية في النتائج السنوية لمناظرة البكالوريا، إذ سجّلت كل من صفاقس والمنستير وأريانة نسب نجاح تفوق 42% سنة 2019، في حين سجّلت القصرين نسبة نجاح بـ16.8%، وقبلي 20.38%.[5] وفي نفس السياق، سجّلت وزارة التربية ارتفاعكتلة المنقطعين عن الدراسة الذين بلغت نسبتهم حوالي 100 ألف سنويا، مرجعة ذلك إلى الفوارق الاجتماعية بين التلاميذ.“إن مدرسة الجمهورية غدت بفعل ما تقدم من هنات تشتغل بأسلوب نخبوي يحقق النجاح للمتميزين والميسورين ولا يوفر فرصا حقيقية لبقية الفئات التي لا تقدر على التعامل مع المعارف النظرية المجردة، مما جعل المدرسة تلفظ عشرات الآلاف من المنقطعين عن الدراسة”.[6]

إن المسارات المدرسية اللامتكافئة التي يُنتجها الواقع التعليمي باستمرار تُجسّد القفا الموضوعي للإختلالات الهيكلية التي أفرزها المنوال الاقتصادي والخيارات السياسية والإجتماعية التي صاحبته طيلة عقود.فخلال هذه العقود، لم يكن التعليم العمومي مشروعًايستجيب لحاجيات المجتمع المادية والمعنوية ويؤسس لانخراط مواطني واسع في الإنتاج والمشاركة ومراكمة المعارف والمقدّرات، وإنما ازدهرت على ضفاف المدرسة العمومية ظاهرات اليأس والإنقطاع المدرسي والإحساس باللاعدالة وعدم الثقة في قيمة الشهائد.وقد تعزز ذلك تبعا للتشجيع الرسمي على نماذج النجاح الفردي والمنافسة من دون مراعاة الفوارق الإجتماعية وعدم تطابق المسارات بين تلميذ يقطع مسافات طويلة للوصول إلى المدرسة ولا تتوفر في محيطه الحدود الدنيا من الوسائل المعرفية والموارد المالية وتلميذ يقطع مساره المدرسي في ظروف مرفّهة ولائقة.ورغم أن مقاربات الإصلاح التربوي التي ظهرت بعد ثورة 2011 تعترف ببداهة هذه الوقائع، فإنها تصر على تجاهل الإرتباط الهيكلي بين أزمة المدرسة العمومية وأزمة البنى الاقتصادية والاجتماعية للدولة، مما جعل المدرسة العمومية تستأنف مسيرتها في فترة مابعد- الثورة نحو التدهور القيمي والمادي وتُراكم رصيدا إضافيا من التهميش والتآكل والتفاوتات الاجتماعية الحادة.

الهجرة إلى التعليم الإبتدائي الخاص

في ظل التقادم العلمي والعمراني الذي باتت تعيشه المدرسة العمومية، خاصة مؤسسات التعليم الابتدائي، يشهد قطاع التعليم الإبتدائي الخاص ازدهارا مستمرا، بدأ ينمو ببطء أواسط الثمانينات ليشهد حالة توسع مستمر خلال السنوات الأخيرة.وفي السنة الدراسية 2018-2019 سجّلت وزارة التربية تركيز 566 مدرسة ابتدائية خاصة تستقطب 90294 تلميذا،[7] وقد أصبح هذا القطاع حاضنة لاستقطاب نزعة اجتماعية متطورة ضد واقع المدرسة العمومية للبحث عن مستقبل مدرسي ومهني أفضل للأبناء. وهذه النزعة لا نجدها فقط لدى الأقلية المرفّهة وإنما تشهد إنخراطا متزايدا للفئات الحضرية المتوسطة، التي تتكبد عناء المصاريف المدرسية المشطة من أجل ضمان ظروف تمدرس جيدة للأبناء ومتلائمة مع النظرة الثقافية والإقتصادية المهيمنة لقيم النجاح والرقي.وتحيل هذه الظاهرة على تغيّر رهانات الفئات الإجتماعية إزاء المدرسة العمومية، إذ أن جيلا واسعا من الآباء المصنفين ضمن الشرائح المتوسطة لم يعد ينظر للتعليم العمومي بوصفه أداة للصعود الإجتماعي والإندماج ضمن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وإنما أصبح علامة على الفشل والتخلف المعرفي والبيداغوجي.

على الطرف الآخر من المعادلة، يخشى أن ينحدر مستوى المدارس الإبتدائية العمومية لتصبح بمثابة قلاعٍ قديمة، تستقطب إلى أسوارها المنحدرين من أوساط فقيرة وأشباههم من الشرائح العاجزة عن تحمّل تكاليف التعليم الابتدائي الخاص، مجسدة بذلك نموذج “مدرسة الهامش” التي تقدم خدمات معرفية وبيداغوجية بسيطة لهذه الشرائح. وخارج المدرسة يتطابق التهميش المعرفي مع تهميش وتفاوت أوسع، يشمل الخدمات العمومية الأخرى مثل الصحة والنقل والنفاذ للوظائف والانخراط في دورة الإنتاج الاقتصادي، وهكذا تصبح أزمة التعليم العمومي جزءا من حلقات مشدودة إلى بعضها، تبدأ من تفاصيل الحياة المدرسة اليومية مثل نوعية النقل المدرسي وجودة الأكل والملبس، مرورا بالظروف الاجتماعية والإقتصادية لمحيط التلميذ، وصولا إلى نهاية المسارات العلمية واختلاف الشهائد الجامعية ومعضلة النفاذ إلى سوق الشغل والإندماج في المجتمع بشكل عام.

  • نشر هذا المقال  بالعدد 18 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

التعليم، قلعة تونس المتصدعة


[1] الكتاب الأبيض: مشروع إصلاح المنظومة التربوية في تونس، وزارة التربية، ماي 2016.

[2] يعود استخدام مفهوم “رأس المال الثقافي” لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002).

[3] للوقوف بأكثر تفصيل على سياقات فرض الخيار الليبرالي وتصفية التعاضد، انظر: ليلى الرياحي، وسيم العبيدي. غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا: تحليل للسياسات التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية، مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية، جوان 2019.

[4]المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020، وزارة التربية التونسية، 2016.

[5] نتائج الباكالوريا: نسب النجاح حسب الولايات، موقع أنباء تونس، 28 جوان 2019.

[6] الكتاب الأبيض: مرجع مذكور سابقا.

[7] المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي. وكان عدد المدارس يبلغ في سنة 2013-2014 191 مدرسة ابتدائية خاصة فيها 40043 تلميذا وقد إلى 401 مدرسة سنة  2016 أي ما يمثل 8% من المؤسسات التعليمية (المحرر).

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني