آلة القمع لا تستثني أحدًا


2024-02-05    |   

آلة القمع لا تستثني أحدًا

على الرغم من تدهور الوضع الحقوقي في تونس، تمسّك العديد من المنظمات والجمعيات بإحياء الذكرى الخامسة والسبعين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. من ذلك المعرض الذي نظّمته جمعية “تقاطع”، وعرضتْ خلاله صور المساجين السياسيين والنشطاء والصحفيين والمدوّنين الذين طالتهم الملاحقة والإيقاف. وتعدّدت تهمهم من “تآمر على أمن الدولة الخارجي” إلى “ارتكاب أمر موحش ضدّ رئيس الجمهورية” وصولا إلى “نشر الأخبار الزائفة والاشاعات” على معنى المرسوم 54 سيء الذكر. فامتزج إحياء الذكرى هذه السنة، ليس فقط بمشاهد الإبادة الجماعيّة في غزّة، ولكن أيضا بحرقة داخليّة على ضياع مكاسب ديمقراطيّة مهمّة وخوف من مستقبل يفتح أبواب السجون أمام كلّ من يعارض السلطة أو ينتقدها أو يواصل ممارسة السياسة.

تجريم الفعل السياسي 

منذ 25 جويلية 2021 إلى اليوم، تتالتْ التتبعات الجزائية في حقّ المعارضين، لتشمل هذه السنة مختلف التيارات السياسيّة وبتهم ثقيلة جدّا تصل عقوبتها إلى الإعدام. انطلقت الحملة في فيفري 2023 من قضيّة “التآمر على أمن الدولة” والتي يرابط سجناؤها منذ عشرة أشهر في السجون، لكي تتحوّل القضية من “تآمر على أمن الدولة” إلى “تآمر الدولة على المعارضة”، ثمّ إيقاف عشرات القيادات في حركة النهضة بدءًا برئيسها راشد الغنوشي ثمّ رئيسها بالوكالة المنذر الونيسي بتهم مختلفة، وصولا إلى أمين عامّ حزب القطب رياض بن فضل، وإن لم تكن التهم الموجهة له ذات صلة مباشرة بعمله السياسي، مرورًا بعبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحرّ التي جمعتها مع خصومها القائمة المطوّلة للسجناء السياسين. فقد صدرتْ بحقّها بطاقة إيداع بالسجن منذ 5 أكتوبر الفارط بتهمتيْ “الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة وحمل الناس على مهاجمة بعضهم بعضا” (الفصل 72 من المجلة الجزائية) و”معالجة معطيات شخصيّة للأفراد من دون موافقتهم” (قانون حماية المعطيات الشخصية). أمّا الوقائع، فتتمثّل في توجهها إلى مكتب الضّبط في رئاسة الجمهورية لتسليم مطلب في التظلم من أوامر رئاسية ترتيبيّة، وهو شرط إجرائي قبل التقدّم بدعوى تجاوز السلطة أمام المحكمة الإداريّة، ليتمّ رفض ذلك بناء على تعليمات، مما دفعها إلى الاحتجاج وبثّ ذلك مباشرة.

كما انضاف مؤخرا للقائمة الموسّعة من قضايا “التآمر” ما سمّي بـ”قضية القصرين” والتي تعود أطوارها لمداهمة الوحدات الأمنية لمستودع، بعد “معلومات” حول “لقاءات مشبوهة”، أسفرت عن إلقاء القبض على عدد من الإطارات الجهويّة، يشتبه في أنّهم “يتآمرون” من أجل “إفشال الاستحقاقات الانتخابية” وإتيان أمر موحش ضدّ رئيس الجمهورية، بناء على محادثات خاصّة في هواتفهم الجوّالة، لتصدر بطاقات إيداع بالسجن في حقّ خمسة منهم من قطب مكافحة الإرهاب.

ورغم تحوّل القضاء العدليّ إلى أداةٍ مطيعة بين أيدي السلطة التنفيذيّة ونزع ما تبقّى من استقلاليّة لديه عبر الإعفاءات والنقل التعسّفيّة والتهديدات، لا يزال القضاء العسكري يلعب دوره في تصفية المعارضين السياسيين للسلطة. حيث أُحيل على أنظاره العديد من وجوه المعارضة آخرهم القيادية بجبهة الخلاص شيماء عيسى والتي قضت بحقّها الدائرة الجنائية بسنة سجن مع تأجيل التنفيذ، بتُهم “التحريض على العصيان” و”إتيان أمر موحش ضدّ رئيس الدولة” و”نشر الإشاعات”، على خلفية تصريح إذاعي دعتْ خلاله الجيش لعدم تأمين الانتخابات التشريعية. 


ولم يكن الإفراج عن شيماء عيسى والأزهر العكرمي، بعد أن كانا ضمن الموقوفين في قضيّة التآمر الأولى، مرادفا لاسترجاعهما حريّة العمل السياسي. فقد أعقبه قرار غريب من دائرة الاتهام، يتمثل في منعهما من الظهور في الأماكن العامّة. وقد تكرّر استعمال هذا التدبير غير القانوني، من طرف قاضي التحقيق مع العياشي الهمامي، المحامي- المتهم في القضيّة ذاتها. فأمام ما قد يسبّبه سجن المعارضين من حرج سياسيّ، وجدت السلطة آليات بديلة لمحاولة اسكاتهم. ولعلّ قرار منع التداول الإعلامي في قضيّة تآمر الدولة على المعارضة، دليل على نجاح سرديّة هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيّين في إحراج السلطة، وعلى رغبة الأخيرة في تكميم الأفواه وغلق الفضاء العامّ. قرار استتبعته ممارسات خطيرة، من قبيل منع بث حصّة البرنامج الاذاعي ميدي شو من قاضي التحقيق نفسه قبل دقائق من بثها نظرا لبرمجتها استضافة المحامي عبد العزيز الصيد، واستدعاء كلّ من المحامية دليلة مصدّق والإذاعي برهان بسيّس أمام التحقيق لذات السبب.

الهرسلة المتواصلة للسان الدفاع

في ظلّ تذبذب مواقف الهيئة الوطنية للمحامين من المنزلق الاستبدادي وتدهور الوضع الحقوقي، وحتّى من التتبعات ضدّ المحامين، واصلت السلطة استهدافها لسان الدفاع في القضايا السياسيّة. فبعد إحالة النيابة العمومية ببنزرت 14 محاميًا على التحقيق على خلفية احتجاجهم في جانفي 2022 لمعرفة مكان زميلهم ومنوّبهم نور الدين البحيري، تعدّدت القضايا ضدّ المحامين المتطوعين في القضايا السياسيّة، وخصوصا “قضيّة التآمر” حيث شملت الهرسلة جلّ أعضاء هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، الأساتذة العياشي الهمامي وعبد العزيز الصيد ودليلة مبارك وإسلام حمزة، في قضايا متفرّقة. ولعلّ القاسم المشترك في جلّ هذه القضايا، هو تعلّقها بتصريحات إعلامية أدلى بها لسان الدفاع، حول دور السلطة السياسية في هذا الملف، وحول مفارقة أو استعمال “سيّارة التعذيب” لنقل المساجين السياسيّين، أو تبرئة الدبلوماسيين الأجانب عبر النيابة العمومية من دون تبرئة من يفترض أنهم “تآمروا” معهم. أمّا القاسم المشترك الثاني، فهو استعمال المرسوم 54 في هذه الملاحقات، وتحديدا الفصل 24 منه حول “الأخبار الزائفة”، الذي تصل عقوبته إلى 10 سنوات سجنا، كأداة ترهيب وتكميم للأفواه. 

 المرسوم 54: الخطر الجاثم على حريّة التعبير

منذ إصداره، أثار المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات تخوّفات وانتقادات عدّة حيث اعتُبر تهديدًا لحريّة التعبير والصحافة وسيفا مصْلتا على رقاب كلّ المعارضين. تخوّفات مشروعة أكّدها التطبيق، حيث لم تتوانَ السلطة القائمة على اعتماده لترهيب الأصوات المناوئة لتوجّهات الحكومة أو رئيس الدولة. سواء تعلّق “الجرم” بنقل احتجاجات أو نشر مقالات أو حتى تقديم قراءة قانونية أو سياسيّة، وجدنا السلطة تسارع خصوصا بذراع وزيرة العدل في تتبع “الجناة” على معنى الفصل 24 من المرسوم المذكور. 

وقد انطلقت سنة 2024، بخبر إيداع الصحفي زياد الهاني بالسجن من أجل جنحة “الإساءة الى الغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات” على معنى الفصل 86 من مجلة الاتصالات، وذلك على خلفيّة تصريح إذاعي انتقد خلاله وزيرة التجارة، بعد أن كانت النيابة العمومية نفسها قد مدّدت الاحتفاظ به باستعمال آجال الجنايات، بما أشّر في البداية إلى نيّة تتبعه على معنى المرسوم 54. وقد قضت الدائرة الجناحيّة في حقّه بستة أشهر سجنا مع تأجيل النفاذ، وهو ما ظهر بمثابة مواصلة في سياسة الهرسلة والتهديد بهدف إسكاته. كما طالت التتبعات العديد من الصحفيين على غرار نزار بهلول مدير موقع بيزنس نيوز، على خلفية مقال نقديّ لحصيلة حكومة نجلاء بودن، والصحفييْن منية العرفاوي ومحمد بوغلاب بشكايات من وزير الشؤون الدينية حول ما كشفوه من ملفّات تخصّ وزارته. أمّا الصحفي محمد ياسين رمضاني، فقضّى شهرين بالسجن على خلفية شكاية تقدّم بها وزير الداخلية السابق توفيق شرف الدين من أجل تدوينة نشرها على حسابه الخاص بالفايسبوك، قبل أن تفرج دائرة الاتهام بالقيروان عنه.

وقد تعدّدت التتبعات من أجل تدوينات أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي. أبرزهم الفنان الكاريكاتوري توفيق عمران الذي احتفظ به لسويعات على خلفية رسوم ساخرة من رئيسيْ الحكومة والجمهورية. أمّا “المواطنون المجهولون”، فنكاد نعجز عن إحصائهم، من بينهم حسن العبيدي من تاجروين، الذي يقضي عقوبة 8 أشهر سجنًا إثر نشره لمقطع فيديو ساخر من رئيس الدولة، على صفحته الشخصية بفايسبوك، وأستاذ فيزياء في قفصة حكم عليه بالسجن لشهر بسبب تدوينات نقديّة للسلطة اعتُبرت “مسّا من هيبة الدولة”. أمّا رشاد طمبورة، فيقضي عقوبة بسنتيْن سجن بعد رسمِه “غرافيتي” يندّد بعنصريّة الرئيس قيس سعيّد، وذلك بتهمة “ارتكاب أمر موحش ضدّ رئيس الدولة”، وهي تهمة راجتْ في الآونة الأخيرة بعد استكانة “الوظيفة” القضائية لأوامر السلطة التنفيذيّة. 

تضييقات غير مسبوقة على العمل النقابي 

كان إيقاف النقابي أنيس الكعبي في نهاية جانفي 2023 من مؤشرات استكمال مسار إخضاع القضاء لتعليمات السلطة، فقد حصل الاعتقال مباشرة بعد كلمة للرئيس سعيّد من ثكنة العوينة، شيطن فيها العمل النقابي و دعا لمحاسبة المسؤولين عن إضراب نقابة الطرقات. فلم تشفع لاتحاد الشغل خيارات التهدئة والعمل تحت سقف 25 جويلية، ومضتْ السلطة ليس فقط في إقصاء أيّ دور سياسيّ له، بل وفي تحجيم دوره الاجتماعي والنقابي بشكل غير مسبوق على الأقلّ منذ الثورة. برز ذلك في التنكّر للاتفاقيات الممضاة والتضييق على فرص التفاوض، وصولا إلى حملة وزيرة الثقافة ضدّ العمل النقابي، ثمّ العقاب الجماعي للآلاف من نقابيّي التعليم الأساسي بحرمانهم من أجورهم طيلة أشهر. تضييقات تنضاف إلى سياسة التتبعات الجزائيّة المتواصلة، على خلفية تهم متعددة كـ”تعطيل حرية العمل”، “تكوين وفاق من أجل الإضرار بالمصلحة العامّة”، “هضم جانب موظف عمومي” وكذلك على أساس المرسوم 54. كان آخرها الاحتفاظ بالكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يوسف العوادني صحبة ثلاثة نقابيّين من قطاع النقل، لتفضي لاحقا إلى القضاء بعدم سماع الدعوى في حق العوادني وإبقاء البقية في حالة سراح.

الوصفة واضحة: شيطنة في الخطاب وتجريم باستعمال تشريعات خطيرة وقضاء خاضع، بهدف إقصاء الأجسام الوسيطة التي من شأنها زعزعة السرديّة الرسميّة التي تبرّر الفشل الاقتصادي والاجتماعي بالاحتكار والفساد والمؤامرة. ولعلّ انتقال الرئيس اليوم إلى تركيز خطابه المشيطن على منظمات المجتمع المدني، دليل على مواصلته الاستراتيجية ذاتها للإجهاز على آخر فضاءات الحرّية النسبيّة المتبقيّة. فالرئيس لا يحتكر فقط السلطة، بل يحتكر السياسة حُكما ومعارضة، خطابا وممارسة. 

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد رقم 28
للاطّلاع على العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني