لا يمكن أن يخلو دستور حديث من تكريس لحق الملكية. وقد كان هذا شأن دستور تونس لسنة 1959 وهو كذلك الشأن لدستور جانفي 2014، غير أن دستور ما بعد الثورة لم يغفل عن التنصيص صراحة على أن “الملكية الفكرية مضمونة”. فماذا يضيف هذا التصريح، هل هو إقرار ضمني بأن الملكية الفكرية ليست ملكية بالمعنى المطلق للعبارة أم هو اعتراف بمكانة خاصة واستدراك لتأخر رهيب في مجال حماية الملكية الفكرية؟
في مطلق الأحوال، لا يمكن أن يكون للتكريس الدستوري لحق من الحقوق إلا فائدة في إرساء أركانه التشريعية وتيسير لتحصينه على أرض الواقع. ولكن “الدسترة” ليست مرهما سحريا شافيا من العلل والأوجاع إن ظلت مستتبة في الحاضر والمستقبل نفس الأسباب التي جعلت من المنظومة القانونية للملكية الفكرية – في معظم الأحوال ولاعتبارات متنوعة – مجرد إعلانات نوايا.
لا تشكو الملكية الفكرية في تونس من فراغ تشريعي، فهي بفرعيها الرئيسين :الملكية الأدبية والفنية من جهة، والملكية الصناعية من جهة أخرى محمية بقوانين تتماشى في مجملها مع الالتزامات الدولية المنجرة عن المصادقة عن اتفاقيات ذات علاقة بهذا المجال، وبالخصوص اتفاقية جوانب الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة[1].
كما أن الجانب الهيكلي لحماية الملكية الفكرية معزز بمؤسستين عريقتين هما المؤسسة التونسية لحماية حقوق المؤلف والمعهد الوطني للمواصفات والملكية الصناعية. وقد برزت مؤخرا عدة جمعيات نشيطة تعمل على نشر ثقافة احترام الملكية الفكرية. وكان لجهودها دورٌ هامّ في إدراج حماية الملكية الفكرية صمن الفصل 41 من دستور2014. (إضافة إلى مشروع الاكاديمية الوطنية للملكية الفكرية والذي نرجو أن يرى النور قريبا).
ما تشكو منه الملكية الفكرية في تونس هو كثرة الانتهاكات التي لا تلاقي تصديا تلقائيا من الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون. فالبضائع المقلدة والحاملات الرقمية المستنسخة لا تلقى رواجها في الأركان المظلمة من السوق التونسية فقط، بل تغزو دونما حرج الفضاءات التجارية الكبرى والمحلات المحترمة أو على الأقل التي يفترض فيها ذلك.
وكما تشكو الملكية الفكرية في تونس، فإن تونس – مثل معظم الدول النامية- تشكو أيضا من الملكية الفكرية. فمن أول الحقائق التي يجب أن نواجهها هو أن الحماية القانونية للملكية الفكرية لم تكن وليدة اقتناع تشريعي مبني على مصلحة وطنية ثابتة بل وفاءً اضطراريا لالتزامات دولية يجوز دون مبالغة أن نشبهها بعقود الإذعان. هذه هي الحقيقة التاريخية لحزمة القوانين الأولى التي فرضتها علينا آنذاك سلطات الاحتلال الفرنسي وهي أيضا الحقيقة المعاصرة التي فرضتها العولمة ونظام المصادقة بالجملة على الاتفاقيات. أما ما يجمع الحقيقتين في نسق واحد، فهو أن المشرع التونسي اكتفى في الحقبتين بترجمة النصوص الفرنسية وإكسائها بالصيغة التنفيذية على التراب التونسي.
إن التعامل مع الملكية الفكرية على أساس أنها “شر لا بد منه” هو السبب الرئيسي لفشل المنظومة القانونية واستحالة حصول الفائدة العامة. وتغيير هذا الواقع لا يمكن أن يتحقق بالدسترة فقط بل لا بد من البحث عن حل وسط بين الإمعان النظري في الحماية والتغاضي الواقعي عن الانتهاكات وهو ما يتطلب تغييرا جذريا يضمن حماية متوازنة للملكية الفكرية لكي يكون بالإمكان توظيفها لتحقيق المصلحة العامة.
إن الخاصية المشتركة لكل قوانين الملكية الفكرية في تونس هي أنها تكاد تكون مجرد ترجمة حرفية للنصوص الفرنسية. صحيح أن القانون الفرنسي متطور ورائد في مجال حماية الملكية الفكرية وأنه ينهل أحكامه وقواعده من عدة مصادر ثرية أهمها الفقه وفقه القضاء. ولكن هذا لا يعني أن من الحكمة اعتماد النصوص الفرنسية بحذافيرها. فهي في نهاية المطاف وليدة واقع مختلف وتطبيقات مختلفة ولا تمثل بالضرورة إطارا ملائما يحقق في بلادنا حماية متوازنة للملكية الفكرية تحفظ حقوق المبدع وتخدم المصلحة العامة في آن واحد.
ليس المطلوب من المشرع التونسي أن “يعيد اختراع العجلات” ولكن كان عليه على الأقل أن يجعلها أكثر ملاءمة لطرقاته المحلية. فالنظرية العامة لحقوق الملكية الفكرية تقوم على فكرة التوازن الدقيق بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة، وفقط عند تحقق هذا التوازن يكون الحق الاستئثاري في الاستغلال وسيلة لحفز الابداع والابتكار. ولا شك أن المناخ الابتكاري والعلمي السائد في دولة متطورة مثل فرنسا يختلف شديد الاختلاف عن الوضع في تونس ولا يمكن بالتالي اعتماد نفس الحلول لتحقيق النتائج المرجوة.
صحيح، مرة أخرى، أن الطريقة التي صيغت بها أحكام اتفاقية جوانب الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة لم تترك للمشرعين الوطنيين بصفة عامة هامشا كبيرا للتحرك. وقد حدا هذا الأمر بأغلب الدول النامية لتكريس نصوص تشريعية شديدة التشابه مع ما هو معتمد في الدول المتقدمة علميا وتكنولوجيا. إلا أن الاتفاقية المذكورة ليست في جوهرها إلا أداة لتحقيق قدر أدنى من الحماية لحقوق الملكية الفكرية. وهو ما يمكن أيضا من تحقيق قدر من التقارب بين التشريعات الوطنية المختلفة. ويمكن لكل دولة أن تلتزم بهذا الهدف دون أن تسن قوانين مخالفة لمصلحتها الوطنية أو تتجاوز القدر اللازم لخدمة هذه المصلحة.
فالدولة التي لا تنتج الابتكار العلمي أو الإبداع الادبي والفني تصبح مجرد دولة مستهلكة تحمي مصالح الدول المنتجة. وهذا الوضع يزداد خطورة عندما تكتفي بسن قوانين حمائية للملكية الفكرية لأنها لن تستفيد من هذه الحماية شيئا وستمسي مجرد سوق مفتوحة يستغلها مالكو الحقوق اسوأ الاستغلال.
إن الاستلهام من التجارب التشريعية المقارنة ليس في حد ذاته نقيصة ولا خللا. وقد كان على المشرع التونسي أن يكون أكثر اجتهادا في صياغة قوانين الملكية الفكرية وأن يعمق البحث في تجارب دول تكافح من أجل اكتساب مكانة عالمية في ميادين الابداع والابتكار مثل البرازيل والهند وجنوب افريقيا والتي تعد قوانينها وفقه قضائها في هذا المجال أمثلة يحتذى بها لكل الدول النامية، رغم أن حرص هذه الدول على مصالحها الوطنية غالبا ما تسبب لها في خلافات مع الدول الصناعية المتقدمة.
من الضروري إذن إجراء مراجعة جذرية وشاملة لكافة القوانين المنظمة لحقوق الملكية الفكرية. وهو ما سيسمح بتفادي عديد النقائص التي شابت المنظومة الحالية والتي يمكن أن يعزى بعضها إلى مجرد أخطاء في الترجمة أو سوء فهم للنص القانوني المقتبس.
من النقائص القانونية التي يتعين أيضا درؤها مسألة الحماية القانونية للمعلومات السرية مناط المادة 39 من اتفاقية جوانب الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة. إذ تقتصر الحماية في التشريع التونسي حاليا على أسرار الصنع ولا يشمل التجريم إلا مدير المصنع او النائب أو الأجير وذلك وفق الفصل 138 من المجلة الجزائية.
ولا يخفى على أحد أن أوجه انتهاك حقوق الملكية الفكرية قد تطورت بتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال وهو ما يستدعي الحرص على تطوير وتعزيز المنظومة القانونية لمواجهة الجرائم السيبرنية من الناحية الموضوعية (التجريم والعقاب) ومن الناحية الاجرائية (الرقابة، الضبط، التتبع، وسائل الاثبات…)
أما في ما يتعلق بفض النزاعات فإنه من الضروري إيجاد حلول عملية ناجعة لإشكالية تشتت الاختصاص الحكمي في نزاعات الملكية الفكرية، فهذه النزاعات التي تصنف عادة كنزاعات تجارية يمكن أن تطرح أمام مختلف أصناف المحاكم وهو ما يخالف التوجه الذي اعتمدته عدة دول متقدمة والذي يتمثل في إرساء محاكم متخصصة في نزاعات الملكية الفكرية وذلك بالنظر لخصوصية هذه النزاعات وطبيعتها التقنية والمعقدة التي تستوجب تكوينا خاصا ومعمقا.
ولا تغني دسترة الملكية الفكرية أيضا عن الاصلاحات الهيكلية وأبرزها تدريس الملكية الفكرية في الكليات والمعاهد العليا لكي يكون لمختلف المتداخلين في هذا المجال تكوين نظري سليم ومتوازن وإدراك للأسس العلمية والعملية لحقوق الملكية الفكرية.
كما ينبغي أيضا دعم الهياكل المعنية بحماية حقوق الملكية الفكرية. وفضلا عن توفير الإمكانيات المادية وتعزيز العنصر البشري ورفع الكفاءة والتكوين المتواصل، فإنه يقتضي وضع أطر قانونية واضحة وناجعة لعمل هذه الهياكل. ومن أبرز المتطلبات العملية في هذا الصدد تمكين المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة من إمكانية إبرام الصلح مع مرتكبي الاعتداءات بطريقة تضمن وقف الاعتداء والتعويض للمتضرر مقابل انقضاء الدعوى العمومية. وليس في هذا بدعة: فمعظم الإدارات التي يسند لها المشرع صفة الضابطة العدلية في مجال معين يخول لها في الآن ذاته صلاحية إبرام الصلح مع المخالف.
الخلاصة :
دسترة حقوق الملكية الفكرية خطوة إيجابية نحو تحقيق حماية فعلية وناجعة ولكن يجب أن تستغل هذه الفرصة أيضا للتأكيد على أن لحماية الملكية الفكرية أبعادا مختلفة لا بد من تحقيق التوازن بينها وأن منح الحقوق الاستئثارية يجب أن يخدم المصلحة العامة بالتشجيع على الإبداع وبدفع التطور التقني والازدهار الصناعي ونقل التكنولوجيا.
كما أن حماية حق الملكية لا يجب أن تحجب حقوقا أهم مثل الحق في الحياة والصحة والحق في التعليم والحق في المعلومة وحرية الإبداع والتعبير.