مع بداية أزمة الكوفيد 19 وما فرضته من إجراءات احترازية لمنع انتشار الوباء ومنها تعطيل العمل بالمرافق العامة والمؤسسات، برز صراع بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء سلاحه المذكرات وموضوعه من يملك صلاحية الإدارة.
الجولة الأولى من الصراع: انفجار مبكر
بتاريخ 11-03-2020، بادرت الهيئة الوطنية للمحامين بالدعوة إلى تعليق العمل بالمحاكم توقّيا من انتشار الفيروس بها وحفاظا على الصحة العامة. لم يستجِبْ المجلس لطلبها، ولكنه في المقابل أصدر بتاريخ 13-03-2020 مذكرة تدعو المحاكم للإستجابة للأمور الآتية:
- عدم قبول المتقاضين في القضايا المدنية والإدارية التي توجب إنابة محام بالجلسات.
- تعليق إجراء التحريرات المكتبيّة على اختلافها والتوجّهات على العين، وتوجهات اللّجان المسحية إلى حين إشعار آخر،
- تأخير ملفات السراح في القضايا الجزائيّة (جنائي. جناحي) على حالتها لأجل متّسع لا يتجاوز شهرين واقتصار الحضور بالجلسات على الموقوفين ومحاميهم والمتضرر الذي يحمل استدعاء للجلسة أو محاميه،
- عدم قبول الموقوفين غير الحاملين لكمّامة طبيّة.
لم تُرضِ التدابير المتخذة عميد المحامين الذي واصل مشاوراته مع المجلس ووزيرة العدل فأثمر جهده هذا وقد تزامن مع تطور الخشية من تفشي الوباء أن أصدر المجلس بتاريخ 15-03-2020 مذكرة ثانية “اعتبر فيها الوضع الصحي العام الذي تمر به البلاد من قبيل القوة القاهرة”. وقرر تبعا لذلك تأجيل جميع جلسات القضايا المدنية والعقارية والجزائية والجلسات المكتبية بما في ذلك الجلسات الصلحية وجلسات القضاء الإداري والمالي بقرار إداري من المسؤولين على المحاكم إلى ما بعد تاريخ 4 افريل 2020 . كما قرر اقتصار النظر في المادة الجزائية (تحقيق، جناحي، جنائي) على قضايا الموقوفين ووفق الترتيبات الواردة بالمذكرة الصادرة عن المجلس بتاريخ 13 مارس 2020 في مجموعات لا تتجاوز عدد أفرادها خمسة أشخاصفضلا عن ذلك، قرر المجلس الحرص على أن لا تنشر قضايا استعجالية أو ذات صبغة معاشية إلا ما كان منها شديد التأكد ولا يحتمل التأخير ويتم النظر فيها مكتبيا ودعوة المسؤولين على المحاكم إلى ترشيد تواجد الإطار القضائي والإداري بالعدد الأدنى الذي يسمح بضمان سير المرفق القضائي.
حينها، وبذات التاريخ، دخلت وزيرة العدل ثريا الجريبي على الخط بأن أصدرت مذكرة تعلن التعليق الكامل للعمل بالمحاكم فبرز بوضوح لأول مرة صراع الصلاحيات بين المرجعين والذي حسم في جولته الأولى تلك لفائدة المجلس الذي كانت مذكرته أكثر تفصيلاً ودقّة وتضمن شرط استمرارية مرفق القضاء وهو أمر تحمس له القضاة والإطار الإداري للمحاكم. وقد التزم المسؤولون على المحاكم والقضاة بمقرراته لاعتقادهم أنه من يجب أن يتخذ المقررات التي تتعلق بالمحاكم. وكان من ثمار ذلك الحسم أن كان المجلس من تصدّى منفردا لتحديد الإجراءات التي ستتخذ في المحاكم بعد إعلان الحجر الصحي العام بأن أصدر بتاريخ 21-03-2020 مذكرة تضمنت قراره بدعوة المحاكم إلى الإكتفاء بتأمين حصص الاستمرار بالنسبة للنيابة العمومية وقضاء التحقيق في كل المحاكم وتأمين العمل القضائي المجلسي بواسطة دائرة استمرار تتكون من رئيس دائرة وأربعة أعضاء يتداول قضاة كل محكمة على عضويتها وفق جدول يعده المسؤولون عن كل محكمة واقتصار النظر في المادة الجزائية على قضايا الموقوفين في المادة الجناحية فقط ووفق الترتيبات الواردة بالمذكرتين الصادرتين عن المجلس من قبل، مع مواصلة النظر في مطالب السراح (تحقيق . جناحي. جنائي) مكتبيا. كما قرر النظر في القضايا الاستعجالية شديدة التأكد أو ذات الصبغة المعاشية والتي لا تحتمل التأخير وبعد التأشير عليها من القاضي المختص ويتم النظر فيها مكتبيا، وتأمين الحد الأدنى والمتأكد من الخدمات القضائية أمام المحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات.
الجولة الثانية من الصراع
تزامنت هذه الجولة مع بداية الحديث الرسمي عن الرفع التدريجي للحجر الصحي وكان منطلقها إصدار الوزيرة بتاريخ 15-05-2020 مذكرة تدعو الدوائر الجنائية الاستئنافية لعقد جلسات المتهمين الموقوفين. رد المجلس على هذه الخطوة التي عدها تدخلا في عمله ببلاغ إعلامي أكد فيه مواصلة العمل بتنظيم العمل وفق مذكرته السابقة. ث عاد وأصدر لاحقا وبتاريخ 28-04-2020 مذكرته التي خصصها لبيان الإختصاصات القضائية التي ستستعيد النشاط بداية في إطار العودة التدريجية لعمل المحاكم.
وجدت مذكرته مرة ثالثة قبولا من القضاة لكنها قوبلت هذه المرة بمعارضة قوية من عمادة المحامين التي ساءها عدم استجابته لطلبها في ضمان عودة سريعة وكاملة لعمل المحاكم، فدعت وزيرة العدل ورئاسة الحكومة للتدخل من أجل تصحيح الوضع. ويبدو أن هذا الموقف كان حاسما في صياغة تصورات ثالث جولات صراع الصلاحيات.
الجولة الثالثة: رئاسة الحكومة تدعم وزيرة العدل
أصدر بتاريخ 02-05-2020 رئيس الحكومة الياس الفخفاخ الأمر الحكومي عدد 208 والذي يتعلق ب “ضبط إجراءات الحجر الصحي الموجه” والذي أسند من خلاله لوزير العدل، في إطار ما سماه “تنظيم مرفق العدالة” صلاحية “ضبط المراحل والشروط ومجالات الإستئناف التدريجي للعمل بالمحاكم”.[1] في اليوم الموالي، استندت وزيرة العدل لذاك الأمر لتصدر مذكرة تفصيلية تضبط جدولا زمنيا لاستئناف تدريجي للعمل بالمحاكم العدلية يفرض معاودة النشاط القضائي.
في مرحلة أولى بداية من 04-05-2020 إلى 24-05-2020 يستأنف فيها النظر في:
– القضايا المنشورة لدى محكمة التعقيب،
– القضايا المحجوزة للتصريح بالحكم،
– النيابة العمومية والتحقيق،
– قضايا الموقوفين في جميع أطوار التقاضي،
– قضايا العنف ضد المرأة والطفولة المهددة،
– القضايا المدنية والتجارية والشخصية والعقارية المنشورة في طور المرافعة التي تكون فيها إنابة المحامي وجوبية،
– قضايا النفقة في طورها الابتدائي،
– القضايا الاستعجالية المتأكدة،
– قضايا التقاديم،
– إقامة حجج الوفايات.
في مرحلة ثانية من 25-05-2020 إلى 04-06-2020، يستأنف فيها النظر في:
– كافّة القضايا الجزائية،
– القضايا المدنية والتجارية والشخصية والعقارية المنشورة بجميع أطوارها والتي تكون فيها إنابة المحامي وجوبية،
– القضايا الشغلية وقضايا الضمان الاجتماعي في طورها الحكمي،
– الأعمال الولائية التالية: مطالب إصلاح حالة مدنية، أذون على العرائض وأوامر بالدفع.
ويقتصر الدخول إلى المحاكم على المحامين وكتبتهم ومساعدي القضاء مع ضرورة الاستظهار بالبطاقة المهنية أو المعنيين بالأمر شخصيا حسب الحالة.
يفتح تاليا الأمر الحكومي ومذكرة وزيرة العدل ثالث جولات الصراع بين المجلس والسلطة التنفيذية وهي تختلف عن الجولتين السابقتين في خاصيتين أساسيتين:
أولهما: أنها ترد في ظلّ انقسام قطاعي بين المحامين والقضاة موضوعه الصلاحية الترتيبية المتنازع عليها ونخشى هنا أن ينتقل هذا الصراع إلى داخل المجلس فيقسم أعضاءه باعتبار انتماءاتهم القطاعية بما يؤدي إلى إضعافه.
ثانيهما: أن القضاء العدلي كان وحده ساحة لها لما ورد في الأمر الحكومي من تنازل لفائدة الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عن تنظيم العمل بمحكمته ومن إقرار بكون تلك الصلاحية باتت بقوة القانون من اختصاص الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات فيما تعلق بتلك المحكمة.
ويؤشر هنا تمسك رئاسة الحكومة بدور لها في إدارة القضاء العدلي دون سواه على حرصها على أن تكون لها منافذ سلطة عليه تسهل تدخلها فيه وفي عمله. وكان قد سبق وأن استشرف رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر في حواره مع المفكرة هذا الأمر. فذكر أن الوعي بخطورة هذا التوجه كان ما فرض على المجلس خوض المعركة التي سماها في حينها معركة افتكاك السلطة الترتيبية، تلك المعركة التي بات من الواضح أن من شروط كسبها تطور الوعي داخل الأسرة القضائية بأهمية الرهانات موضوعها.
[1] ينص الفصل الرابع من الامر الحكومي عدد 208 بتاريخ 02-05-2020 ” يتولى وزير العدل، في إطار تنظيم مرفق العدالة، ضبط المراحل والشروط ومجالات الاستئناف التدريجي للعمل بالمحاكم. ويتولى الرئيس الأول للمحكمة الإدارية، في إطار تنظيم مرفق القضاء الإداري، ضبط المراحل والشروط ومجالات الاستئناف التدريجي للعمل بالمحكمة الإدارية. كما يتولى الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات، في إطار تنظيم مرفق القضاء المالي ،ضبط المراحل والشروط ومجالات الاستئناف التدريجي للعمل بمحكمة المحاسبات”.