بعد 9 سنوات على صمودها وجلجلة مريرة مليئة بالعقبات والصعوبات، وصلت رحلة ليلى خوري، والدة ضحية العنف الأسري رولا يعقوب إلى صدور حكم عن محكمة التمييز في بيروت، برئاسة القاضية رندة كفوري وعضوية المستشارين الياس عيد وفادي العريضي، يدين زوج رولا، كرم البازي، بتهمة القتل عن غير قصد سنداً وفقاً للمادة 550 من قانون العقوبات وسجنه لمدّة خمس سنوات،(الأشغال الشاقّة)، والتعويض لوالدة رولا بمبلغ مالي وقدره 300 مليون ل. ل، وتجريده من حقوقه المدنيّة. حكم يصفه محامي خوري، والدة الضحية، مصطفى عكاري ب “أكثر من جيد”، نظراً لظروف القضية وما مرت به، وكذلك عقوبة تهمة التسبب بالقتل (التي أدين بها الزوج) التي تصل في حدها الأقصى إلى 7 سنوات، فيما تعتبر منظمة “كفى” التي ساندت القضية ودعمتها بأنه “عدالة متأخرة، ولكنها أفضل من اللاعدالة”.
مثابرة خوري أمام مسار العدالة الشاق
ليلى خوري، أم أعطت نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه عائلات النساء ضحايا العنف الأسري، سعت طيلة كل هذه السنوات لتحقيق العدالة لابنتها الوحيدة التي خسرتها نتيجة العنف الزوجي، وجعلت من المثابرة والمقاومة وعدم الاستسلام ورفض اللجوء للمصالحات خارج المحاكم، نموذجاً للوصول إلى العدالة مهما كانت العقبات شائكة، تمسكاً بحق ابنتها وحق بنات رولا اللواتي تيتمن بقتلها وحقها كأم، وإيماناً منها أن القضاء لا بد أن ينتصر للضحايا في النهاية وبالتالي للعدالة.
9 سنوات من عمرها كرّستها ليلى للوصول إلى حكم عادل ينصف ابنتها، شاركتها بهذه الرحلة ابنة شقيقتها سلوى التي ساندت خالتها وأمسكت بيدها في جلجلتها بين محاكم طرابلس وبيروت. أياماً طويلة قضتها هاتان السيدتان طيلة هذه السنوات في الحافلات من حلبا إلى محكمة طرابلس ومنها 5 سنوات إلى محكمة التمييز في بيروت.
عشرات المرّات أرجئت الجلسات، وبالتالي أرجئت معها العدالة. وتخلل هذه الرحلة القاسية قراران قضائيان يبرئان الزوج المتهم بالتسبب بالقتل، مما كشف الستار عن عيوب عدّة في مقاربة بعض القضاة لهذه القضية، خاصّة من ناحية تقدير شهادات طفلات رولا الشاهدات على حادثة موتها، كما عيوب في أداء بعض الأطباء الشرعيين الّذين كشفوا على جثّة المغدورة وكتبوا تقاريراً تبين لاحقاً أنّها “غير كفوءة” وفقاً لرأي نقابتي الأطباء في بيروت وطرابلس. هي رحلة طويلة ومعقدّة مليئة بالعقبات والعراقيل، وعلى الرغم من تعقيدات هذا المشوار أبت ليلى أن تستسلم أو أن تترك حق ابنتها، وعبّرت عن انتهاء رحلتها في عبارة كررتها في اتصال مع “المفكرة القانونيّة” قائلة: “ارتاحي يا رولا”.
لا تخفي ليلى أنّها تمنت حكماً أقسى من هذا الحكم، ف 5 سنوات سجن لزوج رولا تعتبرهم مدة بسيطة أمام حرمانها من ابنتها الوحيدة، وحرمان رولا حياتها وحرمان بناتها منها. وأرادت في هذه المناسبة أن تقول لحفيداتها، بنات رولا الخمس، اللواتي لم ترهنّ منذ أشهر “لا تزعلوا مني يا تاتا هيدا حق أمكن، وأنا جبت حقكن قبل ما جيب حقي”. وأمّا لرولا فتتوجه بعبارة “يا بنتي هيدا لربنا قدّرني عليه”.
هذه المرأة بالنسبة للمحامي مصطفى عكّاري يجب أن تكون نموذجاً لغيرها من الأمهات اللواتي تعرّضت بناتهن لمصير مشابه، إذ يلفت إلى أنّ ليلى وضعت أمام عينيها هدفاً منذ أن فُجعت بمقتل ابنتها وهو الوصول إلى العدالة. يضيف، “لم تكل ولم تمل، تابعت الملف إلى آخره”. يلفت عكّاري إلى أنّ الكثير من العائلات اللواتي يخسرن بناتهن نتيجة العنف الأسري، قد يتراجعون ويستبدلون الإستمرار بالمحاكمة بالمصالحة مع المتهمين حين يجدون أنّ مسار المحاكم للوصول إلى العدالة طويل الأمد وصعب”. ويشدد على أهميّة الاستمرار والسعي للعدالة مهما طالت أمد المحاكمات، لأنّه من الواضح في النهاية أنّ القضاء ينصف الضحية”.
“كانت امرأة لا مثيل لها”
توفيت رولا في 7 تمّوز 2013، وهي أمٌّ لخمس بنات، أكبرهن كانت في 11 من عمرها يومها، وأصغرهن كانت بالكاد أنهت 7 أشهر. “كانت امرأة لا مثيل لها”، هكذآ توصفها سلوى حداد، ابنة خالتها في حديث مع “المفكرة”. تضيف، “كانت في 19 سنة من عمرها حين تركت الجامعة لتتزوج كرم الذي تعرّفت عليه حين بدأت العمل في مغسل السجّاد الذي يملكه”. “رولا كانت تدرس الحقوق، وتنوي أن تصبح محامية لكنّها لم تكمل سوى عامين من دراستها الجامعيّة، وتزوجت وكانت ست بيت وتساعد زوجها في عمله عبر تلقي اتصالات الزبائن من البيت”.
قضيّة مقتل رولا هزت الرأي العام اللبناني في زمن لم يكن بعد قد صدر قانون تجريم العنف الأسري واقترن اسم رولا منذ حينها بقضايا النساء والعنف الأسري (293\2014)، وشكل رافعة مع قضايا نساء أخريات قتلهن العنف الأسري في معركة إقرار قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري في 2014 (القانون رقم 293/2014).
شهدت رحلة الوصول إلى حكم يدين البازي عقبات عديدة وضعت ليلى في أكثر من مرّة في موضع المتفرج على شبه منظومة تتعمد عرقلة سكينة روح رولا في قبرها. فمنذ البداية بدت تعقيدات هذا الملف، وتجلت بالقرار الظني الذي أصدره قاضي التحقيق في الشمال آلاء الخطيب بتاريخ 21 كانون الثاني 2014 وقضى بمنع المحاكمة عن زوج رولا لجهة ما أسند إليه بخصوص التسبب في موت زوجته لعدم كفاية الأدلة، وبالتالي إطلاق سراحه بعد 6 أشهر ونصف من توقيفه. واستند القرار حينها إلى اعتبار الوفاة ناتجة عن “انفجار شريان أم الدم في الدماغ وأنّها وفاة طبيعيّة”، ليغض النظر عن آثار العنف على جسد الضحية كما شهادات الشهود الّذين أكدوا تعرّض رولا للضرب المبرح قبل الوفاة. ولاقى هذا القرار انتقاداً لجهة تغييب أدلة إدانة الزوج من ناحية، كما أثيرت حوله الشبهات لاستناده إلى تقارير أطباء شرعيين مشكوك فيها بتقارير نقابتي أطباء بيروت وطرابلس، من ناحية ثانية.
قرار قاضي التحقيق نقضته الهيئة الاتهامية في الشمال برئاسة القاضي رضا رعد وعضوية المستشارتين نازلك الخطيب ورانيا الأسمر، برغم تأخرها عامين لإصدار قرارها. وفسخت الهيئة بتاريخ 12 أيار 2016 القرار الظني ووجِهت إلى زوج رولا تهمة القتل عن غير قصد. وبسلوك القضية محكمة الجنايات برئاسة القاضي داني شبلي وعضوية المستشارين خالد عكاري وزياد الدواليبي، وصلت في النهاية في 30 تشرين الأوّل 2018 إلى إعلان براءة الزوج مرة جديدة في حكم شابه الكثير من المغالطات من جديد، خاصّة من ناحية تجاهل آثار التعذيب على جسد الضحية وشهادات الجيران الذين أكدوا سماع صراخ الضحية قبل وفاتها. وأثار الحكم حينها الشبهات بسبب الاكتفاء بشهادات ابنتا رولا (10 و11 عاماً يوم الحادثة) وإهمال احتمال تعرضهما للضغط النفسي من والدهما وعائلته. لكن رئيس محكمة الجنايات انذاك القاضي شبلي خالف الحكم لوجود وقائع ثابتة مؤيدة بالأدلة في الملف ضدّ الزوج واعتبره متسبباً بقتل زوجته وفقاً للمادة 550 عقوبات.
في قضية بهذا التعقيد، كان من الممكن لوالدة رولا أن تفقد الأمل لكنّ بتاريخ 1 تشرين الثاني 2018 طلب المدعي العام التمييزي الأسبق سمير حمّود من النيابة العامة الاستئنافية في الشمال تمييز الحكم. وحينها انبعث أمل جديد لوالدة رولا التي قامت بتمييز الحكم أيضاً، وبدأت رحلة جديدة في محكمة التمييز في بيروت استمرت 5 خمس سنوات، بدءاً من موافقة المحكمة على نقض الحكم في 28 شباط 2019 بعد تثبتها من تشويهه لوقائع القضية، وانتهت إلى إدانة كرم البازي بالحكم الصادر أول أمس.
المحامي عكّاري: “حكم أكثر من جيد”
وكيل والدة رولا المحامي مصطفى عكّاري يصف، في حديث مع المفكرة، الحكم ب “أكثر من جيد”، مشدداً على أنّ “التهمة الموجهة لزوج رولا هي “القتل عن غير قصد”، وهذه التهمة عقوبتها القصوى 7 سنوات سجن”. ويلفت إلى “أهمية الحكم، خاصّة وأنّه كان قد سبقه صدور قراراً ظنياً عن قاضي التحقيق في الشمال يمنع المحاكمة عن البازي، هذا غير حكم البراءة الذي صدر لاحقاً عن أكثرية محكمة الجنايات في طرابلس، وهو الحكم الذي خالفه رئيسها القاضي داني شبلي”. عكّاري يشرح أنّ هذه القضيّة مرّت بمحطات قضائيّة كثيرة أدّت إلى إطالة أمد المحاكمة، مشيراً إلى أنّ القرار الظني تم استئنافه أمام الهيئة الاتهاميّة التي فسخت قرار قاضي التحقيق، ثم تم تمييز الحكم أمام محكمة التمييز التي صادقت على قرار الاتهاميّة، ثم سلك الملف إلى محكمة الجنايات وهناك أجرت المحكمة كامل التحقيقات اللازمة من ناحية الاستماع للشهود والأطباء الشرعيين والنظر بالأدلة وبرأي نقابتي الأطباء في بيروت والشمال”. يُضيف عكاري “صدر حكم البراءة عن محكمة الجنايات، فوصل الملف إلى محكمة التمييز في بيروت بطلب من النائب العام التمييزي ومن والدة رولا”، وهنا يلفت عكّاري إلى عرقلة الملف نظراً للظروف التي مرّت بها البلاد منذ 2018، وأبرزها مؤخراً قطع الطرقات والتظاهرات والتعبئة العامّة مع جائحة كورونا، وإضراب المحامين وغيرها..”. ويشار إلى أن الحكم الصادر عن محكمة التمييز سوف يؤدّي إلى إعادة سجن البازي بعد أن كان تم إطلاق سراحه مرّتين، الأولى لدى صدور القرار الظنّي بمنع محاكمته في العام 2014 بعد ستة أشهر ونصف على توقيفه، والثانية بعد صدور حكم الجنايات بإعلان براءته في العام 2018 بعد ثلاثة أسابيع على إلقاء القبض عليه. كما أن تجريده من حقوق المدنيّة يؤدّي وفقاً للمادة 49 من قانون العقوبات الى منعه من جميع الوظائف والخدمات العامّة والمعاش من الدولة والطوائف والنقابات وحرمانه من الانتخاب والترّشح ومن سائر الحقوق المدنية والسياسية والطائفية والنقابية.