قضية رولا يعقوب شكلت أحد المحركات الأساسية لإقرار قانون الحماية من العنف الأسري. فضلا عن ذلك، فهي تكتسب مع انتهاء كل مرحلة من مراحلها بعدا جديدا في الجدلية القائمة حول عمل القاضي ودوره في مقاربة القضايا الاجتماعية، وتفاعله مع الإعلام والرأي العام. ولا نبالغ إذا قلنا أن القضية باتت رغم مأساويتها وإلى حد ما بفعلها، تصلح كنموذج لتحليل هذه الجوانب المختلفة.

في هذا المقال، نكتفي بالتعليق على الحكم الذي صدر عن محكمة جنايات طرابلس بأكثرية أعضائها وآل إلى تبرئة الزوج من مقتل زوجته. يأتي هذا الحكم كمحطة جديدة أعقبت عددا من المحطات السابقة: الأولى تمثلت في حفظ الدعوى من قبل قاضي التحقيق، الثانية تمثلت في إعادة إحيائها بعدما فسخت الهيئة الاتهامية قرار الحفظ متهمة الزوج بالتسبب بالقتل. وها نحن اليوم نشهد محطة جديدة لكنها لن تكون الأخيرة، طالما أن النائب العام التمييزي سمير حمود طلب من النيابة العامة الاستئنافية في الشمال تقديم طلب نقض ضد الحكم. فلننتظر… (المحرر) 

“لا يستقيم منطقيا أن تسكتا (الطفلتان ابنتا المرحومة رولا) عن جريمة ارتكبت بحقّها لو كانت هذه الجريمة واقعة فعلا ويصعب الشك في صحة شهادة “طفلتين لا زالتا في سن الطفولة البريئة والفطرية”.

هذه الجملة/ القرينة وردت حرفيا في متن الحكم النهائي الذي أصدرته محكمة جنايات طرابلس بأكثرية أعضائها المكوّنة من مستشاريْ المحكمة (خالد عكاري وزياد دواليبي) وخلافا لرأي رئيسها (داني شبلي). وقد صدر هذا الحكم في إحدى أشهر قضايا العنف الأسري (قضية رولا يعقوب). عملا بهذه القرينة، استعادت الأكثرية الوقائع الواردة في شهادتي الطفلتين (11 و12 سنة بتاريخ وفاة رولا) (وهي بالمناسبة مطابقة مع أقوال المتهم والدهما) في مستهل حكمها على أنها وقائع مسلّم بها لا تحتمل أي نقاش ومؤداها أن موت رولا حصل لعارض صحي، ليس لزوجها أي صلة به. وعليه، شكلت هذه الشهادات حجر الأساس الذي استخدمته الأكثرية لبناء حكمها والأهم لتقويض سائر الروايات المناقضة، على نحو يتعارض في غالب الأحيان مع الحس والمنطق السليمين. وهذا ما نقرأه بوضوح في افتتاحية الحكم حيث قلبت الأكثرية التصور العام لظروف وفاتها رأسا على عقب، في ما يشكل  contrastجديرا بروايات أغاثا كريسي. فبموجب هذه الافتتاحية، ظهرت الزوجة المتوفاة معنّفة لأطفالها تضربهم بالعصا، فيما بدا الزوج مناهضا للعنف يغضب حين تمارسه زوجته ضد أولادهما، فيسارع إلى ردعها عنه وصولا إلى كسر الأدوات التي استخدمتها في الضرب (العصا). ونورد هنا هذه الافتتاحية حرفيا بالنظر إلى أهميتها، وقد جاء فيها:

“بينما كان المتهم خارج المنزل الزوجي، وكانت زوجته المرحومة رولا يعقوب تهتم بأطفالهما، حصل تلاسن بين الطفلتين الكبريين غلاديس وغلوريا على خلفية التكاسل في مساعدة والدتهما في أعمال المنزل، مما أثار غضبها وحملها على توبيخهما كما وضربهما بواسطة عصا خشبية عائدة للممسحة الموجودة في المنزل.

في هذه الأثناء، صودف عودة المتهم وسماع الصراخ الدائر بين المرحومة رولا والطفلتين وعلم بأن الأولى أقدمت على ضربهما بعصا الممسحة، فثار غضبه وأمسك بالعصا من طرفيها وكسرها بواسطة ركبتيه وحصل تلاسن وشجار بينه وبين زوجته وعلا صراخهما حتى سمعه أحد المارة على الطريق … دون حصول أي ضرب أو عنف جسدي بينهما وفقا لما يتبين من أقوال الطفلتين غلاديس وغلوريا في سائر مراحل التحقيق. بعد الفراغ من الشجار المذكور، دخل المتهم إلى غرفة الجلوس ودخلت المرحومة رولا إلى غرفة النوم، وبعد حوالي عشر دقائق أو ربع ساعة، وبينما كانت الزوجة تحمل طفلتها الرضيعة، صرحت بأنها تشعر بدوار ووضعت الطفلة على الأريكة ثم سقطت على الأرض”.

بهذه العبارات، روت أكثرية المحكمة الظروف التي سبقت وفاة رولا يعقوب، على نحو ينسف ليس فقط رواية أم الضحية وجيرانها والمنظمات الحقوقية وما لحقها من تصورات عامة، إنما بالدرجة الأولى الآثار البليغة للكدمات والرضوض التي انطبعت على جثمان الضحية كشاهد على ما عانت منه في حياتها الزوجية. فوفق الأكثرية، الزوج لم يكسر العصا على جسد زوجته كما قد يخيّل للبعض، إنما كسرها كرهاً للعنف الذي تمارسه (هي) ضد أولادهما. والصراخ المنبعث من البيت لم ينتج عن عنف الرجل ضد زوجته، إنما عن عنف هذه الأخيرة ضد أولادها وعن ردود أفعال زوجها إزاء هذا العنف. والعلاقة بين الزوجين ليست علاقة بين رجل معنف وامرأة ضحية عنف، إنما هي بين شخصين يتفاعلان ويتشاجران على قدم المساواة. وهذا ما نستشفه من عبارة “شجار”، التي وردت مرتين في حيثيات لا يتجاوز حجمها 150 كلمة.

على هذا الأساس، وانطلاقا من القرينة السحرية التي أوردناها نقلا عن الحكم في مستهل هذا المقال (عدم جواز التشكيك بشهادات الطفلتين)، تحولت هذه الشهادات إلى ما يشبه البوصلة التي ستقود الأكثرية، في معرض تقييمها أو تفسيرها لسائر الشهادات والأدلة المتوفرة في الملف. وهذا ما سنحاول تبيانه أدناه، قبل أن نعمد إلى تقييم منهجية الحكم هذه والتي أدت عمليا إلى إصدار حكم واهٍ في قضية بالغة الأهمية، شكلت منعطفا في قضايا العنف ضد النساء.

وقبل المضي في ذلك، تجدر الإشارة إلى أن حكم الأكثرية علّى قيمة الشهادات بعدما شذبها، وحجب منها ما قد يستخدم ضد الزوج. ومن أهم الأمور المعبرة التي حذفها الحكم، شهادات الطفلتين بأن والدهما “أقدم عدة مرات على ضرب والدتهما، وأنه عندما يكون بحالة عصبية، يقوم بتكسير بعض الأغراض في المنزل” (أيضا وردت في المخالفة). كما أهملت حتى إفادة الطفلة غلاديس أمام الضابطة العدلية حيث جاء بوضوح أنها رأت والدها يضرب أمها قبل ثلاثة أيام وأن والدتها كانت تقول له “لا تضربني أنا لست عبدة عندك”.

شهادات الطفلتين، دليل حاسم وبوصلة في تقييم سائر الأدلة

في هذا الصدد، سنبين كيف استخدمت الأكثرية شهادات الطفلتين بعد تشذيبها وفق ما بيناه أعلاه، لتقويض أدلة الإدانة مهما كانت قوية وتعويم أدلة البراءة مهما كانت وهنة.

تقويض شهادات الجيران والأقارب

إلى جانب شهادات الطفلتين، وردت في متن الحكم شهادتان بارزتان، فضلا عن شهادات عديدة أخرى بنت عليها الهيئة الاتهامية قرارها الاتهامي.

الشهادة الأولى، أدلت بها إحدى الجارات في البلدة وهي السيدة فيفي لوسيا الخوري. وقد نقلها قضاة الأكثرية بشكل مغاير لما وردت عليه في مخالفة رئيس المحكمة أو في القرار الاتهامي. ففيما نقلت الأكثرية عن الشاهدة أن الطفلة غلاديس أخبرتها أن والدها أقدم على ضرب والدتها وبأنه هددها بالضرب في حال باحت بهذا الأمر، أظهرت الوثيقتان الأخريان تفصيلا هاما في هذه الشهادة قوامه أن الوالد هدد ابنته ليس بالضرب، إنما بالقتل. ورغم خطورة هذا التهديد (في حال صحته)، فإن الأكثرية قررت إهماله على أساس أنه “لا يمكنها أن ترقى إلى تكوين اقتناع المحكمة بها بعدما نفت الطفلة غلاديس أمام هذه المحكمة وبشكل واضح أن تكون أخبرت الشاهدة الخوري أي شيء من هذا القبيل”. بالمقابل، ذهب رئيس المحكمة المخالف (داني شبلي) في اتجاه معاكس تماما حيث أنه اعتبر هذه الشهادة مركزية لإعلان مسؤولية الزوج عن وفاة رولا. واللافت أن الحكم تجاهل واقعة أساسية أثبتها عدد من الشهود المذكورين في القرار الاتهامي وفحواها أن المتهم عاد إلى المنزل واختلى ببناته ثلاث دقائق، الأمر الذي يعزز فرضية تلقينهم تعليمات بخصوص ما يجدر قوله أو الامتناع عن قوله (حنان بشور، ميخائيل يعقوب).

الأمر نفسه نسجله بشأن الشهادة التي أدلى بها وليد الحسن، والتي جاء فيها أنه سمع صراخا وضربا داخل البيت دام لفترة طويلة إلى حين نقل الزوجة إلى المستشفى، وأنه حين نادى والدة الزوجة مستفسرا، خرج إليه الزوج ليقول: “ما في شي، ما في شي”. هنا أيضا، استندت الأكثرية على شهادات الطفلتين لتجريد هذه الشهادة من أي قيمة ثبوتية على مسؤولية الزوج، وذلك بخلاف رئيس المحكمة الذي اعتبرها أحد الأدلة الرئيسية لإدانة هذا الأخير. وقد توصلت الأكثرية إلى هذه النتيجة بعدما اعتبرت أن “الأشخاص الوحيدين الذين كانوا حاضرين وقت حصول الشجار … هم بنات الضحية” وأن غلاديس وغلوريا أكدتا وفق ما جاء في الحكم “عدم إقدام المتهم على ضرب والدتهما يوم الحادثة وأن الشجار قد اقتصر حينها على التلاسن والصراخ والتوبيخ”. تبعا لذلك، استنتجت الأكثرية أن إفادة الشاهد “لا يمكن أن تكون ذات فعالية في إثبات ما حصل داخل منزل آل البازي وقت الحادثة كون الشاهد لم يكن في موقع يمكنه من مشاهدة المجريات أو الاطلاع عليها.”

واللافت أن الحكم لم يشر إلى أي من الشهود الآخرين الذين كانت استندت إليهم الهيئة الاتهامية والذين صبت شهاداتهم في الاتجاه نفسه. ومن أبرزهم، الجار ميخائيل يعقوب الذي أدلى أنه رأى رولا “ممددة على الأرض وآثار العنف بادية على يدها اليمنى وشاهد عصا خشبية مكسورة وآثار تحطم زجاج داخل غرفة الجلوس وأنه سأل الابنة وعمرها 3 سنوات عما حصل فقالت أن والدها ضرب والدتها”. وأيضا الجارة ناديا الشاطر التي أكدت أنها سمعت صراخا وتحديدا أن رولا كانت تصرخ: “حاش تضربني”.

تجريد الكدمات والرضوض على جسد الضحية من معناها

ما يزيد حكم الأكثرية قابلية للنقد هو أنه أهمل دليلا فاقعا شديد البلاغة، قوامه الرضوض والكدمات الظاهرة على جثمان رولا يوم وفاتها (وتحديدا على اليد وتحت الإبط وعلى الكتف والزند حسبما ورد في مخالفة رئيس المحكمة)، مكتفيا بتدوين “استهجان المحكمة لسلوك أي زوج يقدم على هذا النوع من الإعتداء بحق زوجه”. وهنا أيضا، تمكنت الأكثرية من ذلك بالاستناد إلى أقوال الطفلتين غلاديس وغلوريا بشكل أساسي، وبخاصة لجهة تأكيدهما أن والدهما لم يعتدِ على أمهما في ذلك النهار. وعليه، بدل أن تشكل هذه الرضوض (الثابتة واقعيا وعلميا بما لا يرقى إليه الشك والموثقة في ملف المحاكمة) مدعاة للتشكيك بشهادات الشقيقتين، تحولت هذه الشهادات إلى أداة لتجاوز الأدلة والوقائع المؤكدة.

ولإدراك خطورة هذا التوجه، يكفي النظر إلى مخالفة الرئيس الذي ضمّنها دليلا إضافيا لزمت الأكثرية الصمت بشأنه. يتمثل هذا الدليل في الشهادة التي أدلت بها د. كلود سمعان أمام المحكمة والتي أكدت “أن الرضوض التي كانت موجودة على جسم الضحية “يمكن أن تؤدي إلى حصول نزيف في شريان أم الدم، مع التأكيد بأن الحالة النفسية الصعبة تؤدي إلى النتيجة نفسها”. ومن النافل القول أن للرضوض والكدمات على جسد الضحية رمزية هائلة، وهي بمثابة الشاهد الأكبر على مأساة الضحية. وفيما خلصت المخالفة إلى أن الضحية “كانت تعيش حالة تعنيف معنوي وجسدي متكرر” مما تسبب بوفاتها، نفت أكثرية المحكمة هنا أيضا أن تكون الضحية كذلك على أساس شهادة الشقيقتين (بعد تشذيبها) اللتين أكدتا “ندرة الخلافات الزوجية بين والديهما”.

يضاف إلى ذلك أن الهيئة الاتهامية وثقت أنه عند إجراء الكشف على المنزل، تبين “وجود عصا مكسورة نصفين (نصف في غرفة الجلوس والنصف في المطبخ) وخصلة شعر في المطبخ. إلا أن الحكم بقي خاليا من أي إشارة إلى هذه الخصلة. هذا فضلا عن أن الزوج، وإن أنكر ضرب زوجته يوم الحادثة، فإنه اعترف بضربها بالعصا نفسها التي انوجدت مكسورة في المنزل، قبل ثلاثة أيام.

تعويم وتشويه التقارير الطبية

ولعل أخطر ما ورد في حكم الأكثرية، هو أن اقتناعها وضميرها “يطمئنان إلى صحة الأقوال الواردة على لسان الطفلتين غلاديس وغلوريا، سيما وأن هذه الأقوال تنسجم تماما مع مضمون تقارير الأطباء الشرعيين ونتائج الفحوصات المجراة على الجثة بعد استخراجها من القبر”.

عند قراءة هذه الحيثية، لا يسعنا إلا أن نبقى مشدوهين إزاء الاستخدام المطّرد والمبالغ به لهذه الشهادات: فهذه الشهادات لم تستخدم لنقض الأدلة المشار إليها أعلاه وتجريدها من معناها كما بينا أعلاه وحسب، إنما أيضا لإعادة المشروعية لتقارير الأطباء الشرعيين التي أثبتت لجان نقابتي الأطباء في طرابلس وبيروت أنها لم ترتقِ إلى المستوى العلمي المطلوب حيث أن هؤلاء جزموا بحصول الوفاة لسبب خلقي من دون تشريح الجثة. لا بل أن هذه الشهادات استخدمت لتشويه التقارير الأخرى التي تم تنظيمها بعد إعادة استخراج الجثة. فالتقارير الأخيرة لم تنفِ في أي لحظة امكانية أن تكون الوفاة حصلت تبعا للعنف المستخدم ضد الزوجة بل بعضها (لجنة نقابة بيروت) رجّح ذلك، وإن لم يتمكن من تأكيد ذلك بفعل صعوبة الحصول على إثبات علمي جازم بفعل انقضاء شهرين ونصف بين الوفاة وتشريح الجثة.

وعليه، تصبح شهادات الطفلتين وفق منطق الأكثرية أكثر صلابة وقوة لأنها منسجمة مع تقارير أطباء شرعيين نظمت خلافا للأصول العلمية. فإذا حصل ذلك، تعود الأكثرية لتقفز فوق الأخطاء التي شابت هذه التقارير، تمهيدا لجعلها دليلا إضافيا على براءة الزوج، بحجة أنها جاءت منسجمة مع شهادات الطفلتين.

ملاحظات على حكم الأكثرية: إرادة التبرئة أولا

كخلاصة، أمكن إبداء الملاحظات الآتية:

حكمٌ انبنى على حجر أساس واهٍ

أن القرينة (حجر الأساس) التي بني عليها حكم الأكثرية وفق ما بيناه أعلاه (ومفادها أنه لا يستقيم منطقيا أن تسكت طفلتان عن جريمة ارتكبت بحق أمهما حتى ولو كان المتهم فيها هو والدهما ومعيلهما) هي في عمقها قرينة واهية، تتعارض مع الحس والمنطق السليمين. ويلحظ هنا أنه تم التذرع بهذه القرينة من دون إيضاح ظروف حياة الطفلتين أو ظروف إدلائهما بشهادتهما (ملاحظة: أعطيت الشهادة بحضور العمة في فترة التحقيقات الأولية والابتدائية وتحت نظر الأب أمام المحكمة)، بل حتى في تجاهل تام للشهادة التي أدلت بها الجارة الخوري لجهة أن الوالد هدد إحدى الطفلتين بالقتل في حال أخبرت عن ظروف وفاة أمها.

فكأنما كل هذه المعطيات بما يستتبعها من ارتباط عضوي للطفلتين بوالدهما وعائلته أو خوف من البوح بالحقيقة، تبقى عاجزة عن الانتقاص من هذه القرينة. وما يزيد من قابلية هذه القرينة للانتقاد، هو أن المحكمة لم تجد أي حاجة للاستماع إلى أخصائي نفسي للتحقق من الوضعية النفسية للطفلتين من جراء ما عاشتاه في إثر وفاة والدتهما وفي أعقابها، ومدى تأثير ذلك على إرادتهما وصدقيتهما. من هذه الزاوية، يعكس تذرع الأكثرية بهذه القرينة خطأ جسيما من قبلها في فهم الواقع وتحليله. وما ضاعف من جسامة الخطأ، هو أنه تم استخدام هذه القرينة كبوصلة لتقويض أدلة الإدانة وتعويم أدلة البراءة وفق ما بيناه أعلاه.

وقد بلغ تطبيق القرينة المشار إليها أعلاه أوجّه مع تعويم تقارير الأطباء الشرعيين المنظمة بداهة ووفق تقارير علمية مبرزة في الملف خلافا للأصول العلمية (بالأخص لجهة عدم تشريح الجثة أو إجراء صور إشعاعية) بحجة أنها تنسجم في مآلها مع شهادات الطفلتين. وقد بينت الأكثرية من خلال ذلك وكأنها تعتبر أن من شأن الانسجام الحاصل بين دليلين واهيين (وهما القرينة بصحة شهادات الأطفال وتقارير الأطباء الشرعيين) أن يصنع حقيقة.

وللدلالة على خطورة هذا التوجه، يجدر التذكير بأن الهيئة الاتهامية كانت اعتبرت صراحة “عدم جواز الركون إلى إفادة الطفلتين لأن مثل هذا الإدلاء يتعارض تماما مع جميع الأدلة والقرائن” الواردة في الملف.

إرادة التبرئة غلبت إرادة التحري عن الحقيقة

بمعزل عن نية أكثرية المحكمة (وهو أمر لا نعتقد أن بوسعنا النفاذ إليها)، فإن المنهجية المتبعة منها خلال المحاكمة أو في معرض صياغة الحكم غلّبت إرادة الوصول إلى نتيجة معينة (التبرئة) على إرادة التحري عن الحقيقة. ولعل الدليل الأبرز على ذلك هو تمسّكها غير المبرر بالقرينة المذكورة أعلاه على نحو مكّنها من استخراج الحقيقة التي تريدها من دون أن تتكبد عناء التحقق من إرادة أو صدقية الطفلتين أو عناء معالجة الأدلة التي تناقضها أو التحري عن أدلة إضافية تدعمها. يضاف إلى ذلك، امتناع المحكمة عن إجراء مواجهة بين الشاهدين الملكين اللذين استندت إليهما المخالفة (خوري والحسن) والطفلتين أو أيضا امتناعها عن التحري عن طبيعة العلاقة الزوجية أو الاستماع إلى أم الضحية أو سائر الشهود الذين وردت أسماؤهم في المراحل السابقة للمحاكمة، وبخاصة من قبل الهيئة الاتهامية.

وما يعزز هذه الملاحظة، هو أن الأكثرية أصرت على حكمها المذكور على الرغم من أن مخالفة رئيس المحكمة تضمنت أسئلة بالغة الأهمية. فكأنما الأكثرية ارتأت القفز فوق هذه الأسئلة من دون إيلائها ما تستحق من تدقيق ونقاش أو مزيد من التحرّي، وصولا إلى إعلان البراءة.

تحميل الأطفال مسؤولية براءة والدهم: عنف قضائي ضد أطفال بحاجة إلى دعم وحماية؟

فضلا عما تقدم، يستدعي استخدام شهادات الطفلتين بشكل أساسي للوصول إلى التبرئة ملاحظات أكثر عمقا. فقد بدت الأكثرية من خلال ذلك، من حيث تدري أو لا تدري، وكأنها تعمد إلى تبرئة ذمتها ونقل مسؤولية الحكم منها إلى الطفلتين بعدما عظّمت من شأن شهادتهما إلى حدّ اعتبارها عمليا ملزمة وغير قابلة للتشكيك. ولكن، هل تفطنت الأكثرية للمخاطرة التي تكمن في التسليم بهذه الشهادات دون بذل أي جهد للتحري عن مدى حرية الطفلتين أو صدقيتهما؟ ماذا لو كانت هذه الشهادات كاذبة، وقد أُعطِيت فعلا تحت الإكراه أو الضغط المعنوي كما أفادت الشاهدة الخوري؟ ويما لا يقل أهمية، ماذا لو عادت هاتان الفتاتان في يوم من الأيام لتحاسبا المنظومة القضائية برمتها، لأنها أخذت بشهادتهما رغم كثرة الأسئلة البليغة بشأن عدم صحتها؟ من حق هاتين الفتاتين أن تعتبرا الآن أو بعد حين، أن تحميلهما مسؤولية حكم تبرئة والدهما (في حال لم يكن ذلك صحيحا) من دون بذل أي جهد للتحري عن احتمال ممارسة ضغوط عليهما، هو بمثابة عنف هائل بحقهما وبأقل تقدير تخلّ عن مسؤولية القضاء في حماية هؤلاء الشهود الصغار. نترك طبعا للأيام والسنين القادمة أن تخبرنا عن ذلك.