في 25 نوفمبر 2018، أصدرت محكمة النقض حُكماً اعتبرت فيه أن العفو الجزئي عن استكمال باقي العقوبة المقضي بها والصادر من رئيس الجمهورية لا يمنع من استكمال إجراءات الطعن أمامها. وهو الأمر الذي يخالف الأحكام السابقة التي دأبت فيها المحكمة على رفض نظر الطعون المقدمة من المتهمين الذين صدرت قرارات بالعفو في حقهم، وذلك على اعتبار أن الأمر قد خرج من يد القضاء. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدساتير المصرية المتعاقبة أعطت رئيس الجمهورية سلطة العفو عن المحكوم عليهم نهائيًا أو تخفيض العقوبات المحكوم بها[1]. كما دأب رؤساء الجمهورية على استخدام قرارات العفو الرئاسي للإفراج عن عدد من المحكوم عليهم في قضايا جنائية، وأيضًا كأداة للعفو عن المعارضين والمُتهمين السياسيين حسب الظرف السياسي الراهن أكثر من مرة[2]. وهو الأمر الذي ازدادت وتيرته منذ وصول رئيس الجمهورية الحالي للحكم في 2014، حيث أصدر حوالي 20 قرارًا رئاسيًا بالعفو عن آلاف المعتقلين[3]. كما تباينت الشريحة المستهدفة من قرارات العفو حسب الغرض المرجو منها والهدف السياسي وراءها. فتارة تشمل عددا من المحسوبين على التيار الإسلامي، وتارة أخرى تتضمن عددا من الشباب المحسوبين على التيار المدني. الأمر الذي وصل إلى تشكيل لجنة دائمة للعفو الرئاسي في مؤتمرات الشباب التي تعقدها رئاسة الجمهورية بشكل منتظم[4]، وهو ما يوضح الاعتماد على قرارات العفو الرئاسي كسياسة ممنهجة من قبل النظام الحالي في التعامل مع الواقع السياسي المصري.
ولما كان الأثر القانوني المُترتب على قرارات العفو الرئاسية هو إحدى الإشكاليات المهمة والتي تناولتها محكمة النقض منذ نشأتها، وخاصة فيما يتعلق بجواز نظر الطعون بالطعن أمام محكمة النقض من عدمه بعد صدور قرار بالعفو عن المتهمين. لذا كان من المهم تسليط الضوء على التغيير الذي طرأ على ذلك المبدأ الذي رسخته المحكمة على مدار السنوات الماضية.
نظرة للوراء: محكمة النقض تخضع لتعطيل السلطة التنفيذية للحق في الطعن
تبنت محكمة النقض مبدأ تكرر في عدد كبير من أحكامها على مدار السنين المتعاقبة، حتى أصبح أحد المبادئ الراسخة التي كان من الصعب تغييرها؛ وهو "أن صدور قرار العفو يخرج الأمر من يد القضاء مما تكون معه محكمة النقض غير مستطيعة المضي في نظر الدعوى ويتعين عليها التقرير بعدم جواز نظر الطعن"[5]. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قرار المحكمة يمسّ العفو الجزئي الذي يترتب عليه فقط إسقاط العقوبة المحكوم بها (كلها أو بعضها) أو تخفيفها[6] ولا يتعلق بالعفو الشامل الذي يؤدي إلى محو الإدانة من الأساس[7].
وبالتالي، فإن النتيجة الأبرز لهذا المنهج الذي اتبعته المحكمة لعقود طويلة، هو أنه على الرغم من العفو عن العقوبة المحكوم بها أو تخفيفها، يظل المُعفى عنه مُداناً جنائيًا بما يحمله ذلك من آثار قانونية؛ مما يعني عدم إمكانية إثبات براءته. ويأتي على رأس تلك الآثار ما سوف تتضمنه صحيفة الحالة الجنائية للمُعفى عنه من وجود سابقة جنائية. وهو الأمر الذي قد يقف حائلًا بينه وبين التعيين في أي وظيفة حكومية، أو عضوية أحد المجالس البلدية أو المحلية[8]، أو القيد في النقابات المهنية التي تشترط حسن السير والسلوك كشرط أساسي في أعضائها[9]. فوفقًا للسوابق القضائية للمحكمة، "أن أمر العفو عن العقوبة المحكوم بها وإن شملت العقوبات التبعية والآثار الجنائية المترتبة عليها، فإنه على أي حال لا يمكن أن يمس الفعل في ذاته ولا يمحو الصفة الجنائية التي تظل عالقة به"[10]. مما يعني أنه حتى ولو تضمن قرار العفو العقوبات التكميلية كمراقبة الشرطة أو مصادرة الأموال، والآثار الجنائية المترتبة على حكم الإدانة كالحرمان من الوظيفة العامة، تظلّ الصفة الجنائية عالقة لا تُمحى في صحيفة الحالة الجنائية وفي دفاتر المُجرمين المُسجلين في أقسام الشرطة. ففي تلك الحالة لن يتبقى أمام المُعفى عنه إلا اتخاذ إجراءات رد الاعتبار، والتي تعتبر الطريق الوحيد لإزالة تلك الأثار المترتبة على الإدانة، والتي تبدأ بعد ست سنوات من تاريخ حكم الإدانة، مما قد يكلف الكثير من الضرر المادي والمعنوي[11].
تكريس حق المتهمين في الطعن رغم العفو: نظرة جديدة للعفو الرئاسي؟
في نوفمبر 2018، وفي حكم هو الأول من نوعه قضت محكمة النقض بالاستمرار في نظر الطعن المقدم من أحد المُتهمين بحيازة مخدر الحشيش، على الرغم من أن المتهم كان قد أُفرج عنه بعد شموله بقرار العفو الصادر من رئيس الجمهورية في 23 يوليو 2018 بمناسبة أعياد ثورة يوليو[12]. وكما أوضحنا فإن العفو لا يترتب عليه محو الإدانة. لذلك، اعتبرت المحكمة أن "الطاعن كان يرمي من وراء هذا الطعن أن تقضي له المحكمة بنقض الحكم وإعادة محاكمته سعيًا لإبراء ساحته من الاتهام المُسند إليه، وأن مصلحته من وراء هذا الطعن كانت ما تزال قائمة، سيما وأن قرار العفو الصادر من رئيس الجمهورية هو عفو جزئي عن باقي العقوبة المقضي بها وليس عفوًا شاملًا"[13]. حقيقة، إن ذلك التحول في طريقة نظر المحكمة إلى طبيعة الآثار المترتبة على قرارات العفو، وضرورة إتاحة الفرصة للمعفو عنهم لإثبات براءتهم أمام قاضيهم الطبيعي، هو أمر إيجابي للغاية ويستحق الإشادة.
فالأصل في استصدار القرارات الرئاسية بالعفو عن العقوبة، أن يكون مثل ذلك القرار هو الوسيلة الأخيرة للمحكوم عليه للتظلم من القضية أو التماس إعفاؤه من العقوبة. مما يعني أن قرار العفو يجب أن يصدر بعد أن يكون الحكم القاضي بالعقوبة صار باتًا نهائيًا غير قابل للطعن بأي طريقة من الطرق العادية. فاستعمال تلك السلطة غير العادية (العفو الخاص) من قبل رأس السلطة التنفيذية يجب أن يتم في أضيق الحدود، وبما لا يمسّ عمل المؤسسات القضائية أو يتعارض مع استقلالها. ولكن الواقع المصري المعاصر أخذ سلطة العفو إلى منحى آخر، وهو العفو عن العقوبة قبل استنفاذ كافة درجات التقاضي، فكان على محكمة النقض التعاطي مع ذلك الواقع على مدار عقود عدة. فاتخذت المحكمة الطريق الأسهل لسنوات طويلة وهو عدم الاشتباك مع تلك القضايا التي قد صدر فيها قرارات بالعفو، إلى أن عدلت عن موقفها مؤخرًا وسارت على الطريق المرجو منها وهو ضمان تحقيق العدالة حتى ولو تم العفو عن العقوبة. من ناحية أخرى، يعتبر توقيت هذا الحكم أيضًا من النقاط التي تُحسب لصالح المحكمة، وتوضح رؤيتها للمشهد بأكمله، حيث شهدت السنوات الأخيرة تزايد حالات القبض العشوائي ومن ثم الحبس الاحتياطي لسنوات، ثم الإفراج بموجب قرارات عفو رئاسي. فليس ذنب المحكوم عليه الذي من الجائز أن يكون تم القبض عليه تعسفيًا أو عشوائيًا في تظاهرة أو أي فاعلية، وتم العفو عنه بموجب قرار رئاسي، أن يدفع الثمن بقية حياته بوصم جنائي واجتماعي قد يعوقه عن استكمال حياته بشكل طبيعي.
خاتمة
إن سلطة رئيس الجمهورية في إصدار قرارات العفو عن العقوبة وتخفيفها مكفولة في معظم دساتير العالم[14]. وبالتالي فإن الأزمة الحقيقية فيما يتعلق بقرارات العفو الرئاسية في مصر، ليست سلطة رئيس الجمهورية في العفو في حد ذاتها، بينما في طريقة استعمال هذه السلطة في غير الغرض التي شُرعت من أجله كما سبق وأن أوضحنا. لذلك تعتبر تلك الخطوة التي أقدمت عليها محكمة النقض بتعديل مبدئها هي خير دليل على رؤية المحكمة الجيدة للواقع القضائي والسياسي المصري، وحرصها على تصحيح المسار من أجل الحفاظ على مستقبل الألاف من الشباب الذين قد يواجهوا شبح القبض والاحتجاز لسنوات، ومن بعده عفو رئاسي، يلحقه خزي مجتمعي وصحيفة جنائية أقرب لشهادة وفاة. وهو الأمر الذي يجب أن تلتفت إليه رأس السلطة في مصر والتوقف عن استخدام أداة قرارات العفو الرئاسي باعتبارها ورقة تفاوض بغرض للتأثير على المشهد السياسي وعقد تفاهمات مع الخصوم والمعارضين[15].
لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
[1]المادة 43 من دستور 1923 والذي يعتبر أول دستور مصري دائم في التاريخ المصري الحديث: "الملك ينشئ ويمنح الرتب المدنية والعسكرية والنياشين وألقاب الشرف الأخرى. وله حق سك العملة تنفيذا للقانون. كما أن له حق العفو وتخفيض العقوبة"، كما يراجع نص المادة (155) من الدستور الحالي.
[2] أبرزها المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 الصادر بعد ثورة يوليو بالعفو الشامل عن الجرائم التي اُرتكبت لسبب أو غرض سياسي في المدة من 26 أغسطس 1936 حتى 23 يوليو 1952.
[5] راجع أحكام محكمة النقض في الطعون رقم 1 لسنة 8 قضائية الصادر في 29 نوفمبر 1937 – الطعن رقم 2037 لسنة 48 قضائية الصادر في 9 أبريل 1979 – الطعن رقم 33027 لسنة 2 قضائية (غرفة مشورة) الصادر في 19 مايو 2013.
[6] نص المادة 74 من قانون العقوبات، "العفو عن العقوبة المحكوم بها يقتضي إسقاطها كلها أو بعضها أو إبدالها بعقوبة أخف منها مقررة قانونا"
[8] راجع الفقرة الثانية من نص المادة (75) من قانون العقوبات: " والعفو عن العقوبة أو إبدالها إن كانت من العقوبات المقررة للجنايات لا يشمل الحرمان من الحقوق والمزايا المنصوص عنها في الفقرات الأولى والثانية والخامسة والسادسة من المادة الخامسة والعشرين من هذا القانون".
[9] راجع حكم محكمة النقض في الطعن رقم 3 لسنة 1956 الصادر من الدائرة الجنائية للنقابات في جلسة 4 فبراير 1958.
[10] راجع حكم محكمة النقض في الطعن رقم 3 لسنة 1956 في جلسة 4 فبراير 1958.
[11] راجع المواد أرقام (537) و (552) من قانون الإجراءات الجنائية والتي تنظم شروط وإجراءات رد الاعتبار والأثار المترتبة عليه.
[12] راجع حكم محكمة النقض في الطعن رقم 23745 لسنة 87 قضائية والصادر في 25 نوفمبر 2018.
[14] تكفل معظم الدساتير في العالم سلطة رئيس الجمهورية في إصدار قرارات العفو عن العقوبة وتخفيفها، حيث تعتبر تلك السلطة الممنوحة لرأس السلطة التنفيذية هي أحد بقايا النظام الموناركي (الملكي)، والتي استمرت فيما بعد في عصور الجمهوريات وعلى الرغم من إقرار مبدأ السيادة للشعب. كما تظهر ملامحها أيضًا بشكل واضح في تاريخ الدولة الإسلامية على مدى قرون، وذلك من خلال كيفية التعامل مع ولي الأمر (الحاكم) على أنه القاضي الأكبر الذي يوقع العقوبة ويعفي عنه راجع/ THE HISTORY OF THE PRESIDENTIAL PARDON, Clemency Project, 30 December 2018.
[15] يجدر الإشارة إلى أن المشرع الدستوري قد ألتفت إلى إشكالية التوسع في استعمال سلطة العفو، كما حاول تقليص سلطة رئيس الجمهورية في إصدار قرارات العفو بشكل عام، للحد من استخدامها في غير محلها، ولضمان عدم انفراد رأس السلطة التنفيذية بمثل تلك السلطة المطلقة، نظرًا للأثر البالغ لمثل تلك القرارات. فأشترط بعض الإجراءات كأخذ رأي مجلس الوزراء فيما يتعلق بقرارات العفو الجزئي، وموافقة البرلمان في حالة العفو الشامل.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.