“
صادق مجلس نواب الشعب يوم 3 أفريل 2019 على مشروع القانون عدد 47/2018 المتعلق بإتمام القانون المتعلق بإحداث وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية التي تهتم بإحياء التراث الأثري والتاريخي واستغلاله[1]. وتطرح مسألة استغلال التراث الأثري والتاريخي في تونس عديد المشاكل التي حالت دون تطويرها واستغلالها بشكل يضمن المداخيل الكافية لصيانتها وتسخيرها للعموم إلى أن أصبحت المعالم الثقافية والأثرية أماكن مهشمة، عرضة أيادي العابثين والعصابات الباحثة عمّا تحتويه من كنوز وتحف منسية[2]. فمن بين قرابة ثلاثين ألف موقع أثري وتاريخي، أربعة منها فقط تحقق اكتفاء ماليا ذاتيا يمكّن من صيانتها واستغلالها (وهي الجم، باردو، القيروان ومتحف سوسة)[3] وهو ما طرح بشدة مسألة فتح الإمكانية للخواص لاستغلالها.
ولابد من الإشارة بأن قطاع التراث يعيش في تونس أزمة كبيرة ترجع أساسا إلى الإشكاليات العميقة التي تعيشها الهياكل العمومية المعنية بالمحافظة عليه وتثمينه، من ذلك ضعف تدخل كلّ من المعهد الوطني للتراث وهو الهيكل المعني بالمحافظة على التراث من جهة، والوكالة القومية لإحياء التراث والتنمية الثقافية من جهة أخرى، وهي هيكل مهمته تثمين هذا التراث، بالإضافة إلى قلة الموارد الموضوعة على ذمّة هذين الهيكلين لضمان التدخل العاجل والفعال عند المساس بالمواقع الأثرية والتاريخية[4].
فبالرغم من الترفيع في ميزانية وزارة الشؤون الثقافية صلب قانون المالية لسنة 2019 والذي بلغ 36 مليون دينار مقارنة بسنة 2018، والتي سيتم من خلالها تمويل برامج صيانة المواقع والمعالم الأثرية والمتاحف وتهيئة المرافق الثقافية العمومية خاصة في الجهات[5] لا تزال وزارة الشؤون الثقافة من أقل الوزارات تمويلا إذ لا تتجاوز ميزانيتها نسبة 0.73% من الميزانية الجملية للدولة. كما استحوذت نفقات التصرّف على الجزء الأكبر من هذه الميزانية إذ لم يخصص لنفقات التنمية سوى 60 مليون دينار من جملة 300 مليون دينار[6].
ولابد من الإشارة إلى أن المواقع الأثرية والتاريخية تعد ملكا عاما للدولة حسب ما تنص عليه مجلة التراث[7] أي لا يمكن التفويت فيها ولا يمكن استغلالها من قبل الخواص إلا من خلال اللزمة[8] أو الإشغال الوقتي. فخيار إسناد لزمات لإشغال هذه المواقع بهدف إلى إدخالها في الدورة الاقتصادية ويعتبر حلا وسطا بين الحفاظ على الخيار السابق الذي يقضي باستغلال هذه المواقع فقط من قبل الدولة، من جهة، وهو خيار لم يثبت نجاعته، ومن جهة أخرى، التفويت الكلي في هذه المواقع وهو ما تم اللجوء إليه مثلا باليونان نتيجة للأزمة الاقتصادية والذي أثار غضب المواطنين[9]. وإن كان خيار فتح الباب أمام المستثمرين لاستغلال هذه المواقع بهدف تثمينها وضمان حمايتها قد أثبت نجاعته في العديد من دول العالم، إلا أنه مجال دقيق جدا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم ضبط الشروط المتعلقة به ضبطا دقيقا خاصة مع الضعف الهيكلي الذي تعاني منه الهياكل المعنية بالمتابعة.
وعلى هذا الأساس، لم يتضمن القانون الذي تمت المصادقة عليه سوى فصل وحيد تعلّق بتمكين الوكالة القومية لإحياء التراث والتنمية الثقافية من إسناد لزمات وفق التشريع المعمول به أي القانون قانون عدد 23 لسنة 2008 مؤرخ في أول أفريل 2008 المتعلق بنظام اللزمات الذي يهدف إلى تمكين الخواص من القيام بإسداء خدمات لتحقيق المصلحة العامة بملك عمومي وذلك تحت الرقابة المباشرة للشخص العمومي مانح اللزمة ولأي شخص عمومي آخر يمارس مهام الرقابة.
وعلى هذا الأساس، بإمكان الوكالة القومية لإحياء التراث والتنمية الثقافة من خلال هذا القانون إجراء لزمات بالمواقع الأثرية تقوم هي بالسهر على الإجراءات المتعلقة بها وهو ما يمكنها من الحصول على المرابيح المتأتية منها لتمويل مهامها. ولم يتعرض هذا القانون إلى الشروط التي يتم على أساسها إعداد كراسات الشروط التي يقع على أساسها إسناد اللزمات المتعلقة بهذا الصنف الخاص من الأملاك العمومية. فالمواقع الأثرية تعدّ ملكا عموميا يحتاج بطبيعته إلى حماية أكبر من تلك التي يجب أن يحظى بها الملك العمومي من غير المواقع الأثرية. فكما هو معلوم، يمكن أن تمتد اللزمة إلى مدّة قد تصل إلى 99 سنة وهو ما يدعو أيضا للقيام باستثمارات يمكن أن تمتد في الزمن وهو ما ينعكس على التكلفة وحجم أعمال التهيئة اللازمة لإنجاز المشروع.
إلا أنه من الناحية العملية ليس من السهل على المستثمرين الخواص القيام بتهيئة الموقع الأثري أو التاريخي، إذ أن كل الإجراء المتعلقة بالتهيئة والتحسين وفق النشاط الذي سيتم تعاطيها لا بد أن يمر عبر موافقة الوزير المكلف بالتراث. إذ ينص الفصل 34 من مجلة حماية التراث على أن صاحب اللزمة يتحمل “مسؤولية استغلال وتنظيم العمل بالمرفق العمومي موضوع العقد ويكون مسؤولا، طبقا للتشريع الجاري به العمل، عن البنايات والمنشآت والتجهيزات الثابتة التي يستغلها في إطار اللزمة. ويجب عليه أن يؤمن مسؤوليته المدنية طيلة مدة اللزمة ضد الأخطار الناجمة عن الأشغال التي ينجزها وعن استغلال البنايات والمنشآت والتجهيزات المذكورة بموجب عقد تأمين يتضمن شرطا يقتضي عدم فسخه أو إدخال تغييرات هامة عليه دون الموافقة المسبقة لمانح اللزمة”[10]. فطلب موافقة الوزير المكلف بالثقافة بكونه المشرف على وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية (الفصل الأول من القانون المحدث لها) ثم رأي الوكالة، مع إمكانية تدخل عديد الأطراف الأخرى كاللجنة الوطنية للتراث التي تساعد الوزير في اتخاذ هذا الصنف من القرارات [11]، من شأنه الحد من نجاعة هذا القانون نظرا لطول الإجراءات التي يمكن أن تبلغها الدراسة والموافقة على الملفات مما يمكن أن يثني المستثمرين على المضي قدما في هذا الصنف من المشاريع.
فهذا القانون الذي يمكن وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية من إسناد اللزمات والحصول على مداخيلها لا يمنحها أي صلاحيات في تقدير الحالة التي يجب على الموقع الأثري أن يكون عليه لإمكانية إسناد لزمة تتعلق به. إذ يعد هذا الأمر من بين اختصاصات المعهد الوطني للتراث الذي يختص أساسا بدراسة التراث الثقافي والأثري وضمان المحافظة عليه كما يمكن له أن يساهم أيضا في إحياء التراث[12] وهو ما يمكن أن ينتج عنه تداخل في الصلاحيات مع الوكالة خاصة مع ضعف التنسيق الحاصل بينهما خاصة وأن المعهد لا يملك، إلى حد سنة 2014 سوى 6 فروع فقط في الولايات الأربع والعشرين (24) للجمهورية[13]. وحتى وإن كان إسناد اللزمات بالمواقع الثقافية والأثرية يتم بموافقة مجلس إدارة الوكالة الذي يحتوي ممثلين اثنين عن المعهد الوطني للتراث، فإن ذلك لا يكفي للإحاطة بالوضع التي تكون فيه تلك المواقع بشكل دقيق.
ومن التساؤلات التي يمكن طرحها بخصوص تطبيق هذا القانون هو هل يمكن أن يتم إسناد اللزمات بأي صنف من أصناف المواقع الأثرية محمية كانت أم غير محمية؟ فتناول هذا القانون فقط للنقطة المتعلقة بإمكانية إسناد اللزمات والحصول على مداخيلها يعكس هاجسا اقتصاديا بحتا ولا يمتد إلى بيان الشروط اللازمة لإسناد هذه اللزمات ومدى اختلافها عن اللزمات التي يتم إسنادها بأصناف أخرى من الملك العام للدولة. ومن هنا تبرز أهمية كراسات الشروط التي يتم على أساسها إسناد اللزمات بكونها كراسات شروط يجب أن تحترم مقتضيات إشغال هذا الصنف الخاص من المواقع وتفرض احترام الطابع الأثري والتاريخي المميز لها. فلا يجب فتح الباب أمام أي استثمار مهما كان الهدف منه بغرض تحقيق موارد مالية فقط بل يجب أن يتضمن كراس الشروط الخاص بإسناد اللزمة بموقع أثري طبيعة النشاط وعلاقته بالموقع الأثري تكريسا لأحكام الفصل 42 من الدستور الذي يلزم الدولة بالحفاظ على الموروث الثقافي وضمان حق الأجيال القادمة فيه. وهو ما يستدعي تدخل هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة من خلال تقديم رأيها حسب ما نص عليه الفصل 129 من الدستور.
فلا يجب أن يغلب الهاجس الاقتصادي على الدور الحمائي الذي تقوم به الدولة للمحافظة على خصوصيات هذه المواقع. وفي هذا الإطار، ينص الفصل 5 من قانون اللزمات[14] الذي أحال إليه قانون 88 الذي تم تعديله بموجب هذا القانون إلى أنه “يمكن، طبقا للتشريع الجاري به العمل، أن ينتفع صاحب اللزمة بتشجيعات وامتيازات وأن يحول عائدات استثماراته المنجزة في إطار اللزمة”. ومن هنا يجدر التساؤل إلى أي مدى يمكن أن تمتد هذه الامتيازات والتشجيعات في صورة إسناد لزمة بالمواقع الأثرية والتاريخية. كما أن عدم تغطية مصالح المعهد الوطني للتراث لكامل تراب الجمهورية من شأنه عدم القدرة على معاينة التجاوزات التي يمكن أن يقوم بها بعض المستثمرين خلال تنفيذهم لعقد لزمة في إطار هذا القانون. ومن هنا، تنبع الحاجة إلى تشريك الجماعات المحلية في عملية إسناد ومتابعة هذه اللزمات خاصة بكونها سلطا محلية منتخبة تعمل أساسا على تطوير التنمية المحلية بالتراب الخاضع لها.
وتجدر الإشارة إلى أن قلة موارد التراث الأثري تتأتى أساسا من عدم قابلية أغلبها للدخول في منظومة السياحة الثقافية، بينما نجد أن أغلب المواقع الأثرية والتاريخية التي يتم بها تنظيم مهرجانات ثقافية قد تم الحفاظ عليها وتثمينها. ومن هنا يطرح التساؤل بشأن مصير هذه المهرجانات مع تطبيق هذا القانون. فهل يكون للمستثمرين أولوية لإشغال المواقع الأثرية والتاريخية على حساب المهرجانات الثقافية التي اعتاد الناس عليها بجهاتهم وأدّت إلى إثراء الوعي الثقافي بها؟
وفي الختام، فإن هذا القانون يعد في جزء منه بادرة هامة لتمكين التراث التاريخي من الدخول في الدورة الاقتصادية وبالتالي تثمينه لكنه أيضا يفتح الباب أمام عديد التجاوزات من حيث الرقابة على هذه المواقع خاصة ولكن أيضا لغلبة البعد الاقتصادي على البعد الثقافي للمشاريع التي يتم على أساسها إسناد اللزمات. فإشغال المواقع الأثرية يجب أن يخضع أولا وقبل كل شيء إلى ضرورة تنمية الوعي المجتمعي بخصوص التراث الأثري والتاريخي حتى يتسنى تثمينه والمحافظة عليه.
مواضيع ذات صلة:
العمران في تونس: أسئلة منسية في زمن البناء الفوضوي
الحق في استرداد الممتلكات الثقافية المنهوبة: تطوّر حقوقي في مقاربة مخلفات الاستعمار
فخار نساء سجنان ضمن “قائمة الثراث الثقافي غير المادي” لليونسكو: احتفاء بالاعتراف وسؤال عن استحقاقات
[1] الفصل الثاني من القانون عدد 11 لسنة 1988 المؤرخ في 25 فيفري 1988 المتعلق بإحداث وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية.
[5] وذلك حسب تصريح وزير الشؤون الثقافية أمام مجلس نواب الشعب بالجلسة العامة المخصصة لمناقشة مشروع ميزانية وزارة الشؤون الثقافية لسنة 2019 بتاريخ 15 نوفمبر 2018.
[6] يمكن الرجوع إلى ميزانية وزارة الشؤون الثقافية صلب قانون المالية لسنة 2019.
[7] الفصل الأول من القانون عدد 35 لسنة 1994 مؤرخ في 24 فيفري 1994 المتعلق بإصدار مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية.
[8] يقصد باللزمة “العقد الذي يفوض بمقتضاه شخص عمومي يسمى “مانح اللزمة”، لمدة محددة، إلى شخص عمومي أو خاص يسمى “صاحب اللزمة”، التصرف في مرفق عمومي أو استعمال و استغلال أملاك أو معدات عمومية وذلك بمقابل يستخلصه لفائدته من المستعملين حسب الشروط التي يضبطها العقد. يمكن أن يكلف صاحب اللزمة أيضا بإنجاز أو تغيير أو توسيع بـنايات ومنــشآت وتجهيزات أو اقتناء ممتلكات لازمة لإنجاز موضوع العقد. يمكن أن يرخص العقد لصاحب اللزمة في إشغال أجزاء من الملك الراجع لمانح اللزمة بهدف إنجاز أو تغيير أو توسيع البنايات والمنـشآت والتجهيزات المشار إليها”.
[10] مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية المؤرخة في 24 فيفري 1994 يتعلق بإصدار مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية.
[11] وهي لجنة نص عليها الفصل 6 من مجلة حماية التراث وتم إرساؤها بمقتضى الأمر عدد 1475 لسنة 1994 المؤرخ في 4 جويلية 1994 المتعلق بتركيبة اللجنة الوطنية للتراث وتنظيم سير أعمالها.
[12] الأمر عدد 1609 لسنة 1993 المؤرخ في 26 جويلية 1993 المتعلق بضبط تنظيم المعهد الوطني للتراث وطرق تسييره.
[13] Wafa Ben Hassine et Nizar Ben Ayad, déjà cité.
[14] قانون عدد 23 لسنة 2008 المؤرخ في أول افريل 2008 المتعلق بنظام اللزمات.
“