لم تفلح قرارات الحجر صحي وحظر الجولان وتدخّل الجيش الوطني، في التخفيف من ذعر أهالي معتمدية الحامة من محافظة قابس بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية بعدما تحولت منطقتهم إلى بؤرة لوباء فيروس كورونا. حيث بلغ عدد الإصابات حتى تاريخ 31 أوت 2020، 837 حالة من أصل 3803 على المستوى الوطني، أي بنسبة 22% من إجمالي الحالات المسجلة في كل البلاد. استمرار تفشي العدوى الأفقية وعجز السلط المحلية والجهوية عن التصدّي للوباء، حوّل خوف المواطنين إلى غضب بعدما أقدم عدد منهم إلى غلق الطريقة الرئيسية بمعتمدية الحامة بعد إشعال العجلات المطاطية صبيحة الثاني من سبتمبر 2020، احتجاجا على ما اعتبروه إهمالا وتراخيا من قبل السلطات في مواجهة الوضع الصحي الكارثي في منطقتهم.
أرقام مفزعة ووضع صحي كارثي في الحامة
لئن شهدت البلاد منذ منتصف شهر ماي 2020 حالة من الاستقرار النسبي على مستوى تسجيل إصابات جديدة بفيروس كورونا، ورغم المزاج العام الذي طغتْ عليه روح الإنتصار على الوباء، إلا أن المخاوف قد عادت بقوة في إثر قرار فتح الحدود في 27 جوان 2020، والذي شكل منعرجا خطيرا في مسار مجابهة الجائحة. فقد أسفر هذا القرار بعد شهرين فقط عن تسجيل 2602 حالة مؤكدة حاملة لفيروس كورونا إلى حدود يوم 31 أوت 2020 من بينها 549 حالة وافدة و2031 حالة محلية و28 حالة وفاة. أرقام مفزعة تباينت درجة حدتها بين مختلف المحافظات لتتصدر محافظة قابس القائمة بحوالي 837 حالة إصابة و13 حالات وفاة، وذلك بعد اكتشاف بؤرة حاضنة للفيروس في معتمدية الحامة.
ورغم اكتشاف مكان انطلاق انتشار الوباء بمنطقة الحامة الذي كان معمل الخياطة المنتصب في منطقة وادي النور وإصدار قرار بإغلاقه بتاريخ 9 أوت 2020 إلا أن هذه الخطوة كانت متأخرة جدا مما أدى إلى عجز السلطات لاحقا على السيطرة على العدوى الأفقية.
تأخر في الإجراءات ومماطلة في التطبيق
أمام حجم الانتشار الكبير للعدوى الأفقية في معتمدية الحامة، اتخذت الدولة عددا من الإجراءات من أجل محاصرة انتشار الوباء. فبعد أن قررت السلط الجهوية إغلاق مصنع الخياطة بوادي النور إضافة إلى منع انتصاب الأسواق الأسبوعية وإغلاق الحمامات، تم الإعلان يوم 21 أوت 2020 عن قرار منع الجولان بمعتمدية الحامة انطلاقا من الساعة الخامسة مساءً إلى الخامسة صباحا لفترة أسبوع تمّ تمديده لاحقا بأسبوع إضافي مع الدعوة إلى احترام الاجراءات الوقائية كوضع الكمامات وغسل اليدين والتباعد الجسدي.
رغم هذه الإجراءات تسارعت وتيرة العدوى بفيروس كورونا في محافظة قابس منذ تاريخ 10 أوت 2020 لتتضاعف بنسبة 16 مرّة خلال 3 أسابيع، حيث تطور عدد المصابين من 47 حالة إصابة (10 أوت 2020) إلى 837 حالة مع نهاية نفس الشهر، إضافة إلى ارتفاع أعداد الوفيات من صفر إلى 13 حالة.
عجز الإجراءات الحكومية عن كبح نسق انتشار العدوى، فسره منير تراب رئيس الهيئة المحلية للهلال الأحمر بالحامة، بأن جل هذه القرارات تم اتخاذها في توقيت متأخر جدا ولم يقع استتباعها بإجراءات عملية، حيث أن قرار إغلاق المصنع مثلا لم يرافقه فرض حجر صحي فوري على جميع العاملين في المصنع رغم ما يمثلونه من خطر نتيجة إمكانية إصابتهم بالفيروس. كما لعب تراخي المؤسسات المحلية في الوقوف بحزم على حسن تطبيق إجراءات السلامة والتباعد الاجتماعي في الوصول إلى هذا الوضع الكارثي. إذ لم يطبّق حظر الجولان الذي تم الإعلان عنه منذ يوم 21 أوت 2020 سوى في اليوم الأول ليتم خرقه فيما بعد. كما ساهم التأخير الكبير في إصدار نتائج التحاليل الخاصة بالمصابين في تعريض حياة مزيد من أهالي قابس إلى الخطر وانتشار العدوى الأفقية بشكل مهول. بل وطُلب من المصابين الجدد الإلتزام بالحجر الذاتي في منازلهم بدل نقلهم إلى المراكز المختصة بدعوى ازدحام مراكز الحجر وعدم قدرتها على استيعاب وافدين جدد.
إمدادات صحية لم تحدث فارقا
لم تقتصر مساعي الحكومة لمحاصرة الوباء في محافظة قابس وخاصة معتمدية الحامة على الجانب الأمني والتوعوي فحسب بل طالت أيضا الجانب الطبي. حيث تولّت مصالح وزارة الصحة بالتنسيق مع السلط المعنية على المستوى المركزي والجهوي بتاريخ 14 أوت 2020 اتخاذ جملة من الإجراءات الاستثنائية لتطويق العدوى ومنع انتشارها متمثلة في توجيه شاحنتي تعقيم إلى الجهة إضافة إلى تركيز 3 فرق صحية للتقصي النشيط للحالات وتركيز المخبر الميداني للتقصي وأخذ العينات من الأشخاص المشتبه في إصابتهم بفيروس كورونا والإحاطة بالمصابين. وتدخّلت رئاسة الجمهورية بتركيز مستشفى عسكري ميداني في منطقة الحامة في 15 أوت 2020 لزيادة طاقة الاستيعاب الخاصة بالمرضى المصابين بفيروس كورونا، ودعم جهود الإطار الطبي وشبه الطبي في الجهة وإجراء أكبر عدد ممكن من التحاليل اليومية للتقصي الإصابات بفيروس كورونا بمعتمدية الحامة ومعتمدية الحامة الغربية.
هذه الحزمة من القرارات لم تنجح بدورها في الحد من معاناة الجهة، في ظلّ تدني مستوى المؤسسات الصحية هناك. واقع أكّده جاد الهنشيري رئيس منظمة الأطباء الشبان في تصريحه للمفكرة القانونية، حيث اعتبر أن البنية التحتية المهترئة في جهة الحامة لا تسمح باستيعاب المصابين بهذا الوباء وتوفير العلاج اللازم لهم، كما أن المستشفى الجهوي بقابس نفسه لا تتوفر فيه الإمكانيات اللازمة للإحاطة بهذا العدد الكبير من الضحايا، وبالتالي فإن أقرب مكان لاستقبال المصابين هو المستشفى الجامعي بمحافظة صفاقس الذي يبعد عن قلب محافظة قابس ما يزيد عن 150 كلم. ليضيف أنّ وضع المنشآت الصحية مثّل عقبة حقيقية أمام جهود الأطقم الطبية وشبه الطبية لمحاصرة انتشار الفيروس خصوصا في ظلّ اختلال جهوي حاد بين مختلف المحافظات على مستوى تطوّر البنى التحتية الصحية.
رغم المساعدات المالية، قطاع الصحة العمومية ما يزال مهمشا
لئن عوّل أغلب المسؤولين على صندوق جمع التبرعات المخصص لمجابهة فيروس كورونا والذي بلغت عائداته 198.3 مليون دينار لدعم قطاع الصحة العمومية ، لاقتناء وسائل الحماية ومعدات التحاليل وتعزيز أسطول سيارات إسعاف، وتهيئة بعض الأقسام المخصصة لاستقبال مرضى الكورونا والتعاقد مع الأطباء الداخليين، إلا أن كل هذه الإصلاحات لم تعطِ أكلها عند أول اختبار جدي بعد مرور الموجة الأولى.
في هذا السياق، اعتبر جاد الهنشيري رئيس منظمة الأطباء الشبان في تصريحه للمفكرة القانونية أنه لا يمكننا أن ننكر أن عديد الأموال التي تم جمعها خلال عمليات التبرع لفائدة صندوق الدعم للتصدي لوباء كورونا قد اتجهت نحو تجهيز عديد المستشفيات الجامعية الكبرى بالمعدات الحديثة والمستلزمات الصحية الضرورية ولكن في المقابل فإن هذه الإصلاحات قد ساهمت مرة أخرى في تعميق الفوارق بين الجهات حيث لم تستفد عديد المناطق مطلقا من هذه المساعدات المالية. وبالتالي فإن خطة توزيع الإمدادات الطبية لم تكن عادلة على الصعيد الجهوي. كما أنه لا يمكن للأطباء العمل في ظل ظروف اجتماعية مزرية، إذ لم يتم صرف رواتب الأطباء الشبان منذ حوالي 5 أشهر، رغم تجندنا التام منذ بداية الأزمة وتعريض أنفسنا للخطر. وهنا لعب المجتمع المدني دورا مهما في تعويض غياب الدولة، بعد أن تكفل بتجهيز عديد الأقسام في المستشفيات وتوفير متطلبات الإطارات الطبية والشبه الطبية في المناطق المهمشّة. ولكن يبقى هذا الجهد محدودا في ظلّ تواصل تدهور قطاع الصحة العمومية وعدم استفادة السلطات من دروس الموجة الأولى.