مع نشوء أزمة الكورونا، كان يؤمل من الدولة أن تفعّل القدرات الإجتماعية، المركزية والمحلية كافة، تمكيناً لها من الإستجابة للحاجيات الناجمة عنها. وفيما شهدنا دوراً فاعلاً للمجتمع المدنيّ في هذا المجال، فإن تأزّم العلاقة بين مركز تمثله الحكومة وجهات مثلتها المجالس البلدية حول تقسيم الأدوار فيما بينها يعكس بالمقابل إخفاقا جسيما في هذا المضمار. وهذا ما نتناوله من خلال محطات ثلاث.
محطة أولى: البلديات تصنع السياسة الاجتماعية المحلية
نقل الدستور البلدية من خانة الجماعة المحلية الحضرية ذات الصبغة الخدميّة إلى مقام النواة المركزية للسلطة المحلية. ونزلت مجلة الجماعات المحلية تصورها بشكل قد لا يحقق بالكامل فكرة السلطة التأسيسية لكنه لا يخرج عن ضوابطها وأهدافها المتمثلة في “تحقيق اللامركزية والتنمية الشاملة والعادلة المستدامة في إطار وحدة الدولة”[1].
في إطار هذا التصور المؤسساتي، كشفت المدة الأولى لعمل أول مجالس بلدية انتخبت بتونس عن عجز عن تطوير أدائها مرده خلل هيكلي نرصد له ثلاثة أعراض هي تباعا: (1) تشنج علاقة السلطة في المركز بالكيانات الجديدة. وهي ظاهرة نعزوها في بعض الحالات لتجاهل من البلديات لحدود صلاحياتها، فيما تتأتى في حالات أخرى من تمسك الجهة الحكومية بتصوّر قديم للسلطة يحصر دور الجهة في التنفيذ ويرفض أن يكون لها دور حقيقي في القرار. (2) سرعة تحول الخلافات داخل المجالس البلدية لاستقالات تطيح بها وتؤدي لمعاودة الإنتخابات التي تتولّد عنها مجالس جديدة تعيد إنتاج ذات الأزمة. (3) عجز البلديات الصغرى عن مواءمة تدخلاتها مع التصور الجديد لدورها بسبب ضعف إمكانياتها المالية والذي يعود في جانب كبير منه لضعف مواردها الذاتية ولتعويلها بشكل شبه كامل على التمويل العمومي.
لاحقا ومع بداية الوعي الجماعي بخطورة تفشي وباء الكورونا، تطوّر الأداء البلدي في اتجاهات جديدة لم يعرفها سابقا تمثلت أساسا في صياغة مبادرات غايتها تعزيز حماية المجموعة المحلية من خطر العدوى والإهتمام بالفئات الهشة والفقراء وتنسيق التدخلات لفائدتهم ورعاية علاقة عضوية مع المجتمع المدني المحلي غايتها نشر الوعي وتعزيز التضامن الإجتماعي. كانت عندها البلديات صاحبة المبادرة في إدارة سياسة اجتماعية لجائحة الكورونا في سياق برز فيه التمايز الحضاري والسكاني لكل منها. فمثلا، توجه تدخل بلديات المرسى ورواد وسكرة حيث تقطن جاليات مهمة من المهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى لفائدة هذه الفئات كأولوية اعتبارا لكونها الأكثر هشاشة[2]. أما بلديات الأحياء والمناطق التي ترتفع فيها نسبة الفئات الفقيرة والهشة، فقد اعتمدت على نشاط المجتمع المدني المحلي الذي ضمن تجميع المساعدات وتوزيعها على من يحتاجونها باعتماد معيار المعرفة المباشرة بهم ومن دون حاجة لطلب يصدر عنهم.
بدا هنا تدخل البلدية مبرراً قانوناً لكون جانب من الإعتمادات التي تخصص لها من موارد صندوق دعم اللامركزية والتعديل والتضامن بين الجماعات المحلية يسند لها باعتبار “مؤشر التنمية ونسبة البطالة بمرجع نظرها”[3] بما يعني بالضرورة أنها مطالبة بصرفه في هذه الأبواب. علاوة على كونها مطالبة في عملها بضبط برنامج تنمية يجب أن تراعي فيه “مقاومة الفقر ودعم ذوي الإعاقة”[4] وبأن تخصّص إحدى لجانها القارّة بالعمل على ذلك[5]. في ذات السياق، كانت العلاقة الديناميكية التي أقامتها العديد من البلديات مع منظمات المجتمع المدني خير تجسيد لقيم الديمقراطية التشاركية التي افترضها فيها الدستور وأوجبها عليها القانون. وكان يُنتظر تاليا أن تبني السلطة المركزية على حماسة البلديات في هذا الخصوص[6].
محطة ثانية: المركز ينفرد بالقرار
لم ينتبه من كانوا يديرون الأزمة الصحية من العاصمة للأبعاد الإيجابية في تفاعل البلديات معها. وقد يكون مرد ذلك إنزعاجهم من قرارات سبقت هذا الفعل أو رافقته وصدرت عن عدد منها بما يربك مخططهم أو يحوّل البلاد إلى جزر من البلديات لكل منها سياسته الخاصة به والتي تقوم فقط على الخوف من الآخر. لذا، آلت قرارات السلطة المركزية في صيغتها الأولى إلى التعامل مع ملفّ الإستحقاق الإجتماعي بآليات مركزية. وقد تمّ إسنادها “لوحدة الدولة” و”لضرورة الحفاظ على التناغم والانسجام بين مختلف الهياكل العمومية بغاية إضفاء المزيد من النجاعة والفعالية على التدخلات الرامية إلى تحقيق الصحة والسلامة لكافة المتساكنين في هذه الظروف الخاصة” وأيضا لكون “رؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية المنتخبة والسادة رؤساء النيابات الخصوصية للمجالس الجهوية وأعضاؤها مدعوين لإحكام آليات التنسيق والتشاور الملائمة مع سلطة الإشراف حفاظا على وحدة القرار جهويا ومحليا في إطار المحافظة على المصلحة العليا للبلاد”.[7]
وقد تجسّد هذا التوجه في إسناد صلاحية ضبط قوائم مستحقي المساعدات المالية التي ستوزعها الدولة، لوزارة الشؤون الاجتماعية، وفي تكليف الجيش[8] مهمة الإشراف على وحدات تجميع المساعدات العينية التي أحدثتها في مختلف جهات البلاد[9].
إلا أنه وبمجرد الشروع في توزيع المساعدات المالية، شهدت عديد المناطق تحركات احتجاجية، بعضها كان عنيفا من اناس ادّعوا حقا في المساعدة ولم ترد أسماؤهم في قوائمها وساءهم تمتع الآخرين بها. وهنا استدعى التطور على خطورته إجراء مراجعة عاجلة للسياسة المركزية المعتمدة، في اتجاه الإعتراف بدور “المحلي” في إدارة الملف الاجتماعيّ.
محطة ثالثة: المعتمدون والعمد نافذة المركز على المحلي
نهض النظام السياسيّ للجمهورية الأولى كما للإيالة قبله على مُسلّمة أساسيّة، مفادها أن السلطة موطنها العاصمة. فكان في مرحلة تاريخية أولى أي قبل الاستقلال العامل[10] ممثلا للباي في منطقة عمله، وكان الخليفة وشيخ التراب يساعدونه في ذلك. وبعد الإستقلال، أصبح الوالي “هو المؤتمن على سلطة الدولة وممثل الحكومة بدائرة ولايته”[11] ويساعده في ذلك المعتمدون في مرجع نظرهم الترابي الذي ينقسم لعمادات يشرف على كل واحدة منها عمدة دوره مساعدة المعتمد في مهامه. ويتم تكليف جميع هؤلاء بمهامهم “السياسية ” بالإستناد لمعيار الولاء للنظام والقدرة على خدمته. لاحقا وفي ظلّ الجمهورية الثانية ومع دسترة السلطة المحلية، كان يُعتقد أن عهد ممثلي السلطة المركزية إلى أفول أو على الأقه إلى انحسار في مهام محددة لا تؤدي ممارستها لمساس بصلاحيات السلطة الممثلة بالإنتخاب لجهاتها. ونقدر هنا أن إدارة السياسة الاجتماعية للدولة وقد تأكدت الحاجة لتدخل الجهة في صياغتها كان يمكن أن تكون المناسبة المثلى لإبراز هذا التطور الهام في هندسة سلطات الدولة. ولكن هذا لم يحصل بحيث اختار المركز أن يتجاهل البلدية المنتخبة في اتجاه إسناد دور محوري للمعتمد والعمدة في إنفاذ سياستها الإجتماعية. وعليه، تمّ تكليف هؤلاء بإدارة مرحلة تدقيق قوائم مستحقّي المساعدات بتلقي مطالبها وجمع المعطيات حول من صدرت عنهم توصّلا لاتخاذ قرار أوليّ في شأنها على مستوى لجنة محلية استحدثتها يرأسها المعتمد[12] وتضم ممثلين عن المجالس البلدية. كما كلّفت هذا الأخير برئاسة اللجنة المحلية لمجابهة الكوارث التي استحدثتها والتي من ضمن أدوارها توزيع المساعدات العينيّة.
عدا عن أن هذا التوجّه حال دون تحقيق الإستفادة من الحركية المجتمعية التي رافقت إدارة ملف المساعدات الإجتماعية في تطوير أداء البلديات وتمكينها من الإنطلاق في جهودها التنموية، فإنه بدا في تعارض تام مع ما فرضه الدستور من إلتزام على الدولة “بدعم اللامركزية”[13]. كما أنه انتهى إلى إعادة مؤسسة المعتمد لموقع القرار المحلي في محاولة منه للإستفادة من مؤسسة لم يعد لها فعليا في النظام السياسي الجديد أي دور سوى استعمال التعيينات فيها في الترضيات السياسية للقيادات الوسطى للأحزاب الحاكمة وبالتالي في الدفع نحو تسييس الإدارة وهو فعل يجب تركه لا المضي قدما فيه بصريح حكم الفصل 15 من الدستور.
- نشر هذا المقال في الملحق الخاص بالعدد 18 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:
الكورونا غزوة مرعبة بأسئلة كثيرة
[1] الفصل الأول من مجلة الجماعات المحلية .
[3] ينص الفصل 150 من مجلة الجماعات المحلية ” يتم توزيع موارد صندوق دعم اللامركزية والتعديل والتضامن بين الجماعات المحلية وفقا لمعايير موضوعية تأخذ بعين الاعتبار خاصة:عدد السكان، نسبة البطالة، الطاقة الجبائية، مؤشر التنمية، طاقة التداين.“
[4] ينص الفصل 106 من مجلة الجماعات المحلية على كون ” مجلس الجماعة المحلية يصادق على مخططات التنمية المحلية ويأخذ بعين الاعتبار: مقتضيات التنمية المستدامة، تحفيز الشباب لبعث المشاريع، المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين،دعم التشغيل،دعم ذوي الإعاقة، مقاومة الفقر،التوازن بين مناطق الجماعة المحلية.“
[5] ينص الفصل 210 على وجوب أن تكون بكل بلدية لجنة قارة مخصصة ” للشؤون الاجتماعية والشغل وفاقدي السند وحاملي الإعاقة “
[6] عصام الصغير، هذا العدد.
[7] منشور مشترك عدد 4 لسنة 2020 مؤرخ في 4أفريل 2020 بين وزير الداخلية ووزير الشؤون المحلية إلى السادة الولاة ورؤساء البلديات ورؤساء النيابات الخصوصية للمجالس الجهوية
[8] معطى ورد في كلمة رئيس الحكومة أمام مجلس نواب الشعب بتاريخ 04-04-2020 .
[9] أحدثت الحكومة 274 وحدة تجميع مساعدات عينية بمقرات لمدارس ابتدائية .
[10] كان يصطلح أيضا على تسميه القايد.
[11] الفصل الأول من القانون عدد 52 لسنة 1975مؤرخ في 13 جوان 1975 الذي يتعلق بضبط مشمولات الإطارات العليا للإدارة الجهوية
[12] منشور عدد 09 مشترك بين وزراء الداخلية الشؤون الاجتماعية والشؤون المحلية بتاريخ 15-04-2020 .