“
أطلق مركز دراسة الإسلام والديمقراطية أول حلقاته حول “دور الفاعلين الدينيين في مجال مكافحة الفساد” بتاريخ3 ماي 2019. كان لهذه الدورة حضور في ثلاث ولايات تونسية حتى الآن، جربة في جنوب تونس، سيدي بوزيد في وسط الجمهورية، وصفاقس في الساحل، وشملت أكثر من 20 إماما وخطيب مسجد.
هذا النشاط باستهدافه الفاعلين الدينيين بغرض مكافحة الفساد يجعلنا أمام إمكانية تشكيل خطاب جديد في هذا المجال ينطلق من داخل المنظومة الدينية، وهو خطاب متمايز عن الخطاب السائد لأغلب المنظمات والجمعيات الحقوقية التي لطالما تبنت خطابا يميل أكثر للعلمانية واختارت التعاطي مع المواضيع الحقوقية ومسائل الديمقراطية ومكافحة الفساد من منظور اقتصادي، قانوني تقني وحقوقي صرف. كما أن الخوض في أبعاد هذا النشاط يفتح المجال اليوم لطرح مسألة على غاية من الأهمية والحساسية تونسيّا وإسلاميا، ألا وهي دور الفاعل الديني في مرحلة الانتقال الديمقراطي ومجال الحقوق والحريات ما بعد الثورة.
من هو الفاعل الديني؟
الفاعلون الدينيون هم مجموعة أشخاص يقومون بالتوعية الأدنى والضرورية للمؤمنين عموما والذين يتوجهون إلى المساجد خصوصا. في تونس، معظم الفاعلين الدينين مسجلون لدى الدولة بشكل رسمي بحكم وجود وزارة للشؤون الدينية. بذلك يمكن القول إن الفاعل الديني في تونس هو من جهة الوسيط الرسمي بين الثقافة الإسلامية والجمهور المتبني لهذه الثقافة ومن جهة ثانية، الوسيط بين جزء من عموم المواطنين والدولة ومؤسساتها. من هنا تأتي أهمية الحديث عن الفاعل الديني كعنصر مهم وأساسي في تحقيق تلك الروابط الضرورية لبناء الديمقراطية التونسية الناشئة.
تاريخيا، الحديث عن الفاعل الديني كان غائبا في تونس بشكل شبه تام بسبب التعطيل المتعمد للمؤسسة التعليمية الزيتونية خلال فترة حكم الحبيب بورقيبة، ليستمر ذلك خلال فترة زين العابدين بن علي. بحكم دور المؤسسة الزيتونة في تكوين وتخريج القضاة الشرعيين والمفتيين والأئمة والوعاظ وكافة المواطنين المنتسبين لها، والذي غُيّب لسنوات طويلة، تناقصت أعداد الفاعلين الدينيين الوسطيين وزادت نسبة الفقر في المعرفة الدينية بين عموم المواطنين بشكل كبير. الأمر الذي فتح المجال لنشوء حركة إسلامية متشددة في تونس تمكّن عناصرها من احتلال المساجد التونسية.
بعد الثورة، تفاقمت هذه الظاهرة بشكل يثير الخوف ويهدد الأمن العام، خصوصا في ظل انتشار ظاهرة التطرف الديني ودخول عناصر متشددة ومسيسة للمساجد والفضاء الديني عموما، خصوصا التيار السلفي الجهادي. من هنا كانت بداية الحديث عن تفعيل الفاعل الديني ومحاولة اعتباره فاعلا اجتماعيا وعنصرا مساعدا للتغلب على كل هذه الظواهر.
كما أن تزايد الحديث عن المسائل الحقوقية في تونس طوّر إدراكا عاما بضرورة تطوير الخطاب الديني ليتماشى مع حالة الانتقال الديموقراطي التي تعيشه البلاد منذ ما بعد الثورة. هذا ما أكده المفكر التونسي صلاح الدين الجورشي للمفكرة القانونية، حيث قال إنه “لا يمكن أن يبقى الفاعل الديني معزولا عن المجتمع ومحصورا ضمن عالم من الأفكار الخاص به في ظل التغيرات الكثيرة التي تشهدها البلاد على صعيد الأفكار والهوية. تبادل الأفكار والخبرات والتجارب يجب أن يقع بين الفاعلين الدينيين والفاعلين الحقوقيين والسياسيين والقانونيين وغيرهم ليقع التغيير. ليتم بعد ذلك إشراك الفاعل الديني في إنتاج خطاب جامع بين التيارات الفكرية المختلفة، ويتعلق أساسا بالأمور التي تعني المواطن والدولة وتفيد المنظومة القانونية. بالنسبة لجزء كبير من المجتمع التونسي الذي يستمد حياته وأفكاره وسلوكه وأسلوب حياته من الدين، هذا الخطاب الجديد يجب أن يمرّ أولا بالصياغة والفهم الديني، ليتم قبوله والتفاعل معه. تهميش الفاعل الديني لا يخدم الشأن العام أو الحداثة أو المدنية. بل يبقي الحداثة فوقية ومعرضة لانتكاسات. كما أن هذا التهميش يجعلنا نخسر نسبة كبيرة من المجتمع وعداء البعض الآخر. في تونس، الحديث عن الفساد في أغلبه حديث تقني، قانوني، اقتصادي، أو سياسي. كما أن الحديث عن مكافحة الفساد عادة ما يركز على تطوير المنظومة القانونية أو الحديث عن إرادة سياسية تهم المعنيين والمتخصصين، أكثر من الحديث عن البعد الأخلاقيّ الذي يهّم ويُفهم من قبل العامة”.
نوعية خطاب الفاعلين الدينيين في مكافحة الفساد
خلال مداخلته في ندوة مركز الإسلام والدمقراطية “دور الفاعلين الدينيين في تفعيل آليات مكافحة الفساد” يوم الجمعة 3 ماي 2019، رأى الجورشي أن محاربة الفساد لا تكون بتطبيق القانون فقط وإنما يجب الاستعانة بالإطار الديني إلى جانب القضاء والشرطة والإدارة. يعتبر “الجورشي” أن الإسلام حمل في سياقه القرآني معنى للفساد كنقيض للإصلاح. في القرآن تكرّر استعمال مصطلح الفساد في اتجاهات متعددة عموديا وأفقيا، حيث تم ربط الفساد بالكفر (فساد العقيدة والتصور) وربطه بالنفاق وإفساد الكون “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” (سورة الأعراف)، ما يعني تخريب العالم بأجمعه. كما اعتبر الفساد قرينا للظلم “الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد”. وبالتالي، ليست محاربة الفساد شعارا سياسيا أو وقفا على الإرادة السياسية فقط، إنما واجب ديني وأخلاقي بالأساس مترتب على الأفراد: فالذي يسرق الدولة يخون المجتمع.
أحاديث نبوية والآيات القرآنية كثيرة أتت في هذا السياق مثل: “من غشنا فليس منا” (القطيعة والعزل) و”لعنة الله على الراشي والمرتشي” فلخطورة الجريمة يكون العقاب الخروج من رحمة الله “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون” البقرة 188.
كما أن فحوى الدورة التدريبية التي يقدّمها مركز الإسلام والديمقراطية حول مكافحة الفساد، يبين أن خطاب الفاعل الديني يمكن أن يتعدى بمحتواه الأسس الإسلامية الشرعية، ليركز أيضا على مفاهيم أخرى على غرار “حقوق الإنسان”، “الديموقراطية”، “الدولة”، “المواطنة”، وغيرها من المفاهيم “المدنية” في مسألة مكافحة الفساد. كما أن الربط بين مسألة الفساد والواقع الاجتماعي والسياسي والحقوقي في البلاد هو عنصر أساسي في هذا الخطاب. “تحاول هذه الدورة ربط الفاعل الديني بالواقع المعاش للحقوق والحريات لخلق أوجه تشابه بين الثقافة الإسلامية المستنيرة والثقافة الديمقراطية المدنية. ذلك يثري الخطاب ويجعله متعدد التوجه والأوجه”.
نشير هنا إلى أن هذه الدورة هي واحدة من ضمن سلسلة من الدورات التي قام بها مركز دراسة الإسلام والديموقراطية منذ 2015 بهدف تطوير خطاب ودور الفاعلين الدينين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان شملت مواضيع عديدة مثل مفهوم المواطنة وعلاقته بالديمقراطية، كيفية إدارة الخلافات وفض النزاعات، مهارات التواصل، وكيفية استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع العامة، وآليات المناصرة. هذا يجعل مقاربة “دور الفاعل الديني في مكافحة الفساد” أكثر شمولية وعلى قاعدة أقرب للمدنية.
وزارة الشؤون الدينية ومحاولات التفعيل والتفاعل
قبل ثلاث سنوات، كان لمنظمة أنا يقظ، وهي المنظمة الأكثر شهرة في تونس في مجال مكافحة الفساد، تعاون مع وزارة الشؤون الدينية بقصد دعوة أئمة المساجد وخطبائها لتخصيص خطبهم ليوم الجمعة 9 ديسمبر2016 المتزامن مع اليوم العالمي والوطني لمكافحة الفساد حول “مكافحة الفساد في الشريعة الإسلامية”. هذا التعاون كان مبادرة من “أنا يقظ” التى تقدمت بهذا الطلب إلى الوزارة بغرض زيادة الوعي العام بدور الشخص المسلم في التبليغ عن الفساد ومكافحته في كافة أـنحاء الجمهورية التونسية. 1
بالرغم من عدم تكرر مثل هذه المبادرة وعدم إثارتها لحديث إعلامي أو إشادة حقوقية تذكر وقتها، إلا أنها تلقي الضوء على أربعة عناصر أساسية في تحقيق تغيير في الفضاء الديني ومساهمة الإطار الديني في إثارة خطاب جدي ومهم في مكافحة الفساد، وهم وزارة الشؤون الدينية، الفاعلين الدينيين، منظمات المجتمع المدني، والمواطنين المتلقين لهذا الخطاب والمتفاعلين معه.
“في ظل الأزمات التي تسبب بها التطرف الديني في تونس من شبكات وعمليات إرهابية، أصبح دور وزارة الشؤون الدينية بعد الثورة أمنيّا أكثر منه تكوينيّا”، يقول الجورشي. وأضاف “نقص الخبرات داخل الوزارة جعلها أكثر إهمالا للجانب التكويني أيضا.” هنا تكمن أهمية تفاعل منظمات المجتمع المدني مع وزارة الشؤون الدينية لإعادة تفعيل دورها التكويني وإعادة صياغة وتطوير الخطاب المجتمعي والسياسي والرسمي الذي يعتبر الفاعل الديني “خطرا محتملا”. في الواقع، تطوير مهام وخطاب الفاعل الديني من داخل الإطار الرسمي للدولة، أي من خلال وزارة الشؤون الدينية، يحقق أولا الشعور بالأمن ويبني الثقة بين الدولة والفاعل الديني، كون هذا الأخير مسجلا لدى الوزارة ويعدّ بالتالي موظفا في الدولة وعليه أن يرعى مصالحها وأمنها القومي. ثانيا، يبقي الدولة الراعي الرئيسي للفضاء الديني، في ظل وجود حزب يتخذ من الإسلام أساساً، حتى وإن كان أساساً مرجعياً فقط، حسب ما يدعي القائمون على هذا الحزب. فالمسجد يشكل منبرا إعلاميا هاما ومركز تعبئة شعبية وأيديولوجية. تساهم منظمات المجتمع المدني من جهتها بالخبرات التي تمكنها من مساعدة الوزارة في وضع برامج تكوينية، ترشيد ميزانيتها لتحقيق النفع الأكبر، وزيادة تواجدها في الفضاء الديني من خلال نشاطات مختلفة دينية ومدنية.
1مبادرة شبيه قامت بها وزارة المرأة في السنتين اللاحقتين، حين تقدمت بطلب إلى وزارة الشؤون الدينية في نوفمبر 2017 وكررتها في مارس 2018 لتخصيص بعض خطب الجمعة للحديث عن مناهضة العنف ضد المرأة والأسرة. أتت هذه المبادرة أشهر بعد إقرار قانون حماية المرأة من العنف في 26 جويلية 2017.
- نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
نكره الفساد الذي يكبر فينا
“