من الصفحة الرسمية للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين
كانت رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، تُلفت انتباه أنصارها في اجتماع حزبي بمحافظة صفاقس إلى أن حقبة “الفرز الإعلامي” قد بدأت لتوّها، وستشمل قائمة “المفروزين” المحتَملين كل الصحفيين غير المنسجمين مع المعيارية السياسية للحزب الدستوري، بعد أن يجري تصنيفهم كـ”أعداء للوطن” أو “متواطئين” مع حركة النهضة الإسلامية. وبأسلوب تصنيفي شبيه، دأبت كتلة ائتلاف الكرامة (حليف حركة النهضة الإسلامية) على بث خطاب سياسي قائم على معجمية أخلاقية ودينية، يجري داخلها احتقار الصحفيين المخالفين ونعتهم بـ”الشواذ” و”الكلاب” في بعض الأحيان. وفي السياق نفسه، شهدت مسيرة مساندة للحكومة نظمتها حركة النهضة، أواخر فيفري الفارط، اعتداءات عديدة على الصحفيين والعاملين بالقطاع الإعلامي، وتعرّضت خلالها بعض الصحفيات إلى التحرش الجنسي حسب تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود. كما كانت الصحافة التونسية أيضا ضحية لتسلط الأجهزة الأمنية ورغبتها في مصادرة الفضاء العام، وقد أشار تقرير شهر فيفري الذي أصدرته وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية التابعة للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين[1]، إلى ضلوع أعوان أمن في اعتداءات ضد الصحفيين والتضييق على حرية العمل الصحفي. وكشف التقرير ذاته عن ضلوع أطراف أخرى في الاعتداءات اللفظية والجسدية ضد الصحفيين من بينهم لجان التنظيم وأنصار الأحزاب السياسية ونوّاب بالبرلمان.
وفي وقت سابق كشفت منظمة العفو الدولية عن انتصاب محاكمات وتتبّعات عدلية ضد مُدوّنيين بسب آرائهم ومواقفهم الناقدة للفساد الحكومي أثناء إدارة أزمة تفشي وباء كورونا، عبر نشرهم لمقاطع فيديو وكتابة تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد وَاجَه بعضهم تُهما متعلقة بـ”إحداث ضجيج أو ضوضاء من شأنها تعطيل صفو النظام العام ” و”هضم جانب موظف عمومي”. وأشار التقرير ذاته إلى أن منظمة العفو الدولية قامت بـ “توثيق اتجاه متنامٍ لمحاكمات المدونين والصحفيين والناشطين، التي تستخدم التشريعات التي تعاقب على التعبير السلمي، ولا سيما الخطاب الذي يعتبر مسيئًا أو تشهيرياً، ليس تجاه الأفراد فحسب، بل أيضاً تجاه مؤسسات الدولة، والخطاب الذي يعتبر أمرا من شأنه الإخلال بالنظام العام أو الأخلاق”.
الصحافة التونسية وصراع السلطويات
تشهد تونس معارك سياسية متواترة داخل مجلس نواب الشعب بين كتل اليمين بمختلف انحدارتها السياسية والعقائدية، وأساسا بين كتلة حركة النهضة الإسلامية وحليفها ائتلاف الكرامة وكتلة الحزب الدستوري الحرّ التي تعتبر امتدادا تنظيميا وسياسيا لجزء من حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم السابق في نظام بن علي). ويبحث هذا الصراع المحكوم بإلغائية متبادلة عن أدوات اتصالية وإعلامية تسمح له بافتكاك مواقع ومساحات يفرض من خلالها وجهة نظر أحادية للشأن العام. وقد ساهم هذا التنازع المفرغ من أي عقلانية سياسية في خلق تصور مَانَوي للصحافة، يجري من خلالها تقسيم المجال الصحفي إلى محورين متنازعين: “محور الخير” الذي يضم الأنصار والمؤيدين و”محور الشر” الذي يضم المخالفين والناقدين وأصحاب المواقف والآراء المغايرة.
يسعى هذا التصور المحكوم بإرادة سلطوية إلى إفراغ الصحافة التونسية من مضامينها الرقابية والنقدية والسجالية وتحويلها إلى امتداد باهت للخطابات السياسية المتنازعة. وينهل هذا التصور وسائله ومرجعياته من تجربة تسلطية طبعتها الرقابة والامتثالية سواء في عهد نظام بن علي أو خلال حقبة “نظام 23 أكتوبر 2011”. وقد أنتجت هذه التجربة خطابين سياسيين إزاء الصحافة، يختلفان ظاهريا في بعديهما العقائدي والسياسي، ولكن يشتركان في إرادة الإخضاع. يُفصِح الخطاب الأول عن نفسه من داخل فكرة “الفرز” التي تعبّر عنها رئيسة الحزب الدستوري الحر، وهي آلية متأثّرة إلى حدّ كبير برواسب رقابية أمنية قديمة، كانت خلالها الصحافة تُمَارس بتوجيهات من الرقباء ومخبري أجهزة الأمن ومؤسسات الدعاية النظامية على غرار وكالة الاتصال الخارجي[2]. وعادة ما يهيمن على تلك المشهدية الإعلامية آليات التضليل الإعلامي وشيطنة الخصوم وانتهاك حياتهم الشخصية. وقد أعادت الاتهامات الأخلاقية، التي وجهتها رئيسة الحزب الدستوري الحر لأحد الصحفيين البرلمانيين، إلى الأذهان ذلك الإرث التسلطي القديم، وهو ما اضطر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى دعوة منظوريها لمقاطعة رئيسة الحزب الدستوري الحر، بسبب ما اعتبرته “إرهابا للصحفيين وَوصمهم من أجل مصادرة آرائهم”.
أما الخطاب الثاني، الذي تجسّده بالأساس كتلة ائتلاف الكرامة، فيعبر عن نفسه من داخل معيارية قيمية تصدر أحكاما أخلاقوية على الصحفيين وكل المخالفين، وتنصهر داخل هذا الخطاب مرجعية ثقافية قائمة على احتقار الآخرين باسم “الرّجلة” (الرجولة) ومرجعية دينية تسعى إلى فرض تأويلات مبتسرة وأحادية للنصوص الدينية من أجل تعطيل التشريعات التي تضمن حقوق النساء والأطفال وتكفل حرية الضمير والتعبير. ويسعى هذا الخطاب إلى فرض مضامينه العقائدية داخل المشهد الإعلامي باسم حراسة الهوية والدين. وقد تكررت اعتداءات كتلة ائتلاف الكرامة على الصحفيين منذ بداية الدورة البرلمانية الحالية، سواء بالتشويه الأخلاقي أو الضغوط السياسية، وهو ما اضطرّ أيضا النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى دعوة مختلف وسائل الإعلام لمقاطعة كتلة ائتلاف الكرامة و”الالتزام بعدم المساهمة في نشر خطابات الكراهية والتحريض على العنف التي تهدد السلم الاجتماعي”.
التعديل الإعلامي ومعارك الإضعاف
كانت محاولات إخضاع الصحفيين والتحكم في المضامين الإعلامية تجري بموازاة معركة تشريعية تهدف إلى إضعاف التعديل الإعلامي وفتح السوق الإعلامية على المال السياسي وإغراقه بخطابات العنف والكراهية والتجييش السياسي والعقائدي، وقد انعكس هذا الخيار في المبادرة التشريعية التي تقدمت بها كتلة ائتلاف الكرامة من خلال مقترح القانون عدد 34/2020 المتعلق بتنقيح المرسوم عدد 116 لسنة 2011، وقد دعا هذا المقترح إلى إضافة فصل يسمح بإحداث القنوات التلفزية والإذاعية دون الحصول على ترخيص، والاكتفاء بـ “إيداع تصريح بالوجود لدى كتابة الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري مُقابل وصل في ذلك. يتضمّن كل المعطيات المُتعلّقة باسم الشخص أو المؤسسة المالكة للقناة ومقرّها ورقم سجلّها التجاري ومُعرفها الجبائي وبقائمة في أسماء مؤسسيها ومُسيّريها”. وقد صادقت لجنة الحقوق والحريات بالبرلمان على هذا المقترح التعديلي بعد أن صوتت لفائدته كتل حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، في حين عارضته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري وعديد من منظمات المجتمع المدني والهياكل والصحفية التي اعتبرته “إفساداً للحياة العامة وضرباً بقواعد التنافس النزيه ومبادئ الشفافية والديمقراطية”. ورغم مصادقة لجنة الحقوق والحريات عليه فإن هذا القانون تم تأجيل عرضه على الجلسة العامة.
إن المطالبة البرلمانية بإلغاء الإجازات القانونية عن القنوات التلفزية والإذاعية، يرتبط أساسا بالدفاع عن وسائل إعلامية بعينها تمارس نشاطها خارج القانون، وهي أساسا قناتي نسمة والزيتونة وإذاعة القرآن الكريم، ويترأس أصحاب هذه القنوات في الوقت نفسه أحزابا سياسية على غرار نبيل القروي مالك قناة نسمة الذي يترأس حزب قلب تونس، وسعيد الجزيري رئيس حزب “الرحمة” ونائب بالبرلمان ومالك إذاعة القرآن الكريم، إضافة إلى قناة الزيتونة المسنودة من حزب حركة النهضة وائتلاف الكرامة. وقد لاحظت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في وقت سابق الإخلالات القانونية التي رافقت ملفات تكوين هذه القنوات التلفزية والإذاعية، مما اضطرّها إلى عدم منحهم إجازات البث. ومن بين المؤاخذات القانونية على هذه القنوات امتلاكها من قبل رؤساء أحزاب وعدم التزامها بتقديم ملفّات تستجيب للتراتيب القانونية، وعدم شفافية حساباتها المالية ومصادر تمويلها، مما يجعلها غرفا خلفية للتهرب الضريبي وتمويل الأحزاب السياسية.[3]
وما زالت هذه القنوات التلفزية والإذاعية تبث برامجها بشكل اعتيادي رغم العقوبات وقرارات الحجز الصادرة عن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ولم تفلح الهيئة مؤخرا في التنفيذ الكامل لقرار حجز معدات تابعة لإذاعة “القرآن الكريم”، وفي هذا الصدد ذكرت الهيئة في بيان لها: “تصدّى السيد سعيد الجزيري، صاحب هذه القناة غير القانونية، لعملية الحجز بمقر الإذاعة بمنطقة مرناق من ولاية بن عروس بتعلة أنه محل سكناه. وتعذر بذلك استكمال إجراءات الحجز على اعتبار أن الشخص المعني له صفة نائب شعب ويتمتع بالحصانة البرلمانية. علما وأن التلبس بجريمة البث دون إجازة من خلال استعمال ترددات راديوية دون الحصول على موافقة السلط المعنية تترتب عنها عقوبات سالبة للحرية حسب الفصل 82 من مجلة الاتصالات”.
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية، تقرير شهر فيفري 2021. ↑
وكالة دعائية أسسها نظام بن علي في بداية التسعينيات من أجل تحسين صورة السلطة في الخارج، وقد فتحت فروعا لها في العديد من المدن الأوروبية على غرار باريس وفرانكفورت وستراسبورغ ولندن وبروكسيل، وموّلت العديد من الكتب التي تحتفي بالرئيس بن علي مثل كتاب ”بن علي بعيون مصرية“ للمصرية جيهان عاصم وكتاب «La Tunisie une démocratie naissante» للكاتبين Nicole Ladouceur وLuc Dupont. ↑
انظر تقرير محكمة المحاسبات حول نتائج مراقبة تمويل الحملات الانتخابية لسنة 2019، وتقرير الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري حول الخروقات الجسيمة المسجلة في الانتخابات التشريعية لسنة 2019. ↑
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.