صدر بتاريخ 8-8-2014 الأمر عدد 2887 المتعلق بإحداث الدوائر المتخصصة بقضايا العدالة الانتقالية. ويأتي إحداث الدوائر المتخصصة تجسيدا لما اقتضاه الفصل الثامن من القانون عدد 53 لسنة 2013 من إحداث دوائر قضائية بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقار محاكم استئناف تختص حكميا بنظر الجرائم التي تتولد عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ويعد استنباط فكرة بعث "دوائر متخصصة بنظر الجنايات موضوع المحاسبة في قانون العدالة الانتقالية" الحل الذي توصل اليه المشرع التونسي ليوفق بين رأيين متناقضين:
– رأي أول تقودهمجموعة من نواب المجلس الوطني التأسيسي الذين عبروا عن عدم ثقتهم في القضاء وأكدوا انه غير مؤهل للنظر في جرائم حقوق الانسان لكونه جزءا من منظومة الاستبداد. فدعا هذا الشق لبعث محاكم خاصة للنظر في انتهاكات حقوق الانسان ومحاكمة المتهمين فيها.
– رأي ثان مثّله بعض زملائهم بالمجلس وطيف واسع من الحقوقيين الذين تمسكوا بضرورة أن تحترم المحاسبة في قانون العدالة الانتقالية شروط المحاكمة العادلة وان تتم بالتالي امام قضاء الحق العام بوصفه القاضي الطبيعي.
وكانت فكرة الدوائر المتخصصة التي تندرج ضمن محاكم الحق العام يؤمنها قضاة ثبتت عدم مشاركتهم سابقا في محاكمات سياسية الحل الذي ضمن التوفيق بين هذين الرأيين.
وتأكد هذا التوجه مجددا بمناسبة اصدار القانون عدد 13 لسنة 2014 المتمم لقانون العدالة الانتقالية. وقد شكل الالتجاء لهذه الدوائر المخرج من حالة من الاحتقان السياسي داخل المجلس التشريعي التي اعقبت احكام محكمة الاستئناف العسكرية الدائمة بتونس في قضايا شهداء وجرحى الثورة. فقد عد طيف هام من اعضاء المجلس الوطني التأسيسي آنذك تلك الاحكام مخيبة لتطلعاتهم في المحاسبة والقصاص للشهداء، فطرحوا فكرة بعث محاكم استثنائية بقضايا شهداء وجرحى الثورة، قبلما يتم اقناعهم بالعدول عن ذلك لمخالفتها للدستور. وتوصل المجلس التشريعي بعدئذ الى ضرورة تفعيل الدوائر المتخصصة التي نص عليها قانون العدالة الانتقالية وانتظار معاودة نظر الدوائر المتخصصة في تلك الجرائم لتحقيق عدالة تحظى بالقبول أو على الاقل لا تقابل قراراتها بالتشكيك.
صاغ المشرع التونسي تصوره للدوائر المتخصصة بجرائم انتهاكات حقوق الانسان في قانونين: أولهما قانون العدالة الانتقالية والذي استحدث تلك الدوائر وحدد اختصاصها الحكمي وثانيهما القانون المكمل له والذي تدخل ليضبط اجراءات النظر فيها واتى الامر الترتيبي ليجسد تلك الدوائر. ومن شأن النصوص القانونية المتعاقبة أن تسمح بالبحث في درجة نضج فكرة التخصص القضائي في البناء التشريعي توصلا لطرح السؤال حول نجاح المشرع في تحقيق التخصص دون الوقوع في بعث محاكم استثائية.
يكرسالفصل 108 من الدستور التونسي "مبدأ التقاضي على درجتينكأحد مقومات المحاكمة العادلة" فيما يمنع الفصل110 منه "ارساء قواعد اجرائية خاصة تمس من قواعد المحاكمة العادلة". ورغم ان قانون العدالة الانتقالية صدر بتاريخ 24-12-2013أي قبل المصادقة على الدستور التونسي الحاصلة في 26-1-2014، فان صدور هذا القانون عن ذات المجلس التأسيسي يفرض نظريا على الأقل أن تكون أحكامه منسجمة مع المبادئ الدستورية. ونجد في الفصل السابع من قانون العدالة الانتقالية تأكيدا لهذا الانسجام، اذ ارسى هذا الفصل مبدأ عاما يقضي بوجوب خضوع اجراءات المحاسبة سواء كانت قضائية او ادارية للاجراءات القانونية المعمول بها، بما يعني ان المحاكمات التي تتم امام الدوائر المتخصصة يجب ان تلتزم بالاجراءات القانونية التي تضمن قواعد المحاكمة العادلة وألا تنتهي الى ارساء قواعد استثنائية تخرقها.
غير ان هذا الاختيار المعلن للمشرع تدخل عليه احكام الفصل الثامن من قانون العدالة الانتقالية لبسا تكثفه أحكام الفصل الثالث من القانون المكمل لقانون العدالة الانتقالية بشكل يؤكد الفشل التشريعي في انضاج فكرة التخصص. فالفصل الثامن من قانون العدالة الانتقالية اكتفى ببعث الدوائر المتخصصة بالمحاكم الابتدائية الممتازة اي تلك التي توجد بمقار محاكم استئناف دون ان يبعث ما يناظرها من قضاء متخصص على مستوى قضاء التحقيق ودائرة الاتهام ودون ان ينص على بعث دوائر استئنافية جنائية متخصصة في جرائم انتهاكات حقوق الانسان ولا دوائر تعقيبية لها ذات التخصص. كما ان الالتزام التشريعي باحترام اجراءات المحاكمة العادلة يصبح موضع تساؤل جدي بالنظر لاحكام الفصل الثالث من القانون المكمل لقانون العدالة الانتقالية عدد 17 لسنة 2014 والذي يجيز تعهد الدائرة الجنائية المتخصصة باحالة من النيابة العمومية، وهو اجراء يتناقض مع قواعد القانون الجزائي التونسي الذي يحصر صلاحية الاحالة على الدوائر الجنائية لقضاء دائرة الاتهام او لمحكمة التعقيب التي تتعهد بالنظر في طعن في قرار دائرة الاتهام.
وبذلك، منع غياب التصور الكامل للمحاكمة الجنائية واضعي قانون العدالة الانتقالية من صياغة نصوص قانونية تؤسس لقضاء متخصص في المجال يمكن ان يضمن محاكمة جرائم الاخلالات الجسيمة لحقوق الانسان وفق مبادئ المحاكمة العادلة. وتحتاج الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية للتخلص من العلات التي اورثها اياها الارتجال في سن القوانين لمراجعة نظامها القانوني بشكل يطورها ويمنع تحولها الى محاكم استثنائية قد يصبح تعهدها بقضايا الفساد وانتهاكات حقوق الانسان مظهرا من مظاهر انتهاكات حقوق الانسان.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.