“هل تُدين حماس؟” بهذا السؤال المبتذل استُهلَّت العديد من المقابلات في وسائل إعلام دول الشمال السياسي، لا سيّما متى استضافت محاورًا عربيًّا أو مسلمًا عقب أحداث 7 أكتوبر. هو سؤال بلاغي، لا أكثر. عليك أن تُدين حماس وإلّا قد تكون عرضة لاتّهامك بتبرير الإرهاب والعنف أو الدفاع عنهما. انتهى الحوار. لا مجال للعودة إلى سياق الاحتلال والحصار، كأن تدين حماس ولكن… إذ إنّ هذه الــ”لكن” محرّمة في النقاش العام. فبعد حصول عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر، وبالتزامن مع قصفها لغزّة وإعلانها الحرب للقضاء على حماس، شنّت إسرائيل حربًا موازية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بهدف تعزيز الدعم الدولي لها في عدوانها على غزّة، والذي سرعان ما برزتْ وحشيته غير المسبوقة فضلًا عن أهدافه الإبادية والجيوسياسية.
تمثّلت الحرب الموازية في محاولة إسرائيل فرض سردية ثنائية القطب وبسيطة على العالم، مفادها أنّه اعتُدي عليها بشكل مُفاجئ وغير مُبرَّر ووحشي من قبل إرهابيين، وبالتالي لها الحقّ في الدفاع عن نفسها، وأنّها بذلك إنّما تقوم بالدفاع عن العالم المتحضّر ضدّ ما وصفه أحد كبار مسؤوليها بالـ”الحيوانات البشرية” أو البربرية [1]. ولهذا الغرض تمّ تصوير 7 أكتوبر كالنقطة “صفر” للصراع، وكأنّما التاريخ بدأ حينها، وكأنما عملية “طوفان الأقصى” حادث مجرّد من النطاق الزمني-المكاني وشاذّ عنه، إذ إنّ فظاعة ما ارتكبته حماس تحجب أيّ اعتبار آخر، لا سيّما سياق الأحداث وتاريخ الصراع في المنطقة. بالتالي، تُصبح أيّ محاولة لفهم سياق 7 أكتوبر، حتّى ولو ترافقت مع إدانة حماس أو انتهت إليها، بمثابة اصطفاف مع الطرف الآخر أو تبريرٍ له، وصولًا إلى حدّ اعتباره معاديًا للسامية أو داعمًا للإرهاب تقتضي إدانته بحدّ ذاته.
على هذا الأساس، بَنَت إسرائيل إستراتيجية سرديّتها الحربية الراهنة. فبالإضافة إلى استخدامها أدوات دعاية الحرب التقليدية (من ضمنها بروباغندا الفظاعة والأخبار الكاذبة)، حاولت إرساء معادلة التفكير المحرّم في النقاش العام (وفق المفهوم الألماني له: Denkverbot) وصولًا إلى قمع حرِّية التعبير في كلّ ما يتّصل بهذه المسألة. هي إستراتيجية سردية ثلاثية المحاور تؤدّي إلى تغليب السردية الإسرائيلية على أيّ اعتبار آخر، ودرء أيّ نقد محتمل لإسرائيل أو أيّ محاولة لمحاسبتها أو لوضع ضوابط لمشروعها.
التفكير المحرّم لحجب السياق أو الحقيقة
هجوم حماس “لم يأتِ من فراغ” [2]. بهذه العبارات من مداخلته أمام مجلس الأمن في 26 تشرين الأوّل، حاول أمين عام الأمم المتّحدة، أنطونيو غوتيريش، إدخال بعض التوازن على كيفيّة مقاربة أحداث 7 أكتوبر والتذكير بما يواجهه الشعب الفلسطيني منذ عقود من “احتلال خانق” واستيطان وعنف من قبل النظام الإسرائيلي. لكن سرعان ما أتَت ردّة الفعل الإسرائيلية عليه على لسان وزير خارجيتها، إيلي كوهين، الذي ألغى اجتماعه المقرَّر مع غوتيريش، مبرّرًا الأمر بأنّه “لا توجد مساحةٌ لمقاربة متوازنة” في هذه المسألة وأنّه “يجب محو حماس من على وجه الأرض”. من ناحيته، دعا السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتّحدة، جلعاد أردان، الأمين العام إلى الاستقالة متّهمًا إيّاه بتبرير مجزرة 7 أكتوبر (والإرهاب إذّاك)؛ في المقابل، اعتبر داني دايان، رئيس ياد ڤاشيم (Yad Vashem)، مركز الأبحاث الإسرائيلي في أحداث الهولوكوست ولتخليد ذكر ضحاياها، أنّ من يبحث لفهم أحداث 7 أكتوبر أو يبحث عن سياق تبريري ولا يُدين حماس، يرسب في الاختبار، وعلى هذا الأساس “رسب الأمين العام [في] الاختبار”، علمًا أنّ كلمات غوتيريش هذه أتت بعد إدانته الواضحة لما قامتْ به حماس في 7 أكتوبر [3].
ردّة الفعل الإسرائيلية على كلام غوتيريش هذه تتّسق مع إستراتيجيتها في تجريد أحداث 7 أكتوبر من السياق الزمني-المكاني في اتّجاه تحريم التفكير فيه (Denkverbot) وإرساء معادلة ثنائية القطب على النقاش العام: إمّا أنت معنا بالكامل أو ضدّنا بالكامل. إدانة حماس لا تكفي، المطلوب هو دعم مجرّد وغير مشروط لما تفعله أو ستفعله إسرائيل ردًّا على طوفان الأقصى.
ومن دون التقليل من نجاح هذه الإستراتيجية في الهيمنة على الخطاب العام في دول الشمال السياسي (أقلّه في الفترة الأولى من العدوان الإسرائيلي)، فإنّ عبارة غوتيريش وردّة الفعل الإسرائيلية عليها شكّلت مناسبة لتعميق النقاش بشأن كيفية مقاربة 7 أكتوبر. هذا ما نستشفّه من البيان الصادر عن منظّمة هيومان رايتس ووتش التي أثنت على أهمِّية التذكير بأنّ 7 أكتوبر لم تحصل في فراغ، معتبرةً أنّ التذكير بالسياق ومسؤولية إسرائيل في المشروع الاستيطاني-الاستعماري مهمّ جدًّا لفهم ما يحصل، من دون أن يرشح ذلك عن أيّ تبرير لأيّ عمل شنيع (Atrocities) قد ارتكب أو سيرتكب من أيّ من أطراف النزاع. وهذا أيضًا ما أكّدت عليه المقرّرة الخاصة للأمم المتّحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فرانشيسكا ألبانيز، في تصريحها أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة في دورتها ال 78، معتبرةً أنّ “جحيم اليوم (أي عملية حماس في 7 أكتوبر) لا يمكن أن يعتّم على عنف العقود الماضية”، إذ إنّ معالجة الأزمة “تحتّم علينا فهم ما أدّى إليها. هذا لا يعني التبرير أو التخفيف من فظاعة الجرائم التي ارتكبت بحقّ المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر، بل هذا الأمر يدعونا إلى حسن مواجهة الأعمال الشنيعة في سياق ما سبقها”.
ويلتقي هذان الموقفان إلى حدّ ّبعيد مع رأي جوديث باتلر (Judith Bulter) حول بوصلة الحداد والمقاربة الأخلاقية لإدانة العنف [4]. هذا الرأي عبّر عن استغرابٍ شديد إزاء الحؤول دون فهم العمل الذي ندينه، كأنّما المعرفة أصبحت تشكّل بحدّ ذاتها مدخلًا إلى نسبية القيم، وتخفّف من قدرتنا على الحكم، أو كأنّما التقييم النقدي والمستنير يؤدّي إلى الفشل الأخلاقي والتواطؤ مع ارتكاب جرائم شنيعة. وقد خلص هذا الرأي إلى أنّ فهم السياق لا يهدف الى تبرئة حماس أو عقلنة العنف وتبريره، إنّما هي عملية فكرية ضرورية لإيجاد حلول خارج دوّامة العنف. أمّا مطالب الإدانة الأخلاقية بمعزل عن السياق، فهي تعيد تدوير أشكال من الاستعمار العنصري الآيل إلى قراءة المسألة كصراع بين العالم المتحضّر (إسرائيل) والهمجية (الحيوانات البشرية)، وفق بتلر، بكثير من الاختزال.
لم تكتفِ إسرائيل والقوى الداعمة لها بالعمل على إخراج سياق الاحتلال والحصار وكل ما ارتكبته خلال العقود الماضية من مجال النقاش، إنّما عملت في الآن نفسه على تسويق المعلومات والآراء التي تتناسب مع مصالحها من دون أن تجد حرجًا في تسويق معلومات كاذبة قطعًا أو مضخَّمة في قراءة “بديلة” للواقع.
جوديث باتلر: هل المعرفة أصبحت مدخلًا إلى تنسيب القيم؟
البروباغندا الإسرائيلية: شيطنة حماس و… غزّة
يكاد يكون مُسلَّمًا به أنّ إسرائيل سارعت منذ الساعات الأولى بعد عملية طوفان الأقصى إلى نشر معلومات مُلفَّقة بشأنها. وقد بلغت درجة شيطنة حماس حدّ مقارنة هذه الأعمال بالمحرقة النازية، تمهيدًا لتسويغ التعامل مع حماس تمامًا كما تمّ التعامل مع النازية. وقد ضمنت إسرائيل نجاح هذه البروباغندا من خلال تواطؤ وسائل إعلام غربية سارعت إلى تكرار نشر هذه المعلومات من دون التدقيق في مصدرها أو صحّتها. ولم يُكشَف كذب المعلومات المنشورة إلّا لاحقًا وتدريجيًّا وبصورة مجتزأة. فالحرائق (بما يذكّر بالمحرقة) لم تتسبّب فيها حماس إنّما القوّات الإسرائيلية؛ وكذلك قتل عدد كبير من الإسرائيليين، وخصوصًا المدنيين منهم، وحرق وتدمير البيوت والسيارات[5]. وإذ أكّدت وسائل إعلامية إسرائيلية مثل هاآرتس (Haaretz) هذا المعطى، هُدِّدت بالمقاطعة وبسحب التمويل الدعائي الحكومي من قبل وزير الاتّصالات الإسرائيلي. يُضاف إلى ذلك كمّ من الأخبار الملفّقة والتي انتشرت بشكل واسع في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أخطرها الخبر المتعلّق بقطع المقاتلين الغزّاويين رؤوسَ 40 طفلًا في مستوطنة كفار عزّة [6]، والذي نقلته أوّلًا قناة i24 الإسرائيلية ليسارع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تبنّيه بعد تأكيد اطّلاعه على صور هؤلاء، قبل تراجع البيت الأبيض عن أقواله بعد افتضاح كذب المعلومة. في اتّجاه الشيطنة نفسه، عمدت إسرائيل إلى نعت حماس بالدواعش مستفيدة من تنامي الإسلاموفوبيا والتراكمات الحاصلة في الحروب المعلَنة ضدّ ما يُسمّى الإرهاب الإسلامي، وبخاصّة منذ 11 أيلول 2001. وليس أدلّ على ذلك من رواج توصيف 7 أكتوبر على أنّه “11 أيلول” الإسرائيلي، بل أفظع منه.
بروباغندا أخرى اعتمدتْها إسرائيل بشكل واسع لقصف أيّ هدف تريده في غزة، قوامها أنّ حماس تتّخذ من أهاليها “دروعًا بشرية”، وأنّها تحتمي بمنشآتها المدنية وضمنًا المستشفيات والمدارس، وصولًا إلى المزج التامّ بين أهالي غزّة وحماس كما نستشفّ من تصريحات الرئيس الإسرائيلي إسحق هارتزغ بأنّ الحرب هي ضدّ أمّة بأكملها، في توجُّه مؤدّاه إنكار إنسانية الفلسطينيين وزجّهم جميعًا في خانة الإرهاب المُثبَت بحدّ ذاته (self‑evident terrorism). وعليه، وفي ظلّ هذه البروباغندا، شهدنا تارةً قصف مجمّع سكني يقطنه مئات المدنيين بحجّة توافر معلومات عن تواجد مسؤول من حماس فيه، وطورًا إخلاء المستشفيات بل اقتحامها وتدميرها، وعلى الأقلّ وضعها خارج الخدمة، بحجّة أنّ حماس تستخدم أنفاقًا تحتها. وعمومًا، بدتْ تأكيدات إسرائيل كافية من أجل انتزاع مقبوليّة استهداف أيّ مُنشأة مهما بلغت درجة حمايتها دوليًّا، بل مهما بلغت فداحة الثمن الإنساني الناتج منه. وعليه، تمّ إخلاء كُبريات المستشفيات في شمال غزّة مع ترك عدد كبير من المرضى (ومنهم الأطفال الخدائج الذين تحلّلت جثامينهم الصغيرة على أسرّة أحد المستشفيات المستهدفة) لمصيرهم. وليس أدلّ على هذه البروباغندا من الفيديو الترويجي الذي بثّه الجيش الإسرائيلي والذي أظهر أسلحة وذخائر “اكتُشفت” داخل المستشفى، وهو أمر دحضتْه بعد إخلاء المستشفى عدد من وسائل الإعلام في الشمال السياسي.
تجلّت البروباغندا نفسها في مساعي تبرئة إسرائيل من جرائم عدوانها أو التخفيف من أثرها. هذا ما شهدناه بشكل خاص تبعًا لمجزرة المستشفى الأهلي العربي – المعمداني في 17 تشرين الأوّل، والتي لقِيَتْ استهجانًا شعبيًّا. كما شهدناه في إنكار مآسي الغزّاويين والتلميح إلى أنّ الإدارات العامة في غزّة (والتي تديرها حماس) تعمد إلى تضخيم أرقام الإصابات والضحايا بهدف استجرار الاستعطاف الدولي، وصولًا الى حدّ وصف هنانيا نفتالي هذا الأمر بـ“باليوود” (Pallywood)، في إيحاء منه بأنّ ما تنشره إدارة غزّة أشبه بالأفلام منه إلى الواقع.
ومن المهمّ التذكير أنه ما كانت البروباغندا الإسرائيلية لتنجح لولا الدور الذي لعبته الهاسبارا (הַסְבָּרָה) [9] في مختلف المؤسّسات الإسرائيلية والمؤسّسات الشريكة لها حول العالم (لعلّ أشهرها AIPAC في الولايات المتّحدة) ونفوذ النظام الإسرائيلي إذّاك في وسائل الإعلام الحليفة أو المملوكة من إسرائيليين، لا سيّما في دول الشمال السياسي، مثل قناة BFMTV الإخبارية الفرنسية المملوكة من صاحب الأعمال الفرنسي-الإسرائيلي، باتريك دراحي (Patrick Drahi)، وهو نفسه مالك قناة i24 الإسرائيلية المذكورة أعلاه. انعكس هذا على أداء وسائل الإعلام المنحاز تمامًا للسردية الإسرائيلية وعلى تراجع معايير الموضوعية والمهنية في تغطيتهم الأحداث، لا بل إنّ هذا الواقع يتقاطع أيضًا مع خصخصة قسم آخر من الإعلام والسيطرة السياسية عليه، وتداعيات هذا الأمر على مستوى المحتوى والخطّ التحريري [10].
المحور الثالث: تقييد حرِّية التعبير صونًا للسردية الإسرائيلية:
تبقى إستراتيجية إسرائيل السردية عرضة للتفتُّت، لا سيّما في ظلّ الثورة المعلوماتية والفكرية التي أسفرت عن انتشار منصّات التواصل الاجتماعي الافتراضي. وعليه، وجدت إسرائيل نفسها مضطرّة لإنجاح بروباغنداها إلى استدعاء تعاون حلفائها وداعميها لتضييق مجال حرِّية التعبير وابتداع وسائل جديدة لإسكات الأصوات المعارضة والناقدة لها، فضلًا عن استخدام ما لديها من نفوذ مالي وسياسي لترهيب هذه الأصوات عند الاقتضاء. وقد تجلّى هذا الأمر على أوجه عدّة:
– الوجه الأوّل: الحجب المستتر (Shadow Banning):
هو آليّة الحدّ من ظهور مستخدم ما في المساحة الافتراضية العامة وحجب وصول منشوراته إلى مستخدمين آخرين. وهو أمر طال بشكل خاص الحسابات النقدية لإسرائيل أو المندّدة بفظاعة حربها على غزّة. ويسجّل هنا بشكل خاص موقف المفوّضية الأوروبية التي أرسلت في 12 تشرين الأوّل (5 أيّام فقط بعد بدء الحرب) طلبًا رسميًا إلزاميًّا إلى منصّة X للحصول على معلومات حول كيفية معالجة المنصّة لخطاب الكراهية والمعلومات المضلّلة والمحتوى المتعلّق بالإرهاب إزاء حرب إسرائيل على غزّة (عمليًّا لحجب الحسابات الداعمة للغزّاويين تحت ذريعة دعمها للإرهاب)، مستعينة بقانون الخدمات الرقمية (Digital Services Act) الصادر في العام 2022. واللافت أنّ المفوّضية استخدمت هذا النصّ لتحقيق غاية وردت عرضًا فيه وهي آلية الحجب المستتر، في موازاة تجاهلها الغاية الأساسية منه الكامنة في حماية المساحات الافتراضية وإلزام مواقع التواصل الاجتماعي باحترام الحقوق الأساسية، لا سيّما إجراءات المحاكمة العادلة.
– الوجه الثاني: منع التظاهرات الداعمة للغزّاويين:
مثلما حصل في عدّة بلدان أوروبية في مقدّمتها فرنسا وألمانيا والمملكة المتّحدة وسويسرا وغيرها. ولإقرار مثل هذه الإجراءات، المخالفة لحرِّية التظاهر وللعهود الدولية (لا سيّما المادّة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتّفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان)، تمّ التذرّع بحجج مختلفة مثل معاداة السامية أو دعم الإرهاب أو الإخلال بالنظام العام. وقد سجّلت في هذا المضمار انزلاقات فادحة، كأن يُعَدّ شعار “فلسطين حرّة من النهر إلى البحر” بمثابة دعوة إلى إبادة اليهود [15]، بالرغم من تذكير منظّمات حقوقية [16] بالحكم الصادر عن محكمة الاستئناف في أمستردام في 15 آب 2021 والتي اعتبرت أنّ الشعار لا يستهدف اليهود كأقلِّية عرقية أو دينية. كما تمّ منع رفع الأعلام الفلسطينية أو حتّى لبس الكوفيّة الفلسطينية في بعض الدول، وكأنّما أصبحا يمثّلان رموز الإرهاب أو كأنّما أصبح رفض الاحتلال أو مجرّد التضامن مع الشعب الفلسطيني أو المطالبة بوقف إطلاق النار والتضامن مع غزّة مناصرة للإرهاب ودعمًا له ودعوة إلى إبادة اليهود.
– الوجه الثالث: إقصاء الأصوات الفلسطينية من المساحات العامة:
لعلّ أكثر الأمثلة رمزية هنا هو إلغاء حفل 20 تشرين الأوّل، الذي كانت ستُمنح فيه عدنية شبلي جائزة ليتبروم الألمانية المخصَّصة لكاتبات من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والعالم العربي لروايتها “تفصيل ثانوي“ التي تعرّي عدوانية إسرائيل عند نشأتها ضدّ سكّان المكان الأصليين كما في زمن الاحتلال. وقد برّر منظّمو المعرض إلغاء الحفل بـ”الإرهاب الهمجي الذي شنّته حماس على دولة إسرائيل”، في موازاة إعلانهم تخصيص “مساحة المعرض للأصوات الإسرائيلية” [17].
وقد امتدّ هذا النوع من الإقصاء أيضًا إلى الأوساط الأكاديمية، مثلما حصل مع المحامي ربيع إغبارية الذي كان من المفترض أن ينشر بحثًا له حول الوضع القانوني في فلسطين تحت عنوان “النكبة المستمرّة” في مجلّة هارفرد القانونية (Harvard Law Review)، فإذ به يُفاجأ بقرار من إدارة التحرير في 18 تشرين الثاني بعدم نشر دراسته من دون تبرير وتبعًا لما أشارت إليه إدارة المجلّة من جدال داخلي لم تُشارك معه تفاصيله بوضوح، فتمّ نشر البحث في مجلّة The Nation الإلكترونية.
– الوجه الرابع: حظر حركة مقاطعة إسرائيل [18]:
أثبتت نجاح آلية عملها منذ سنوات، لدرجة اعتبارها من قبل إسرائيل منذ 2015 تهديدًا إستراتيجيًّا من الدرجة الأولى وعملًا معاديًا للسامية. وفي حين تفاقم نشاط الحركة حول العالم بعد 7 أكتوبر مشكّلًا وسيلة فعّالة للتنديد بحرب إسرائيل والضغط عليها، جهدت الماكينة الإسرائيلية في الشمال السياسي لحظر حركة المقاطعة. وهذا بالفعل ما أمكن مشاهدته في بعض البلدان الأوروبية مثل ألمانيا، حيث أصدر البرلمان في العام 2021 قرارًا أدان فيه حركة المقاطعة باعتبارها معادية للسامية، مُعتمدًا التعريف العملي لـ”معاداة السامية” للتحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة الذي يمزج بين معاداة إسرائيل ومعاداة السامية. وهو حظر سُجّل أيضًا في عدد من الولايات الأميركية وفي المملكة المتّحدة مؤخّرًا، حيث ناقش البرلمان البريطاني في تمّوز 2023 مشروع قانون يحظر على المجالس المحِّلية والجامعات والهيئات العامة الأخرى مقاطعة الدول الأجنبية، وذلك تصدّيًا لتوجُّهٍ إلى سحب الاستثمارات من صناديق إسرائيلية. وقد خصّ مشروع القانون بالذكر إسرائيل وحدها تأكيدًا على سعيه إلى حماية مختلف وحداتها الاستيطانية في الأراضي المحتّلة[19]. كما يُشار إلى أنّه، وفي حين كانت محكمة التمييز الفرنسية قد اعتبرت في العام 2015 أنّ ممارسات حركة المقاطعة تشكّل عملًا يحضّ على التمييز، حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في العام 2020 ضدّ فرنسا تبعًا لطعن قُدّم أمامها ضدّ الحكم المذكور، على اعتبار أنّ هذا الأمر يشكّل مخالفة لممارسة حرِّية التعبير، الأمر الذي اضطرّ محكمة التمييز الفرنسية إلى العدول عن توجُّهها السابق.
– الوجه الخامس: التهديد الوظيفي والصرف من الخدمة:
وهو أمر تمّ تسجيله في مختلف المجالات والمستويات، لا سيّما بعد 7 أكتوبر، وندّد به عدد من مقرّري الأمم المتّحدة الخاصّين. فبالإضافة إلى خسارة بعض المشاهير المتضامنين مع الغزّاويين مشاريع وعقودًا لهم بسبب مواقفهم، مثلما حصل مع بعض الرياضيين وكلّ من الممثّلة الإباحية السابقة (لبنانية الأصل) ميا خليفة والممثّلة الأميركية سوزان سارندون (Susan Sarandon) وعارضة الأزياء العالمية من أصل فلسطيني بلّا حديد (Bella Hadid)، تمّ صرف عدد من الأشخاص، لا سيّما صحافيين، من مناصبهم بسبب منشورات لهم متضامنة مع الفلسطينيين. وهذا ما حصل مع إهراء الأخرس (كندية من أصل فلسطيني) التي تمّ صرفها من Global News في كندا، ومايكل أيزن (Michael Eisen) رئيس تحرير المجلّة الأكاديمية العلمية eLife والكاتب في مجال الرياضة في مجلّة PhillyVoice جاكسون فرنك (Jackson Frank). من ناحية أخرى، هُدِّد عدد آخر في وظائفه بسبب تضامنه أو احتمال تضامنه مع الغزّاويين أو القضية الفلسطينية، وهو أمر تمّ تسجيله بشكل خاص في فرنسا مع الباحثين المتخصّصين بمسائل الشرق الأدنى، فيما دُفع بعضهم إلى الاستقالة، على غرار ما حصل مع رئيسة جامعة بنسلفانيا الأميركية ليز ماغيل بعد خضوعها مع رؤساء جامعات أميركية أخرى لاستجواب في الكونغرس الأميركي.
– الوجه السادس: تحوير مفهوم معاداة السامية:
وهو أمر حصل من خلال الخلط بين اليهود وإسرائيل، وصولًا إلى الخلط بين معاداة السامية ونقد إسرائيل. وهذا تحديدًا ما نقرأه مثلًا في تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA) لمعاداة السامية (غير المُلزم قانونًا) والذي تسترشد به المفوّضية الأوروبية، بحيث يضمّ: “استهداف دولة إسرائيل، في تصوّرها كجماعة يهودية” أو “الادّعاء بأنّ وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري” أو “المقارنة بين سياسات إسرائيلية معاصرة والنظام النازي” إلخ. وقد توجّه الخطاب الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر نحو إلغاء أيّ التباس حول هذا الأمر، معتبرًا أيّ نقد لإسرائيل، مهما كانت النية من ورائه، بمثابة عمل معادٍ للسامية بحدّ ذاته، وهو ما ردع العديد من الصحافيين والمحلّلين والمفكّرين حول العالم من إبداء آرائهم بحرِّية في النقاش العام.
– الوجه السابع: إسرائيل فوق المساءلة بقوّة القانون، والعرب والمسلمون مدانون حتّى إثبات العكس:
وهو أمر التُمِس بشكل خاص في ألمانيا وفرنسا جرّاء مساعي بعض السياسيين إلى طرح مشاريع قوانين تحصّن إسرائيل من النقد في الظاهر فيما تعزّز التمييز العنصري تجاه العرب والإسلام. ففي فرنسا أُعيد طرح اقتراح قانون (بعدما كان قد تمّ التداول بموضوعه في العام 2019)، لمعاقبة معاداة الصهيونية أمام مجلس الشيوخ (من ضمنها معاقبة أيّ منازعة بوجود دولة إسرائيل وتحقير دولة إسرائيل) [21]، وهو منحى تجريمي سُجِّل أيضًا في الولايات الأميركية المتّحدة. أمّا في ألمانيا، فقد دعا الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير (Frank‑Walter Steinmeier) في 8 تشرين الثاني الألمان من أصل عربي إلى أخذ مسافة واضحة من معاداة السامية ومن منظّمة “حماس“، وكأنما يطلب منهم براءات ذمّة بغية التمييز التصنيفي بين “العربي الجيّد” و”العربي السيِّئ”، في موقف واضح بعنصريته غير المسبوقة إزاء العرب، كما أعلن البرلمان الألماني مناقشته مشروعَ قانون يؤول إلى فرض شروط جديدة للحصول على الجنسية الألمانية، أهمّها الالتزام بحق إسرائيل بالوجود مقابل تجريم نكران هذا “الحقّ”. عمليًّا، تؤول هذه الخطوات في بلدان الشمال السياسي إلى مأسسة تطويع الشعوب من أصل عربي أو إسلامي وإخضاعهم لمبايعة إسرائيل بمعزل عن أيّ اعتبار آخر في الظاهر، فيما تعزّز السياسات العنصرية ضدّهم في جوّ متفاقم من رهاب اللاجئين (واستطرادًا العرب والإسلام عمومًا) مقابل تفشٍّ غير مسبوق (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) للحركات السياسية المتطرّفة والفاشية، لا سيّما في أوروبا.
– الوجه الثامن: حجب الصحافة المعارضة وقتل الصحافيين أو التهديد بالقتل:
وهو الوجه الأخطر من معاقبة الاعتراض على السردية الإسرائيلية. فمنذ 7 أكتوبر، استهدفت إسرائيل العشرات من الصحافيين، أكان في غزّة أو خارجها (وصولًا إلى الحدود الجنوبية اللبنانية)، فيما هددت بإقفال محطّة الجزيرة (بعدما طُلب منها التخفيف من حدّة أخبارها)، وقصفت مكاتب وكالة فرانس برس (AFP) وقتلت عائلة الصحافي في الجزيرة، وائل الدحدوح. كلّ ذلك، وسط غياب أيّ إدانة جدِّية من المجتمع الدولي، لا سيّما دول الشمال السياسي، وفي مخالفة صارخة لحرِّية الصحافة ودورها الأساسي والرائد في تغطية الحروب. وقد وصل ضيق صدر الحكومة الإسرائيلية حيال الصحافة حدّ التلويح بمعاقبة الصحافة الإسرائيلية نفسها على خلفية تغطية أحداث 7 أكتوبر. هذا ما نستشفّه من تهديد وزير الاتّصالات الإسرائيلي، شلومو كارهي (Shlomo Karhi)، هاآرتس (Haaretz) بسحب التمويل الدعائي الحكومي المخصّص لها.
تمّ زجّ الفلسطينيين في خانة الإرهاب المُثبَت بحدّ ذاته
نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص بالعدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لقراءة العدد بصيغة PDF
وهو ملف مشترك مع مجلة تونس العدد 28
[1] في طليعتهم وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت.
[2] Hamas attack ‘didn’t happen in a vacuum’.
[3] Amy Teibel, “Israel accuses UN chief of justifying terrorism for saying Hamas attack ‘didn’t happen in a vacuum’”, Associated Press, 26 October 2023.
[4] Judith Butler, “The Compass of Mourning”, London Review of Books, Vol. 45, No. 20, 19 October 2023.
[5] Max Blumenthal, “October 7 testimonies reveal Israel’s military ‘shelling’ Israeli citizens with tanks, missiles”, October 27, 2023.
[6] عبرنة لـ”قرية غزّة” أو “كفر غزّة”.
[7] سلام في العبري.
[8] Bearing Witness to the October 7th Massacre.
[9] هي عمليًّا إستراتيجية التواصل الإسرائيلية والبروباغندا الإسرائيلية عمل مختلف مؤسّسات رسمية إسرائيلية، أهمّها وزارة العلاقات الدبلوماسية العامة.
[10] ألفة لملوم، حوار مع ألان غريش حول الحرب ضدّ غزّة، المفكّرة القانونية، 31/10/2023.
[11] كلام بنيامين نتنياهو نفسه.
[12] نور كلزي، دروس دامية في قوانين الحرب من غزّة (1): ما يحصل ليس دفاعًا عن النفس، المفكّرة القانونية، 26/10/2023.
[13] Twitter سابقًا.
[14] صادر من قبل البرلمان الأوروبي ومجلس أوروبا في تشرين الأوّل 2022 تحت الرقم 2065/2022 برعاية رئيسة المفوّضية الأوروبية الحالية أورسولا فون دير لاين (Ursula von der Leyen).
[15] From the river to the sea, Palestine will be free.
[16] European Legal Support Centre.
[17] زينة الحلبي، لمَ القلق من تفصيل ثانوي؟، الجمهوريّة، 21 تشرين الأوّل 2023.
[18] حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
[19] Pietro Stefanini, “Outlawing BDS and the Repression of Solidarity with Palestine”, The Legal Agenda, 09/11/2023.
[20] International Holocaust Remembrance Alliance (IHRA)، هي منظّمة حكومية دولية تضمّ عدّة بلدان، من بينها: الولايات المتّحدة وأستراليا وكندا ومعظم الدول الأوروبية.
[21] ووفق الاقتراح، الذي يستمدّ تعريفاته من تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة لمعاداة السامية، تعاقب بسنة حبس وبغرامة 45.000 يورو المنازعة بوجود دولة إسرائيل، ويعاقب بسنتَي حبس وبغرامة 75.000 يورو تحقير دولة إسرائيل، فيما تصل العقوبة إلى خمس سنوات سجن وغرامة 100.000 يورو في حال أدّى هذا الأمر إلى أفعال كراهية وعنف تجاه دولة إسرائيل.